تؤمن بعض الأمهات الطيبات أن عجينة البيتزا التي يقمن بإعدادها في المنزل لا تختلف في مذاقها عن "بيتزا هت"، وهن لا يختلفن كثيراً عن أولئك الذين صدقوا ادعاءات رجل صيني مجهول الهوية يقول إنه يصنع حقيبة يد نسائية لا تختلف في جودتها وخاماتها عن "بيركين".
يتحدث الرجل في مقطع فيديو شوهد ملايين المرات منذ نشره على "تيك توك"، ممسكاً بالحقيبة التي تُعد درة تاج شركة "هيرميس". يقول موجهاً حديثه للكاميرا إنه سيحسب التكلفة الحقيقية لتصنيعها خطوة بخطوة. فقطعة جلد العجل التي يتكون منها جسم الحقيبة بـ450 دولاراً.
أضف عليها 25 دولاراً لخيوط عالية الجودة من أجل حياكة الحقيبة، و125 دولاراً لقطع الفولاذ المقاوم للصدأ في أطرافها، و50 دولاراً للصمغ الخاص بلصق الحواف، و10 دولارات أخيرة للسحّاب. هكذا، يقدّر الرجل أن التكلفة الحقيقية لحقيبة "بيركين"، بعد إضافة أجور العمال المرتفعة في أوروبا، لن تتجاوز 1400 دولار، وهو بالطبع أقل من 10% من سعر بيعها في متاجرها.
الفيديو جزء من حملة أعقبت فرض واشنطن رسومها الجمركية الانتقامية على بكين، ويظهر فيها صينيون يدّعون أنهم الصناع الحقيقيون للبضائع الفاخرة التي تُباع بأضعاف أثمانها في أوروبا بعد إخفاء مكان صنعها.
تدعو الحملة المشاهدين لشراء الأزياء المماثلة من الصين، ما يضمن لهم الحصول على سلع عالية الجودة دون دفع العلاوة الباهظة مقابل "لوجو" يضاعف من ثمن السلعة مرات عديدة دون داعٍ.
وقد لاقت الدعوة رواجاً كبيراً بين المشاهدين الذين أعادوا نشره بعناوين مشابهة لـ"فضيحة بيوت الأزياء الأوروبية"، و"الصين تفضح الجانب المظلم في صناعة الموضة"، إلى غير ذلك.
تثير الحملة العديد من الأسئلة، حول قيمة المنتجات اليدوية، ومدى جودة منتجات علامات الموضة الشهيرة، ومصداقية الشركات بشأن عمليات الإنتاج، وسلوك المستهلكين، وبعض الأسئلة في الحياة أكثر تعقيداً من غيرها.
طريقة عمل "بيركين" في البيت
السؤال الأول بالطبع يدور عن مدى صحة كلام الرجل، وهل يستطيع حقاً استنساخ حقائب مطابقة في جودتها لـ"بيركين"؟ الإجابة الموجزة والواضحة.. قطعاً لا.
هو يستطيع بالطبع شراء عدة أمتار من خيوط (Fil Au Chinois) الفاخرة، وجلد التوجو الفريد الذي تفضله "هيرميس"، لكن كيف له القدرة على تقليد الحياكة؟. يستخدم صانعو "بيركين" أسلوباً خاصاً يُسمى "غرزة السرج"، وهي صعبة التنفيذ تتطلب دقة وصبراً، ووقتا أطول بكثير مقارنةً بأنواع الغرز الأخرى.
أسلوب الحياكة هذا، فضلاً عن متانته الشديدة، يمتاز بانعدام المسافات بين الغرزة والأخرى، وهو ما يمكّن الصانعين المهرة من ربط أجزاء الحقيبة بدقة مذهلة تُوحي للناظر وكأن كل قطعة جلد قد خُلقت خصيصاً لتجاور جارتها. يحتاج خياطو "هيرميس" لتدريب مكثف يمتد لنحو عقد كامل، لمنحهم المعرفة الوثيقة بأنواع المخارز والخيوط والإبر، كما يتم إعدادهم نفسياً للعمل بتركيز شديد لساعات طويلة، ومن ثم إعطاؤهم الفرصة للتجريب والممارسة بتصنيع منتجات الشركة، قبل السماح لهم أخيراً بحياكة "بيركين".
ولنفترض أن الرجل الصيني قد كرّس حياته لتدريب فرق من العمال المهرة القادرين على إنتاج الحقيبة بذات الدقة، وهو افتراض ساذج، فمن أين سيأتي بتاريخ العلامة الذي لا يُضاهى؟. "بيركين" تتمتع بإتقان وجمال وأصالة يرفعها لمصاف العمل الفني. فعقدة السرج هو تذكير بالتراث العريق لبيت الأزياء الأشهر، حيث بدأ المؤسس تيري هيرميس ورشته عام 1837 صانعاً للسروج وأطقم ركوب الأحصنة، وقد اشتهر بدقته المفرطة.
ولا يظهر على الحقيبة لوجو الشركة، إنما تُعرف بتصميمها الذي لا تُخطئه العين، والذي يعود لعام 1984. قادت المصادفة الممثلة البريطانية الأميركية جين بيركين لتجلس إلى جانب الرئيس التنفيذي لـ"هيرميس"، جان لوي دوماس، في رحلة طيران من لندن إلى باريس، وخلال الرحلة اشتكت الممثلة من أنها لا تجد حقيبة جلدية متميزة تجمع فيها أغراضها الخاصة في عطلة نهاية الأسبوع، وتناقش الاثنان في الأشكال المحتملة، لينتج النقاش غير المرتب هذا التصميم الأيقوني.
