السودان.. غياب الحل السياسي يعرقل محاولات الإصلاح الاقتصادي

time reading iconدقائق القراءة - 12
جانب من ميناء "بورتسودان" على الساحل الشمالي للبحر الأحمر شمال شرقي السودان - 7 أكتوبر 2021 - AFP
جانب من ميناء "بورتسودان" على الساحل الشمالي للبحر الأحمر شمال شرقي السودان - 7 أكتوبر 2021 - AFP
الخرطوم - أشرف عبد العزيز

يواجه السودان أزمة سياسية متعددة الأوجه، أثرت بشكل مباشر في الوضع الاقتصادي في البلاد، وعزلته عن المجتمع الدولي ومساعداته، في وقت تحاول الحكومة اللجوء إلى الموارد الذاتية، والدفع بإجراءات مصممة لزيادة الإيرادات، وهو ما حذر منه محللون تحدثوا لـ"الشرق"، معتبرين أن معالجة الأزمة السياسية أساس الانطلاق نحو الحل.

وتأتي الإجراءات الاقتصادية ضمن مسار طويل ومعقد من محاولات الإصلاح الاقتصادي، وإنهاء العزلة، بدأ منذ إسقاط نظام الرئيس السابق عمر البشير في 2019.

وعقب سقوط البشير، حقَّقت حكومة الشركاء في السودان بمكونيها المدني والعسكري، وبرئاسة عبد الله حمدوك، تقدماً في الإصلاح الاقتصادي، إذْ وافق صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في 29 يونيو 2021، على تأهل الخرطوم للحصول على تخفيف لأعباء الديون من خلال المبادرة المعززة المعنية بالبلدان الفقيرة المثقلة بالديون "هيبيك".

كما نجحت الحكومة آنذاك في رفع اسم السودان من اللائحة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، وعقد مؤتمرات اقتصادية بمشاركة الحلفاء الإقليميين والدوليين، لإعفاء البلاد من الديون التي تقدر بأكثر من 60 مليار دولار.

ولكن هذه النجاحات تخللها بعض القرارات الاقتصادية، على غرار رفع سعر الدولار الجمركي وزيادة الجباية ورفع الضرائب، انعكست سلباً على الوضع المعيشي للسودانيين، فضلاً عن أن القرارات السياسية التي نفذها الجيش، وخصوصاً المرتبطة بحل الحكومة ووضع حمدوك تحت الإقامة الجبرية في 25 أكتوبر الماضي، ضاعفت من الأزمة بعدما جمّد المجتمع الدولي معظم المساعدات التي كانت مخصصة للنهوض بالاقتصاد السوداني.

البرنامج الإصلاحي

وعبر الإجراءات الاقتصادية، أرادت حكومة حمدوك أن تثبت أنها ملتزمة باشتراطات البرنامج الإصلاحي لصندوق النقد الدولي، بغض النظر عن تبعاته على المواطنين، وعن ارتباط قراراتها ببرنامج إصلاح اقتصادي محل توافق وطني.

وعندما اشتدَّت وطأة الأزمة الاقتصادية، خاصة بعد الخلافات التي وقعت بين الشركاء، وتململ المواطنين، استحوذ الجيش على السلطة في 25 أكتوبر الماضي، معلناً "تصحيح المسار"، وواعداً بـ"غد أفضل".

وفي أول رد فعل على هذه الإجراءات، جمَّدت معظم المؤسسات المالية والدول الكبرى التعامل مع الخرطوم، وعلَّقت استئناف الدعم الذي قدر بـ34% من الموازنة، ليغيب التمويل الدولي عن موازنة عام 2022 التي اعتمدت على الموارد الذاتية الشحيحة والجبايات.

وشهدت الأوضاع الاقتصادية تراجعاً ملحوظاً وغلاءً طاحناً، وسط تمسك حكومة الخرطوم بالاستمرار في تنفيذ وصفة الإصلاح القاسية المقدمة من "صندوق النقد الدولي".

