الخليج يتحول من مستهلك إلى منتج.. ومركز دبي يبرم صفقات مليارية

رحلة الألماس المصنوع من المجوهرات إلى رقائق الذكاء الاصطناعي

يزيد إقبال جيل الشباب على الألماس المصنوع في المختبرات، وسط اهتمام أكبر بالحفاظ على البيئة والحد من الانبعاثات - Bloomberg
يزيد إقبال جيل الشباب على الألماس المصنوع في المختبرات، وسط اهتمام أكبر بالحفاظ على البيئة والحد من الانبعاثات - Bloomberg
دبي -الشرق

لم يعد صعود الألماس المُصنّع مخبرياً (Lab-Grown Diamonds – LGDs) مقتصراً على متاجر التجزئة، أو النقاشات المرتبطة بالاستدامة؛ إذ بات يشكّل عنصراً محورياً في عدد من التقنيات الناشئة، من أشباه الموصلات، والذكاء الاصطناعي إلى الحوسبة الكمية، وبُنية الطاقة التحتية.

هذا التحوّل، الذي يأخذ طابعاً عالمياً، يطال أيضاً منطقة الخليج، حيث بدأت السياسات الصناعية واستراتيجيات التنويع الاقتصادي تتقاطع مع علوم المواد المتقدمة، وفي مقدمتها الألماس المُصنّع.

سوق الألماس في الخليج

عام 2024، شكّلت دول الخليج نحو 5% من سوق مجوهرات الألماس العالمية المقدّرة قيمتها بنحو 5 مليارات دولار، وعلى الرغم من أن هذه الحصة تبدو محدودة، إلا أن اللافت هو وتيرة التحوّل التي تشهدها السوق؛ إذ بدأ الألماس المُصنّع يُزيح تدريجياً نظيره الطبيعي في بعض أسواق المنطقة. ففي الإمارات مثلاً، يُمثّل الألماس المُصنّع حالياً 40% من مبيعات مجوهرات الألماس، مع مؤشرات على استمرار هذا الاتجاه التصاعدي.

ويرى أرنو فلامبو، مؤسس شركة "2dot4"، ومقرها دبي، المتخصصة في تصنيع الألماس الاصطناعي، أن "منطقة الخليج في طريقها لمعادلة السوق الأميركية خلال 5 سنوات"، حيث يُشكّل الألماس المُصنّع 70% من إجمالي المبيعات.

موظفة تفحص الألماس الخام في مركز فرز في موسكو، روسيا
موظفة تفحص الألماس الخام في مركز فرز في موسكو، روسيا - Bloomberg

ويسهم مركز دبي للسلع المتعددة (DMCC) في دفع هذا النمو، حيث شهد تداول ما يفوق 1.5 مليار دولار من تجارة الألماس المُصنّع خلال عام 2023 (آخر أرقام معلنة)، بارتفاع 10% عن العام السابق، ويضم أكثر من 30 شركة ناشطة في هذا المجال.

لكن الألماس الاصطناعي تجاوز دوره كبديل منخفض التكلفة وأكثر استدامة عن الألماس الطبيعي، بفضل خصائصه الفيزيائية، مثل التوصيل الحراري العالي، واتساع فجوة الحزمة، ومقاومة الإشعاع، ما يجعله مرشحاً بارزاً في تطبيقات تكنولوجية متقدمة.

الألماس الاصطناعي يجذب مصنعي الرقائق

هذه الخصائص جذبت اهتماماً متزايداً من قبل مطوّري أشباه الموصلات ومصنّعي الرقائق ومؤسسات الدفاع. فمع بلوغ "السيليكون" و"نتريد الجاليوم" حدود أدائهما في البيئات عالية الطاقة ودرجات الحرارة المرتفعة، يبرز الألماس، لا سيما المنتج بتقنية الترسيب الكيميائي للبخار (CVD)، كخيار واعد. 

ويؤكد إيان فريل، مدير تطوير الأعمال في شركة "إيلمنت سيكس" (Element Six)، التابعة لأكبر مجموعة ألماس في العالم "دي بيرز" (De Beers Group)، أن الألماس المصنّع "يوفّر فجوة حزمة واسعة، وتوصيلاً حرارياً فائقاً، ومجالات انكسار كهربائي مرتفعة، ما يجعله مثالياً للظروف القاسية من حيث الجهد والحرارة والإشعاع".

وتدعم الأرقام هذه الفرضية: إذ يبلغ التوصيل الحراري للألماس المنتج بتقنية CVD نحو 2200 وات/متر كلفن، مقارنةً بـ230 لـ"نتريد الجاليوم" و150 للسيليكون.

هذه الفروق الحاسمة تجعل الألماس عنصراً محورياً في مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي، حيث يُعدُّ التبريد ليس تحدياً تكنولوجياً فحسب، بل مالياً كبيراً نظراً لارتفاع تكلفته. ويُستخدم الألماس فعلياً في تبريد مضخمات الطاقة عالية التردد، وصمامات الليزر القوية، كما يدخل في أجهزة كشف الإشعاع بمنشآت الأبحاث العلمية مثل المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (CERN)، ومركز ستانفورد للمسرعات الخطية (SLAC)، ومفاعلات الاندماج النووي الأوروبية.

اليابان تقود سباق الألماس

خارج الأسواق الغربية، تقود شركة "أدامانت نامكي بيرسشن جويل" (Adamant Namiki Precision Jewel) في اليابان مساعي نقل إلكترونيات الألماس إلى المجال التجاري، من خلال بناء أول مسبك في العالم لأشباه الموصلات المصنوعة من الألماس في فوكوشيما، على أن يبدأ الإنتاج عام 2027.

