تعتبر جدارية "العشاء الأخير" الأيقونية بين أبرز أعمال عصر النهضة الأوروبية، إذ لا تزال تجذب إلى اليوم أنظار السائحين واهتمام عشاق الفنون والتاريخ. إلا أن ماضي الجدارية الفعلي لم يتشكل فقط من نظرات إعجاب وتأمل من الزائرين، وإنما لأسباب عديدة.
على مدار ما يزيد على 500 عام من الصمود مرّت "العشاء الأخير" بتداعٍ مبكر لمعالمها، إضافة إلى سنوات من الإهمال ونجاة أسطورية من تدمير محقق إبان الحرب العالمية الثانية.
وفي عام 1999 وبالتحديد في الـ 28 من مايو عُرضت لأول مرة على الجمهور، بعد احتجاب لمدة وصلت إلى 20 عاماً، حاول خلالها المرممون إعادة الحياة للوحة مرة أخرى كي تضع تاريخها المعقد جانباً وتخطو للقرن الواحد والعشرين. وفي ذكرى عودتها للعرض، نلقي الضوء على تفاصيل خاصة من رحلة جدارية دافنشي.
بحث وتنفيذ
يرجح موقع متحف ميلانو الإيطالي أن جدارية العشاء الأخير نُفذت بالفعل ما بين عامي 1494 و1498 أي خلال القرن الخامس عشر، وتعتبر من بين أشهر اللوحات الفنية في التاريخ، وتستقر اليوم على جدران ما عُرف سابقاً بـ"غرفة الطعام" في دير سانتا ماريا ديلي جراتسي الواقع بالقرب من مدينة ميلانو الإيطالية.
تبلغ أبعاد اللوحة 4.60 متر طولاً و8.80 متر عرضاً، إلا أن فنان عصر النهضة الشهير ليوناردو دافنشي لم يبذل قصارى جهده في تنفيذها فقط، بل أفنى ساعات طويلة أيضاً في مراحل الإعداد، وتحديداً في إعداد النماذج والاسكتشات التجريبية، إضافة إلى التجول في الطرقات للبحث عن ملامح شخصياته وفقاً لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي".
تداعٍ مبكّر
لم يكن القرن السادس عشر لينقضي قبل أن تبدأ لوحة دافنشي في التشقق والتداعي، لأسباب متعلقة باستخدام الفنان تقنيات غير معتادة وخامات غير مألوفة، إضافة للعوامل البيئية الأخرى، ما أدى إلى خضوع اللوحة على مدار تاريخها الطويل لعمليات ترميم شتى، بدأ أبرزها خلال سبعينيات القرن الماضي وانتهى عام 1999، لتبدأ اللوحة فرض قواعد جديدة على زوارها.
فوفقاً لموقع متحف ميلانو، يمكن للزوار البقاء لتأمل اللوحة في قاعة عرضها التاريخية مدة 15 دقيقة فقط، كما لا يُسمح بدخول مجموعة مكونة مما يزيد على 25 شخصاً، وذلك إضافة إلى إجراءات احترازية أخرى لحماية اللوحة من العوامل البيئية كالحفاظ على وجودها في درجة حرارة الغرفة.
نجاة قدرية
إلا أن الجدارية لم تتمتع طوال السنوات الماضية بالاهتمام ذاته، فخلال فترات استُخدمت الغرفة محل تواجد اللوحة الأيقونية كإسطبل للخيول، وإبان الحروب الأوروبية في أعقاب الثورة الفرنسية عُومِلت اللوحة بخشونة أيضاً، فوفقاً لموقع متحف ميلان، استخدم جنود نابليون جدان الغرفة للتدريب على الرماية.
أما في عام 1943، فكاد جهد دافنشي أن يؤول إلى حطام إثر سقوط قذيفة على الغرفة خلال الحرب العالمية الثانية، ما أدى إلى تداعي السقف وبعض من الجدران، إلا أن اللوحة نجت وفقاً لـ"بي بي سي"، بفضل بعض أكياس الرمال التي كانت موضوعة فوقها.
أدى الحادث في كل الأحوال لبقاء اللوحة في العراء سنوات قبل إعادة بناء الغرفة، واستعادتها لمجدها السابق، كما أنها لاحقاً سُجلت اللوحة بقائمة اليونسكو للتراث العالمي بصحبة كنيسة ودير سانتا ماريا دي جراتسي.