وندد الخبير الاقتصادي أحمد الكناني في تصريحات لـ"الشرق" بتبني حكومة حمدوك مصفوفة صندوق النقد كخيار وحيد للإصلاح الاقتصادي، و"اعتمادها على الوعود الدولية البراقة التي تعلن دعمها اللامحدود لإنجاح الحكم المدني".

وأضاف أن قادة الحكومة الانتقالية "اعتمدوا على هذا الدعم، ولم يكن هناك ما يدعوهم للتشكيك في جدية هذه التعهُّدات، واعتبروا الوفاء بها مسألة وقت لا أكثر، ولذلك كان طبيعياً أن تنحاز الحكومة في ظل هذا الغطاء الدولي إلى تبني مسار إصلاح اقتصادي يستجيب لمطالب المجتمع الدولي، ولكن المحصلة النهائية كانت هي المعاناة التي يعيشها الشعب السوداني حتى الآن".

الاعتماد على الذات

في المقابل، لم ييأس وزير المالية -قبل وبعد إجراءات الجيش-  جبريل إبراهيم، مؤكداً أن السودان سيشهد استقراراً اقتصادياً نسبياً خلال 2022، وعلى المدى المتوسط، وذلك اعتماداً على الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية التي طبقتها حكومة الفترة الانتقالية.

وأعلنت وزارته أنَّ موازنة 2022 تستهدف تحقيق استقرار اقتصادي عبر تثبيت سعر الصرف، وخفض معدلات التضخم، وإبقاء عجز الموازنة عند الحدود الآمنة.

أمَّا بنك السودان المركزي فاستهدف في سياساته، "تحقيق الاستقرار النقدي بإجراءات وآليات من بينها استدامة سعر الصرف، من خلال الاستمرار في سياسة سعر الصرف المرن المدار، ومواصلة سياسة مزادات النقد الأجنبي"، وفق بياناته.

ورفعت وزارة المالية شعار "الاعتماد على الموارد الذاتية" في موازنة العام 2022، وطرحته بديلاً لتعليق المساعدات الخارجية على خلفية إجراءات 25 أكتوبر. وذكر رئيس المجلس السيادي الفريق أول عبد الفتاح البرهان، أنَّ ميزانية العامين الماضيين كانت تعتمد بنسبة 40% على الدعم الخارجي فقط.

لكن الخبير الاقتصادي خالد التيجاني شكك في هذه فرضية "الاعتماد على الموارد الذاتية"، معتبراً في تصريحات لـ"الشرق"، أن هذه الفرضية "لا أساس لها من الصحة، ولا يحتاج الأمر إلى عناء للتأكد من حجم المساعدات الخارجية الفعلية التي تلقتها الحكومة الانتقالية في ميزانيتي السنتين الماضيتين، فقد وردت مفصلة في وثيقتي موازنتي 2021 و2022".

وأضاف: "هذه الفرضية المغلوطة، لم يتبنَّها البرهان وحده، بل سار نائبه الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) في ذات المنحى، وهو يشيد بميزانية 2022 التي اعتمدتها الوزارة خالية من أي دعم خارجي".

واعتبر التيجاني، أنَّ كل ما فعلته الموازنة تحت شعار "الموارد الذاتية" هو "مضاعفة الإيرادات بفرض جبايات غير مسبوقة على المواطنين تحت ذرائع مختلفة، تارة بزيادة إيرادات الضرائب بنحو 150% في بلاد تعاني ركوداً كبيراً مع انكماش كبير في الأنشطة الاقتصادية، وهجرة رؤوس الأموال، والمستثمرين، وتارة أخرى بزيادة الدولار الجمركي".

زيادة الدولار الجمركي

وفي خطوة وصفها مستوردون بـ"الكارثية"، عدَّلت وزارة المالية سعر الدولار الجمركي من 430 جنيهاً إلى 445، وذلك لتغطية العجز الكبير في الإيرادات الجمركية التي قدرت بنحو 70%.

