في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، أرسلت حكومة تشيلي ما بين 8 آلاف إلى 20 ألف رضيع إلى جميع أنحاء أوروبا وأميركا الشمالية، ليتم تبنيهم من قبل عائلات ميسورة.
ووفقاً لما كتب آرون نيلسن، في صحيفة "غارديان" فقد كان ذلك "جزءاً من استراتيجية وطنية للقضاء على فقر الأطفال تبناها الديكتاتور العسكري، أوغستو بينوشيه، الذي حكم تشيلي من 17 ديسمبر 1974 إلى 11 مارس 1990، عن طريق نقل الأطفال، الذين كانوا ينتمون لأمهات صغيرات في السن ويعانين من الفقر المدقع، من حياة الفقر في تشيلي إلى حياة أرغد في أوروبا الغربية والولايات المتحدة".
وأضاف الكاتب، أن عمليات التبني بدأت قبل عقود من وصول بينوشيه إلى سدة الحكم، لكن في عام 1978، أصبح الدفع قدماً بهذه العمليات جزء لا يتجزأ من السياسة الرسمية للحكومة، وزادت على إثر ذلك الضغوط على الأمهات للتخلي عن أطفالهن، وشهدت عمليات التبني الدولية طفرة كبرى.
أسباب عنصرية
بالنسبة إلى أليخاندرو كويزادا، مؤسس مجموعة "ضحايا التبني التشيلي حول العالم"، كانت النتيجة المباشرة لسياسات بينوشيه هي "تجريم الفقر". واستخدمت الدولة سلطاتها ضد العائلات الفقيرة لمنعها من تربية أطفالها، كما حال مناخ القمع من دون أن تبدي الأمهات أي مقاومة ضد هذه الممارسة الإجرامية.
ولم يكن الضحايا فقراء فقط، وإنما كان أغلبهم ينتمي إلى مجموعة "مابوتشي" العرقية، التي طالما تعرضت للاضطهاد، وفي ظل الحكم الديكتاتوري، كان يُنظر إلى وجود هؤلاء النساء على أنه عائق في سبيل التقدم.
وبينما كانت عائلات قليلة ترغب في تبني أطفال ذوي بشرة داكنة داخل تشيلي، كان هناك اهتمام كبير بذلك في الخارج. وبإرسالهم إلى دول أكثر ثراء، اعتقدت حكومة تشيلي أنها "تسدي معروفاً إلى هؤلاء الأطفال"، وفق كارين ألفارو، أستاذة التاريخ بـ"جامعة أوسترال"، والخبيرة في عمليات التبني الدولية في تشيلي.
الهدف الأكبر، كما توضح ألفارو، كان يكمن في إعادة بناء علاقات خارجية، إذ قطعت العديد من الدول علاقاتها مع تشيلي بعد انقلاب عام 1973، الذي أطاح بالحكومة الديمقراطية المنتخبة، ومن ثم فقد "عزز الديكتاتور التشيلي عمليات التبني كآلية لإعادة بناء العلاقات الدبلوماسية، خاصة مع الدول التي استقبلت المنفيين التشيليين، والتي انتقدت حكوماتها انتهاكات حقوق الإنسان في تشيلي".
حملات تخويف
في هذه الأثناء، كان يُنظر إلى عمليات التبني الدولية في العديد من الدول الأوروبية على أنها من قبيل "فعل الخير"، فقد اعتقد آباء الجيل الأول الذين تطوعوا لتبني أطفال من الخارج في الستينيات أنهم يسدون نفعاً للآخرين، بحسب توبياس هوبينيت، أستاذ التعليم متعدد الثقافات بـ"جامعة كارلستاد" بالسويد، الذي يتابع مضيفاً: "كان ذلك امتداداً للسياسة الخارجية السويدية ومساعداتها التنموية لما يسمى بدول العالم الثالث".
لكن مع بداية السبعينيات، ترددت قصص في تشيلي عن نساء أجبرهن العاملون في قطاع رعاية الأطفال على التخلي عن أطفالهن، وقال بعضهن إن الأطباء والممرضات في المستشفيات الحكومية أخبروهن كذباً أن أطفالهن ماتوا عند الولادة، من دون إعطائهن شهادات وفاة تفيد ذلك، أو حتى السماح لهن برؤيتهم.
وتعرضت من حاولت منهن إبلاغ الشرطة، أو نقل قصص من هذا النوع إلى وسائل الإعلام، لحملات ترهيب، وتم التعامل معهن من قبل المتورطين في هذه الجريمة، على أنهن يعانين خللاً عقلياً كما أوردت صحيفة "غارديان" البريطانية.
