الذكاء الاصطناعي في ساحات المعارك.. سيناريوهات مرعبة

جنود آليون على دبابة وهم يرتدون نظارات الواقع الافتراضي - Tetra images RF
جنود آليون على دبابة وهم يرتدون نظارات الواقع الافتراضي - Tetra images RF
القاهرة -محمد منصور

في عام 1956 اجتمع 11 من علماء الرياضيات لفترة امتدت لثمانية أسابيع في ولاية نيو هامبشاير الأميركية، بعد أن وجّهت لهم كلية "دارتموث" الدعوة لحضور مؤتمر مُخصص لوضع تصور للآلات في المستقبل. كان المؤتمر حاشداً، وفيه تمت صياغة مصطلح جديد تماماً.. الذكاء الاصطناعي.

يُمكن إرجاع محاولات التفكير الجادة في وجود "ذكاء اصطناعي" إلى الفلاسفة اليونانيين، الذي حاولوا وصف التفكير البشري كنظام "رمزي" ينفصل عن العمليات الفسيولوجية التي يُنفذها الجسم. وطيلة عقود، دأب الباحثون والمفكرون والأدباء على صياغة أوصاف لما سيكون عليه كائن اصطناعي يُفكر بصورة مستقلة، معتمداً على خبرات تتراكم في دوائر من سيليكون.

غير أن الوصول لخوارزميات من شأنها "التفكير" و"اتخاذ القرار" لم يكن أمراً سهلاً. فحتى بعد مؤتمر "دارتموث"، دخل مجال الذكاء الاصطناعي "شتاءً طويلاً" استمر من عام 1974 حتى 1980 حين قررت الحكومة البريطانية تمويله كوسيلة للتنافس في تقنية جديدة لا يعرف "اليابانيون" عنها شيئاً.

والآن، وبعد مرور أكثر من 60 عاماً على الحدث التأسيسي الأول الذي أسس لمصطلح "الذكاء الاصطناعي"، أصبحت تلك "التقنيات" ملء السمع والبصر. إذ تداخلت مع العديد من المجالات في حياتنا.. بداية من الصحة وانتهاءً بالتسليح.

وتتحدث تقارير اليوم عن استخدام تقنيات الذكاء في الحرب الدائرة بين أرمينيا وأذربيجان، والتي قُتل فيها نحو 5 آلاف شخص حتى الآن. فكيف يُمكن أن يغير الذكاء الاصطناعي مستقبل الحروب؟

قيادة الحروب الكبيرة

يُعد الذكاء الاصطناعي من بين العديد من التقنيات الساخنة التي ستغير وجه الحرب لسنوات قادمة. تكثر المقالات التي تصف إمكانيات تلك التقنية وتحذر أولئك الذين يتأخرون في سباق الذكاء الاصطناعي.

في الولايات المتحدة، أنشأت وزارة الدفاع الأميركية مركز الذكاء الاصطناعي المشترك، في تعاون مع عدد من الجامعات على أمل الفوز بتلك المعركة. وتقول الرؤى العلمية إن الذكاء الاصطناعي سيُمكن الأنظمة المستقلة القتالية من تنفيذ المهام وأتمتتها، واتخاذ قرارات في الميدان أثناء القتال، وهو أمر "يبدو مرعباً" على حد قول ديفيد سي مارتن، العميد المشارك في البحوث والمتخصص في تقنيات الذكاء الاصطناعي بجامعة "ديلاور" الأميركية.

طائرة بدون طيار خلال معرض الأسلحة الدولي للمعدات الأمنية الدفاعية في لندن، سبتمبر 2013 - REUTERS
طائرة بدون طيار خلال معرض الأسلحة الدولي للمعدات الأمنية الدفاعية في لندن، سبتمبر 2013 - REUTERS

يقول مارتن في تصريحات لـ"الشرق" إن قدرات الذكاء الاصطناعي "تتطور بشكل سريع"، إذ تقوم عشرات المعامل والجامعات والمؤسسات الحكومية والخاصة والعسكرية على السواء بالعمل لتحقيق طفرة في ذلك المجال، وتشمل تلك الطفرات عدة مجالات على رأسها بالطبع -بحسب مارتن- ما يتعلق بالأمور العسكرية.