وفي مارس 2021، أعلنت حكومة حمدوك زيادة الدولار الجمركي من 15 جنيهاً إلى 20 جنيهاً، بنسبة 33%، قبل أن تعلن في يوليو من العام ذاته، إلغاء سعر الصرف الجمركي المستخدم في حساب رسوم الاستيراد، حيث اعتمدت الجمارك سعر 430 جنيهاً للدولار الجمركي تزامناً مع ارتفاع سعر الدولار بالسوق الموازي عن 438 جنيهاً.

وأبدى الخبير الاقتصادي صدقي كبلو في حديثه لـ"الشرق"، استغرابه من أنَّ الحكومة الحالية بدلاً من أن تتخذ قراراً بتصفير جمارك السلع الأساسية الضرورية ومدخلات الإنتاج، عملت على تعديل الدولار الجمركي، ما يؤدي إلى زيادة كبيرة في التضخم، الذي كان قد بدأ في الانخفاض الطفيف.

تحذيرات من الانكماش

في السياق ذاته، حذر خبراء اقتصاديون من القرار، ووصفوه بأنه جاء "من دون دراسة للواقع، نظراً إلى مخاطر حدوث انكماش في الإنتاج المحلي، وتأثيره في مدخلات الإنتاج".

وتوقع الخبير الاقتصادي محمد الناير تبعات سلبية لتعديل الدولار الجمركي على الاقتصاد الكلي وحياة الناس.

وقال الناير لـ"الشرق"، إن "لهذا القرار تداعيات وخيمة تتمثل في ارتفاع أسعار السلع، وانكماش في الإنتاج المحلي"، معتبراً أن "الزيادة لن تحقق الأهداف التي تريدها الدولة، وهي زيادة حصيلة الواردات، بل ستكون النتائج عكسية على حصيلة إيرادات الجمارك".

واستشهد الناير بتراجع حجم الاستيراد منذ زيادة حكومة حمدوك الدولار الجمركي، مؤكداً أن هذا ما سيحدث في المستقبل أيضاً.

وحذر الناير من ندرة السلع الأساسية وغيرها، لافتاً إلى أن لهذا القرار تأثير سلبي على حياة الناس كما سيؤدي إلى ارتفاع التضخم، معتبراً أن "السياسات التي اتبعتها الدولة منذ عام 2020-2022 رفعت كلفة الإنتاج، وهذا ليس من مصلحة السودان".

من جهته، قال خالد التيجاني النور رئيس تحرير صحيفة "إيلاف"، إنَّ "الحكومة تعاني من مشكلة في الإيرادات، وتلجأ للحصول على موارد إضافية برفع سعر الدولار الجمركي أو العائدات الضريبية، ولكن المشكلة هي أن السودان يعاني ركوداً اقتصادياً وتراجعاً في الصادرات والوارادت، وهذه السياسات لن تعالج أزمة الإيرادات الحكومية بل ستقلل الواردات".

وأضاف: "كلما زادت الحكومة قيمة الضرائب الجمركية أو غير الجمركية، ستقلل من الحركة الشرائية، وهذا يظهر عجز الحكومة في الحصول على موارد حقيقية"، معتبراً أنه "ينبغي على الحكومة تشجيع الإنتاج لجذب الاستثمار مع تقليل حجم التضخم وتوفير مدخلات الإنتاج".

واتهم الحكومة بعدم وضع خطة واضحة للإصلاح الاقتصادي، بل "تريد حل الأزمة بمضاعفة الجبايات، وهذا يتضح من خلال ميزانيتها غير الموضوعية، فهي تتحدث عن موارد ذاتية، ولكنها في الأصل تترك المواطن يدفع ثمنها"، بحسب وصفه.

شل القطاع الإنتاجي

من جانبه، قال المحلل الاقتصادي هيثم محمد نور إن قرار زيادة الدولار الجمركي سيؤثر في المواطن سلباً، في ظل إصابة القطاع الإنتاجي بالشلل.

وأضاف هيثم في حديثه لـ"الشرق"، أن الحكومة "فشلت في توفير المال لإدارة الدولة، ولجأت للجبايات التي يتضرر منها المواطن بشكل كبير".