ومن المنتظر أن تتضمن المنتجات المرتقبة ترانزستورات ومضخمات ومكونات دقيقة لاستخدامها في البنية التحتية النووية والفضائية والاتصالات، وتتوقّع الشركة أداءً تردّدياً أعلى بـ 3 أضعاف، وكفاءة تحويل طاقة أعلى بـ 6 أضعاف، وتوصيلاً حرارياً أكبر بـ17 مرة مقارنة مع نتريد الجاليوم، وهي أرقام ربما تُحدث تحولاً نوعياً في كفاءة الطاقة عالمياً.

أحد محلات بيع المجوهرات بمنطقة الألماس في مانهاتن
أحد محال بيع المجوهرات بمنطقة الألماس في مانهاتن، الولايات المتحدة - Bloomberg

تحمل هذه التطورات أبعاداً جيوسياسية كذلك، إذ إن تصنيع الألماس لا يعتمد على عناصر نادرة مثل الجاليوم - الذي تُنتجه الصين بنسبة 95% - بل يمكن إنتاجه من عاز الميثان الذي يحتوي على الكربون، وهو مورد يمكن التحكم في مصادره محلياً، ما يعزّز سيادة الدول على المواد الاستراتيجية.

الخليج.. من استهلاك الألماس إلى إنتاجه

تبرز في هذا السياق أهمية انخراط الخليج في هذا القطاع ليس فقط كمستهلك، بل كمنتج وفاعل في سلسلة القيمة، وتعمل شركات مثل "تو دوت فور" (2dot4) على تطوير تقنيات محلية لمفاعلات الترسيب الكيميائي للبخار (CVD)، ما يعكس توجهاً لتجاوز دور الوسيط التجاري والانخراط في التصنيع والابتكار، كما أن بساطة سلسلة التوريد في إنتاج الألماس المُصنّع، مقارنةً بسلاسل نظيره الطبيعي المعقدة، تسهل دخول الشركات الإقليمية إلى المنافسة في سوق المواد المتقدمة. 

ويُعلّق ستانلي تي. ك. وونج، المستشار لدى "بانك آند كومباني" (Banc & Company): "باستخدام 20 مفاعلاً بتقنية CVD، يمكنك عملياً أن تنافس كبار اللاعبين في السوق. وهذا يُمثل اختلافاً جذرياً عن عالم التعدين إذ توجد عوائق جيولوجية". 

وتتوقع سيدة الأعمال السعودية دانة العلمي، الرئيسة التنفيذية لشركة مجوهرات دانة العلمي، أن يغير "الماس المعملي تجارة الماس على مستوى العالم، وهو ينمو بقوة في حجم التجارة والاستثمار، ومن المتوقع أن يكون له تأثير كبير على الصناعة". 

كلام العلمي جاء خلال توقيع اتفاقية شراكة بحجم 120 مليون دولار مع شركة "جرين لاب" (GREEN LAB) الهندية، التي تُصنّف ضمن أبرز اللاعبين في القطاع عالمياً، خلال فعاليات النسخة السابعة من منتدى مبادرة مستقبل الاستثمار، بالعاصمة الرياض في أكتوبر 2023.

توقعات سوق الألماس الاصطناعي

 بحسب تقرير لوكالة الصحافة الفرنسية، طُوّر الماس الاصطناعي لأول مرة في أوائل الخمسينيات، لكنّ تطوير مسار تصنيعي قابل للتطبيق تجارياً ظهر قبل نحو 10 سنوات. 

وخلال السنوات العشر الماضية نمت سوق الألماس الاصطناعي بمعدل مركب 38% سنوياً، وتشير التوقعات إلى أنها ستستمر في النمو حتى الوصول إلى 52 مليار دولار بحلول عام 2030. 

وسط هذه الآفاق الواسعة، تواجه السوق تحديات حقيقية، أبرزها ارتفاع تكاليف الإنتاج الأولية، والحاجة إلى مستويات أعلى من النقاء والتحكم في العيوب لتلبية متطلبات التطبيقات الإلكترونية.  

أما في عالم المجوهرات، فإن التصوّر العام للألماس المُصنّع لا يزال عقبة في بعض الأسواق التي يرتبط فيها الألماس الطبيعي برمزية ثقافية قوية. ولم تنجح صناعة المجوهرات حتى الآن في تسويق الألماس المُصنّع كخامة إبداعية مستقلة، بل غالباً ما تُقلّد تصاميم الأحجار الطبيعية. 

يُضاف إلى ذلك خطر تخمة العرض نتيجة التوسّع السريع، إلى جانب غياب هيئة تنظيمية عالمية، ما قد يؤدي إلى اضطرابات مشابهة لما شهدته صناعات الطاقة الشمسية والمعادن النادرة، من تشرذم، وحروب أسعار، وسياسات حمائية. 

رغم هذه التحديات، فإن الاتجاه العام يشير إلى أن استخدامات الألماس المُصنّع تتوسع بسرعة لتُصبح جزءاً لا يتجزأ من تقنيات المستقبل، من تبريد الرقائق المتقدمة، إلى تمكين الحوسبة الكمية، وتعزيز كفاءة شبكات الاتصالات العالمية.

وبينما لم تصبح منطقة الخليج بعد مركزاً رائداً في هذا القطاع، يرى فلامبو من "2dot4" أنها "باتت تضطلع بدور متنامٍ، ليس فقط كمستهلك، بل كمُنتِج محتمل بمجال المواد المتقدمة، وفي مقدمتها الألماس المصنّع، التي سترسم ملامح مستقبل الحوسبة والطاقة والاتصال.

هذا المحتوى من "اقتصاد الشرق".

تصنيفات

قصص قد تهمك