إلى الآن، لم تتطور تقنيات الذكاء الاصطناعي لـ"قيادة الحروب الكبيرة"، بحسب الباحث المتخصص في التعلم الآلي بجامعة ويسكونسن ماديسون الأميركية، إيان هاتشينز، الذي صرح لـ"الشرق"، بأنه "يمكن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي الحالية في المهام العادية من قبيل المراقبة في البيئات المتنازع عليها، أو الضربات السريعة باستخدام الطائرات المُسيرة آلياً بشكل محدود للغاية، لكن المستقبل قد يُغير من ذلك الأمر بشكل كُلي".

فاعلية غير مكتملة

تتطور قدرات الذكاء الاصطناعي بسرعة فائقة، والأبحاث العلمية المكثفة في الأوساط الأكاديمية والصناعية والعسكرية ستحتاج قريباً إلى وقت تدريب أقصر للأنظمة، مع نتائج أفضل بشكل متزايد، كما تشير إلى ذلك ورقة بحثية على الموقع الرسمي لمعهد "الحرب الحديثة" في ويست بوينت.

وتُشير الورقة ذاتها إلى أن الذكاء الاصطناعي فعال في مهام معينة، مثل التعرف على الصور والترجمة، وتقول إن العديد من الأنظمة المصممة لهذه المهام موجودة في ميادين القتال اليوم وتنتج نتائج جيدة جداً.

ورغم تطوره الكبير في عدد من المجالات، يعاني الذكاء الاصطناعي من نقص شديد في الإنجاز مقارنة بالمستوى البشري في مجالات أخرى.

تتضمن بعض هذه المجالات العمل مع سيناريوهات لم يسبق للذكاء الاصطناعي رؤيتها، كفهم سياق النص في حالة التعامل مع النصوص (فهم السخرية على سبيل المثال) والأشياء، وتعدد المهام (أي القدرة على حل المشكلات متعددة الأنواع)؛ إذ يتم تدريب معظم أنظمة الذكاء الاصطناعي اليوم على القيام بمهمة واحدة، والقيام بذلك فقط في ظل ظروف محددة للغاية. على عكس البشر، لا تتكيف أنظمة الذكاء الاصطناعي بشكل جيد مع البيئات والمهام الجديدة.

"وهذا هو ما يجعل الأمر خطيراً للغاية ومرعباً إلى أقصى درجة حال استخدامها في الحروب"، كما يقول مارتن في تصريحاته لـ"الشرق".

تحديات الذكاء العاطفي

تتحسّن نماذج الذكاء الاصطناعي يومياً في العديد من التطبيقات، إذ بات يمكن لأداء هذه الأنظمة أن يجعلها مفيدة جداً لمهام مثل تحديد دبابة قتال رئيسية من طراز T-90 في صورة القمر الصناعي، وتحديد الأهداف عالية القيمة في حشد من الناس باستخدام تقنية التعرف على الوجه، وترجمة النصوص مفتوحة المصدر، وفكّ الشفرات، وإنشاء نصوص لاستخدامها في عمليات المعلومات.

يتفوق الذكاء الاصطناعي أيضاً في مجالات مثل: اكتشاف العيوب، وأنظمة التنبؤ، والألعاب التنافسية ويمكن أن يساعد نظام الذكاء الاصطناعي الجيش في اكتشاف الاحتيال في خدمات التعاقد الخاصة به، والتنبؤ بموعد فشل أنظمة الأسلحة بسبب مشكلات الصيانة، أو تطوير استراتيجيات الفوز في المحاكاة الحاسوبية للمعارك.

روبوت للتخلص من القنابل يفجر قنبلة وهمية خلال تدريب للجيش الألماني في مونستر غربي ألمانيا، سبتمبر 2012  - REUTERS
روبوت للتخلص من القنابل يفجر قنبلة وهمية خلال تدريب للجيش الألماني في مونستر غربي ألمانيا، سبتمبر 2012 - REUTERS

لكن وبينما تتطلع الجيوش إلى دمج نجاح الذكاء الاصطناعي في هذه المهام في أنظمته، يجب الاعتراف ببعض التحديات.

أول تلك التحديات هو أن المطورين يحتاجون إلى الوصول للبيانات، إذ يتم تدريب العديد من أنظمة الذكاء الاصطناعي باستخدام البيانات التي تم تصنيفها بواسطة بعض الأنظمة المتخصصة (على سبيل المثال، وضع العلامات على المشاهد التي تتضمن بطارية دفاع جوي) وعادة ما تكون بشرية.