الإرث والسمعة الممتدة لأكثر من مئة سنة والسردية التي قادت إلى تصنيع الحقيبة لها قيمتها بحيث لا يمكن تقدير ثمن الحقيبة عبر تفكيك أجزائها وتحديد سعر كل زر وخيط على حدة. رغم ذلك، فلنكن صادقين. هل هذا هو ما يبرر سعرها الفلكي؟
"إنها ليست حقيبة"
في حلقة قديمة أُذيعت عام 2001 من المسلسل الأميركي الشهير "الجنس والمدينة" (Sex and the City)، تسعى إحدى بطلات المسلسل "سامانثا جونز" لشراء حقيبة "بيركين" حمراء كبيرة الحجم. يخبرها البائع أن ثمنها 4 آلاف دولار، فلا تتفاجأ من السعر، لكن ما أصابها بالصدمة هو أن عليها الانضمام لقائمة انتظار تطول 5 سنوات على الأقل. سألته باستنكار، خمس سنوات للحصول على حقيبة؟، فرد بثقة: "إنها ليست حقيبة.. إنها بيركين".
اليوم، يصل ثمن الطراز الذي وقع عليه اختيار ساماثنا إلى 30 ألف دولار، بزيادة 650% في ربع قرن، في حين أصبح الحصول على مثيلتها حلماً للكثيرات، فالشركة توقفت حتى عن فتح قوائم الانتظار. يُعد عدد حقائب "بيركين" الذي تنتجه الشركة سنوياً سراً لا تفشيه الشركة. والعام الماضي، رفعت إحدى السيدات الغاضبات دعوى قضائية ضد "هيرميس" تتهمها بالإعلان الكاذب، مدعيةً أن العلامة الفرنسية تطلب من زبائنها شراء عشرات المنتجات الأخرى للحصول على أحقية الحصول على "بيركين".
تقول ساماثنا إن أهل نيويورك سيعرفون مدى نجاحها حين يشاهدونها تحمل هذه الحقيبة، خاصة وأنها في حلقة سابقة ظهرت تحمل حقيبة مقلدة من طراز "لوي فيتون" وتعرضت لإحراج شديد حين انكشف أمرها. الندرة المصطنعة في توفرها بالأسواق، والتسابق من أجل الحصول عليها، ومن ثم التباهي والتفاخر بعد اقتنائها هو ما يحافظ على مكانتها وسعرها على مر السنين.
بالفعل، نجحت الحملة الإعلامية الصينية في جذب الأنظار، وحظيت بتغطية إعلامية واسعة. كما أثارت قضايا وأسئلة، على غرار، أهمية التفكير في كل قطعة ملابس قبل شرائها. هل ثمن القطعة يعبّر حقاً عن جودتها مقابل علامتها التجارية؟ هل يحيط المصنعون عملية الإنتاج بسرية تامة؟. من صنعها وكيف كانت ظروف تصنيعها هل من الممكن الحصول على جودة مماثلة بسعر أقل؟ هل من الأفضل البحث عن بديل غير معروف بدلاً من منتجات الشركات الشهيرة؟.
لكنها في رأيي وجهت سهامها للهدف الخطأ، وأضاعت على نفسها فرصة حقيقية لإعادة التموضع.
أصلي أم صيني؟
في تلك اللحظة الاستثنائية التي تشتعل فيها الصراعات التجارية، وتعلو فيها أصوات الفخر الوطني والانحياز القومي على خطابات العولمة والتعاون وحرية التجارة، يتوق الناس لبدائل حقيقية وأصيلة. إذا كان المصنعون الصينيون يتمتعون بقدر عالٍ من الجودة والإتقان حقاً، فلماذا الإصرار على تقديم أنفسهم بديلاً رخيصاً للعلامات الأوروبية؟. ولماذا لا يستخدمون مهاراتهم في تقديم تصاميمهم الخاصة وعلاماتهم التي تعكس ثقافتهم ورؤيتهم ومهارتهم، بدلاً من السطو على تصميمات الغير؟.
ضحايا التقليد الصيني لا ينحصرون فقط في الغرب المخادع، كما توصمه حملة البروباغاندا. ففي عام 2022، قدّمت شركة "يونيكلو" (Uniqlo) اليابانية حقيبة يد شبابية رائعة التصميم أطلقت عليها "المُستديرة الصغيرة" (Round mini). وقد ازدادت شعبيتها بين جيل زد على مستوى العالم، لدرجة أن مخزونها كان ينفد بعد دقائق من عرضها في المتاجر. وخلال العام الماضي، رفعت "يونيكلو" دعوى قضائية ضد العملاقة الصينية "شين" (Shein)، متهمة الشركة الصينية بإنتاج نسخة مقلدة، رغم أن ثمن الحقيبة الأصلية لا يتجاوز 15 دولاراً. والأمثلة الشبيهة بهذه الحادثة أكثر من أن تُعد وتُحصر.
هناك فارق شاسع في سوق الأزياء بين موضة الرفاهية (Luxury Fashion) وموضة الجودة (Premium Fashion). فالأولى تبيع البريق والإبهار والتباهي، فيما تقدّم الثانية منتجات عالية الجودة والتصميم وبأعلى درجات الإتقان بأسعار متاحة. استهدفت الحملة الصينية منافسة النوع الأول، في رهان محكوم عليه بالفشل من قبل أن يبدأ. ثم عجزت عن أن تقدم بدائل للنوع الثاني، فلم ينتج عن حملتهم سوى فراقيع إعلامية وترندات ستذهب لحال سبيلها.
تظل الساحة مفتوحة أمام الأجيال الجديدة من المصممين القادرين على تقديم جودة حقيقية ومنتجات أصيلة تنافس بها العلامات الغربية، ويُحسب للحملة الصينية أنها ذكرتنا بدورنا في البحث عنهم ودعمهم.