ودعا هيثم، الاقتصاديين ورجال الأعمال إلى رفض القرار الذي يمكن أن يحمل نتائج وخيمة على الاقتصاد وحياة الناس، متسائلاً: "لماذا تلجأ المالية دائماً إلى خيارات صعبة ومؤثرة على حياة الناس والاقتصاد الكلي؟ عليها أن تبتكر طرقاً أخرى لسد عجز الموازنة بدلاً من جعل المواطن هو من يصرف على الدولة"، على حد تعبيره.

تفاؤل حذر

في المقابل، اعتبر وزير المالية والتخطيط الاقتصادي جبريل إبراهيم في لقاء مع الإذاعة السودانية أن الحكومة "لا تعمل بتعليمات البنك وصندوق النقد الدوليين".

وأوضح أنَّ الإصلاحات الاقتصادية التي تقوم بها "أساسية لإزالة التشوهات"، مضيفاً أنَّهم جلسوا مع المؤسسات الدولية بهدف إزاحة عبء الديون البالغة أكثر من 60 مليار دولار. كما شدد على أنَّ الحديث عن "تخلُّص السودان بصورة نهائية من رقم معين من الديون غير دقيق"، مبيناً أنهم حصلوا على وعد من دول "نادي باريس" بحذف 14.1 مليار من الديون و إعادة جدولة 9 مليارات.

وأضاف: "الآن التعاون بيينا وبين البنك الدولي وصندوق النقد متوقف، وحتى تعاملنا مع البنك الإفريقي متأثر لحد كبير".

وقال إبراهيم إن وضع التضخم "غير مزعج" على الإطلاق، مبيناً أن الحكومة تطمح لإعادة التضخم لرقمين أو رقم واحد، مضيفاً أن ذلك يحتاج للتحكم في عرض النقود وسعر الصرف.

وفي ما يتعلق بالكهرباء والوقود، أوضح أنهم حددوا مقدار دعمهم للكهرباء بمبلغ مليار و650 ألف دولار خلال موازنة العام الجاري، مضيفاً أنهم رفعوا يدهم عن أسعار الوقود، وأن المالية ليست طرفاً في تحديد الأسعار التي ترتفع أو تنخفض بناءً على السعر العالمي.

العزلة الدولية

لكن المشكلة لا تتعلق فقط ببرامج الإصلاح الاقتصادي، وإنما بهواجس العزلة الدولية كما يقول الكاتب الصحافي والمحلل السياسي الشفيع خضر.

وقال خضر لـ"الشرق": "قبل أن يخطو السودان خطوتين في اتجاه التعافي الاقتصادي، ها هو يدخل اليوم في عزلة اقتصادية جديدة سيكون لها ما بعدها من نتائج وتداعيات كارثية ومدمرة بالنسبة لواحد من أفقر بلدان العالم".

وأضاف: "الدولة فقدت 40% من إيراداتها، حيث جمَّدت مؤسسات التمويل الغربية الأموال التي كانت ستدفعها للحكومة الانتقالية.. البنك الدولي وصندوق النقد الدولي جمدا ملياري دولار من المساعدات، كما جمدت واشنطن 700 مليون دولار، إضافة إلى شحنة قمح تبلغ 400 ألف طن كانت ستقدمهما خلال 2022".

وأردف خضر أنَّ البنك الدولي "أمهل الخرطوم حتى يونيو الجاري، ليصل إلى حل للأزمة السياسية كي يستكمل خطة إعفائه من ديونه، وإلا فستُلغى الخطة، أما مصارف السودان التي كان يفترض أن تعود إلى النظام الدولي بعد رفع العقوبات الأميركية في نهاية 2020، فلم يعد لديها أي صلة بهذا النظام".

وفي ظل هذه الأزمة الاقتصادية التي ترافقها أخرى سياسية، يرى خبراء أن الاقتصاد السوداني لا ينفصل عن الواقع السياسي الراهن بالسودان، وأن الحل السياسي والصلح بين الفرقاء السودانيين سيقلل من حجم الكارثة المتوقعة نتيجة للحظر والعزلة الاقتصادية.

اقرأ أيضاً:

تصنيفات