ويعد الحصول على هذه البيانات ومشاركتها تحدياً، خاصة بالنسبة للمؤسسة التي تفضل تصنيف البيانات على كونها سرية وتقيد محاولات الوصول إليها. وبدون مشاركة هذه المعلومات مع المطورين، لا يمكن إنشاء نظام ذكاء اصطناعي يستخدم بشكل فعال.

أما التحدي الثاني فيتعلق بحجم البيانات، فأنظمة الذكاء الاصطناعي عرضة لأن تصبح كبيرة جداً (وبالتالي بطيئة)، ولذلك فهي عرضة "لمشكلات الأبعاد". على سبيل المثال، تدريب نظام للتعرف على صور كل الأنظمة التسليحية قد يشمل آلاف الفئات. ستتطلب مثل هذه الأنظمة قدراً هائلاً من قوة الحوسبة والكثير من الوقت المخصص لهذه الموارد.

ولأننا نقوم بتدريب نموذج، فإن أفضل نموذج يتطلب قدراً غير محدود من هذه الصور ليكون دقيقاً تماماً "هذا شيء لا يمكننا تحقيقه في ظل التكنولوجيات الحالية" على حد قول "هاتشينز". علاوةً على ذلك، أثناء تدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي هذه، سيحاول المطورون غالباً إجبارها على اتباع القواعد "البشرية". ومع ذلك، عادة ما يتجاهل البشر هذه القواعد، ما يجعل تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي ناجحة لأشياء مثل تحليل المشاعر والتعرف على الكلام أمراً صعباً.

أخيراً، يمكن أن تعمل أنظمة الذكاء الاصطناعي بشكل جيد في الأماكن غير المتنازع عليها. ومع ذلك، تظهر الأبحاث العلمية أنه في ظل ظروف اندلاع الحروب، يمكن بسهولة خداع أنظمة الذكاء الاصطناعي، ما يؤدي إلى حدوث أخطاء أثناء العمليات العسكرية، وهو ما قد يؤدي لحدوث إصابات في صفوف المدنيين والأبرياء.

تصور مستقبلي لطائرة مقاتلة بدون طيار تحلق في ساحة معركة في مدينة مدمرة  - Getty Images
تصور مستقبلي لطائرة مقاتلة بدون طيار تحلق في ساحة معركة بمدينة مدمرة - Getty Images

نقطة ضعف بسيطة أخرى في أنظمة الذكاء الاصطناعي هي عدم قدرتها على القيام بمهام متعددة. يستطيع الإنسان التعرف على مركبة العدو، وتحديد السلاح المناسب لاستخدامه ضدها، والتنبؤ بمسارها، ثم الاشتباك مع الهدف.

هذه المجموعة البسيطة إلى حد ما من المهام، من المستحيل حالياً على أنظمة الذكاء الاصطناعي إنجازها. في أحسن الأحوال، يمكن إنشاء مجموعة من أنظمة الذكاء الاصطناعي حيث يتم إعطاء المهام الفردية لكل نموذج بشكل منفصل. هذا النوع من الحلول، حتى لو كان ممكناً، من شأنه أن ينطوي على تكلفة ضخمة في الاستشعار وقوة الحوسبة، ناهيك عن تدريب واختبار النظام، وذلك بحسب  الباحث المتخصص في التعلم الآلي بجامعة ويسكونسن ماديسون الأميركية، إيان هاتشينز.

السباحة والآيس كريم

لا تزال العديد من أنظمة الذكاء الاصطناعي غير قادرة على تطوير قدراتها في التمييز. على سبيل المثال، من المرجح أن يكون النظام الذي تم تدريبه على تحديد دبابة T-90 غير قادر على تحديد دبابة صينية من النوع 99، على الرغم من حقيقة أن كليهما دبابة، وأن المهمتين هما التعرف على الصور.

ولذلك يعمل العديد من الباحثين على تمكين الأنظمة من تطوير تعلمها، لكن هذه الأنظمة تفصلها سنوات كبيرة عن التحول لواقع.