مافيا للتبني
مع بداية العقد الماضي، أظهر الصحافيون والمحققون الجنائيون في تشيلي، المزيد من الأدلة عن عمليات تبني غير قانونية وقعت في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته. وكشفت ألفارو أن الآباء المحتملين في أوروبا والولايات المتحدة كانوا يدفعون ما بين 6500 و150 ألف دولار أميركي عن كل طفل لوكالات التبني الدولية.
كان جزء من هذه المبالغ يذهب بلا شك إلى محترفي التبني في تشيلي، الذين كانوا يساعدون في اختيار الأطفال "المؤهلين" وانتزاعهم من أحضان آبائهم المهمشين وغير المتعلمين.
"كانت وكالات التبني الدولية تحتفظ بممثلين لها في تشيلي، لتطوير شبكات من الوسطاء مدفوعي الأجر الذين كان أغلبهم موظفين حكوميين، لتوفير أطفال للتبني"، كما أوضحت ألفارو.
وأضافت: "كان هناك اختصاصيون اجتماعيون يحصلون على أجور مقابل إصدار تقارير زائفة عن التخلي عن الأطفال، كما تم تخصيص جزء من هذه الأجور لأطباء وممرضين لإصدار شهادات ميلاد تفيد بموت هؤلاء الأطفال لدى ولادتهم، ولقضاة للموافقة على نقل الحضانة".
ويصف الفيلم الوثائقي، الذي أخرجه التشيلي أليخاندرو فيجا في عام 2017، عمليات التبني بأنها "تجارة مربحة للغاية في حقبة مظلمة من تاريخ البلاد".
ويتابع: "لقد حول الوضع الذي كانت تعيشه بلدنا – حالة طوارئ تحت حكم الديكتاتور – حتى الوحدات المخصصة لرعاية الأمومة إلى مشروعات تجارية".
وليس معروفاً حجم المعلومات التي تعرفها وكالات التبني الدولية عن أنشطة هذه الشبكات في تشيلي، لكن، على أقل تقدير، يبدو أن بعض هذه الوكالات لم تكلف نفسها عبء البحث عن الحقيقة الكامنة وراء هذه القصص عن الأطفال المسروقين.
تلهث وراء ابنها
وفي سبتمبر 2018، ونتيجة ضغوط مجموعات تعمل على إعادة لم شمل الأسر التي شُتتت بفعل عمليات التبني التعسفي، شكل مجلس النواب التشيلي لجنة للتحقيق في هذه الادعاءات التاريخية، وأدلت الأمهات وضحايا التبني بشهادات تدمي القلوب.
إحدى النساء، وتدعى ماريا أوريلانا، أخبرت اللجنة كيف وصلت إلى المستشفى في سانتياغو في صبيحة 18 فبراير 1985، حيث كان مر على حملها 39 أسبوعاً و6 أيام.
كانت أوريلانا دخلت في آلام المخاض في الليلة السابقة، وفي ذاك اليوم، وُلد طفلها بعملية قيصرية، ولم تره بعدها، وظلت أوريلانا تلح من أجل رؤية طفلها على مدى 3 أيام كاملة حتى أخبرتها إحدى المشرفات بالمستشفى الحكومي بأنه مات، وحتى في هذه اللحظة قالوا لها إنها لا تستطيع رؤيته لأن ذلك سيكون مؤلماً للغاية، وأنه "من الأفضل الاحتفاظ بالذكرى فقط".
ولا تزال أوريلانا تلهث في البحث عن طفلها، وتضع أملها في أن يجمع الله يوماً بين أم وولدها.
وفي يوليو 2014، أصدرت اللجنة تقريراً من 144 صفحة عن "عصابات المافيا" التي تضم عاملين في مجال الرعاية الصحية وموظفين عموميين "استخدموا أساليب شائنة لسلب الأطفال من أمهاتهم وضمان إمدادات منتظمة من الأطفال، فيما بات مشروعاً تجارياً مربحاً".
وأضاف التقرير: "تحول ما كان ممارسة غير منتظمة قبل بينوشيه إلى عمل مقنن في الحقبة الديكتاتورية، وكانت النتيجة أن استمرت ممارسات التبني المجردة من الضمير وأبسط معاني الآدمية دون رادع أو عقاب".
وخلص التقرير إلى أن عمليات التبني كانت "جريمة ضد الإنسانية".