كما أن أنظمة الذكاء الاصطناعي ضعيفة جداً أيضاً في فهم المدخلات والسياق ضمن تلك المدخلات. لا تفهم أنظمة التعرف على الذكاء الاصطناعي ماهية الصورة، فهي ببساطة تتعلم التعرف على الصور عبر تدرجات وحدات بكسل الصورة. وبالنظر إلى المشاهد ذات التدرجات اللونية نفسها، قد تحدد أنظمة الذكاء الاصطناعي بسهولة أجزاء الصورة بشكل غير صحيح. يمكن أن يؤدي هذا النقص في الفهم إلى تصنيفات خاطئة لا يقوم بها البشر، مثل تحديد قارب في بحيرة على أنها سفينة حربية.

إطلاق أول طائرة بدون طيار من منصة حاملة طائرات تابعة للبحرية الأميركية  - Getty Images
إطلاق طائرة من دون طيار من منصة حاملة طائرات تابعة للبحرية الأميركية - Getty Images

وتكافح أنظمة الذكاء الاصطناعي أيضاً للتمييز بين ما يُعرف بالارتباط والسببية. غالباً ما يستخدم المثال الشائن لتوضيح الاختلاف في العلاقة بين الوفيات الناجمة عن الغرق ومبيعات الآيس كريم. لن يعرف نظام الذكاء الاصطناعي الذي يتم تغذيته بإحصاءات حول هذين العنصرين أن النموذجين يرتبطان فقط لأن كليهما دليل على أن الطقس أكثر دفئاً. فالبشر يتناولون الآيس كريم في الصيف، ويذهبون أيضاً للسباحة.

وقد يستنتج الذكاء الاصطناعي أنه لمنع الوفيات الناجمة عن الغرق، يجب علينا تقييد مبيعات الآيس كريم. يمكن أن يتجلى هذا النوع من المشاكل في نظام منع الاحتيال العسكري الذي يتم تغذيته ببيانات حول المشتريات كل شهر. يمكن لمثل هذا النظام أن يخلص بشكل خاطئ إلى أن الاحتيال يزداد في شهر سبتمبر مع زيادة الإنفاق، في حين أنه في الحقيقة مجرد انعكاس لعادات الإنفاق في نهاية العام، لكن ومع كل تلك السلبيات، لا تتوقف الجيوش عن تطوير أنظمة قتالية تعتمد على الذكاء الاصطناعي.

مخاطر التحليل


في ورقة بحثية نشرها المعهد الملكي للشؤون الدولية "تشاتام هاوس"، ناقش الباحثون إطاراً يشرح الوضع الحالي لأحدث ما توصلت إليه تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، ونقاط القوة والضعف في التكنولوجيا، ومستقبلها المحتمل.

ترصد تلك الورقة التي حظيت باهتمام واسع النطاق وقتها، ارتفاع استخدام الطائرات من دون طيار بشكل يجعلها "روبوتات قاتلة". 

روبوت هيكلي وسط لندن خلال إطلاق حملة لإيقاف "الروبوتات القاتلة"وفرض حظر استباقي على تطوير روبورتات قادرة على استخدام السلاح باستقلالية عن البشر، أبريل 2013 - AFP

وتقول الورقة إن هناك "توسعاً سريعاً" في استخدام الأنظمة المستقلة الجوية في العمليات العسكرية، وتعد ذلك الأمر "دليلاً" على التحول السريع في عمليات بناء سلاح يعتمد على الذكاء الاصطناعي. لكنها تصف الأمر في الوقت ذاته بـ"الخطر وغير الآمن"، إذ إن عملية تطوير تلك الطائرات "تنقصها ضمانة هامة".

فتطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي "يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعقول البشرية الفردية" التي ترى العالم "بعينها"، وتلقن الكمبيوتر "بالبيانات كما تراها تلك الأعين". لكن قد يكون للذكاء الاصطناعي رأي آخر، فـ"المدخلات لن تُنتج نفس المخرجات".

يتبع الذكاء البشري قواعد في اتخاذ القرار، في البداية تدخل المعلومات للدماغ لمعالجتها، يُدرك الفرد حجم المشكلة، ويعالج المعلومات، ويتخذ القرار بناءً على الظروف المحيطة، وهذا أمر يختلف بشكل كبير عن الذكاء الاصطناعي الذي لن يستطيع تقدير الظروف المحيطة بنفس كفاءة العقل البشري، وهو ما قد يتسبب في كوارث ضخمة أثناء الحروب الكبيرة.