لماذا تحوّلت أميركا الجنوبية إلى بؤرة لوباء كورونا؟

time reading iconدقائق القراءة - 11
القارة اللاتينية تحولت إلى بؤرة جديدة لجائحة كورونا - Getty Images
القارة اللاتينية تحولت إلى بؤرة جديدة لجائحة كورونا - Getty Images
دبي-رامي زين الدين

"الرئيس يتخذ قرارات انتحارية تعرّض السكان للخطر"، هكذا وصف الطبيب البرازيلي فابيو دي روسي، في حديث لـ"الشرق"، واقع بلاده في ظل التفشي السريع لجائحة كورونا، حيث ناهزت أعداد الإصابات 440 ألفاً، في حين يبدو النظام الصحي لأكبر بلدان القارة اللاتينية هشاً وضعيفاً في مواجهة وباء لا يزال يكتنفه الكثير من الغموض.

في 10 مارس الماضي سخر الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو من التحذيرات العالمية التي صاحبت انتشار الفيروس المستجد، معتبراً أن الأمر "مجرد فانتازيا وضجة إعلامية مفتعلة"، وقد أثار ذلك التصريح مخاوف وانتقادات واسعة داخل البلاد وخارجها، على الرغم من أن أعداد الإصابات في البرازيل لم تتجاوز آنذاك 36 حالة.

بعد مرور أكثر من شهرين على كلام الرئيس البرازيلي، أعلنت منظمة الصحة العالمية أن القارة اللاتينية باتت بؤرة جديدة لوباء كورونا، نظراً إلى الارتفاع الكبير في أعداد الإصابات والوفيات، والمفارقة أن الغالبية العظمى من حالات المرض والموت تركزت في دولة واحدة بشكل خاص وهي البرازيل.

تحتل البرازيل اليوم، وفق بيانات جامعة جونز هوبكنز، المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في قائمة الدول الأكثر انتشاراً للمرض، إذ سجلت حتى 29 مايو أكثر من 440 ألف إصابة، ونحو 27 ألف حالة وفاة.

وتمتلك البرازيل تاسع أقوى اقتصاد في العالم وفق مؤشر عام 2019، ورغم ذلك فقد لا يبدو السؤال عن هشاشة نظامها الصحي منصفاً، لاسيما أن دولاً أكثر ثراء وتقدماً على غرار الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا لم تكن أفضل حالاً منها، لكن ثمة عوامل عدة ربما تفسر تحوّل البلاد إلى بؤرة للوباء، بحسب الأرقام وشهادات أطباء محليين.

لا مساواة في رعاية المرضى 

بالنسبة لطبيب الأمراض المعدية فابيو دي روسي، فإن أكثر الصعوبات تتمثل في كيفية علاج مرض غير مفهوم، وفي تصريحات لـ"الشرق" قال: "لا توجد إرشادات محددة للتعامل مع الحالات التي تعاني من أعراض شديدة مفاجئة، هناك الكثير من الضغط على العاملين في مجال الرعاية الصحية، لأن الفيروس مُعدٍ وينتشر بشكل واسع."

يعمل دي روسي حالياً في أقسام الطوارئ بعدد من مستشفيات ساو باولو، إحدى كبرى المدن البرازيلية، ويقارب عدد سكانها 13 مليوناً. يشير الطبيب إلى ظاهرة الطبقية في التعامل مع المرضى "هناك الكثير من أوجه عدم المساواة في البرازيل، رغم صعوبة تقبّل ألا يحصل الناس على النوع  نفسه من الرعاية،وفي الواقع إن من يملكون الثروة يحظون برعاية أفضل من الآخرين".

كانت البرازيل في عقود سابقة تمتلك أكبر أنظمة الرعاية الصحية في العالم، وتتوفر خدماتها لجميع المواطنين دون مقابل، كما يقول روسي. ويتابع: "للأسف في السنوات الأخيرة، وعلى وجه التحديد بسبب سياسات بولسونارو، بدأ الاتجاه نحو خصخصة القطاع الطبي؛ وكانت النتيجة فقدان ملايين المواطنين العلاج المجاني، بالإضافة إلى تراجع ميزانيات البحث العلمي وتقلص موارد القطاع العام، وباتت بعض المناطق كما نرى اليوم تواجه انهياراً تاماً في نظام الرعاية الصحية".

تضاعف الإصابات كل أسبوعين

ليست البرازيل بلداً عادياً في أميركا الجنوبية، إذ تشكل مساحتها البالغة 8 ملايين كيلومتر مربع نصف مساحة القارة تقريباً، وكذلك تعتبر الدولة الأكبر من حيث تعداد السكان الذي يقدر بـ210 ملايين نسمة، وهكذا فإن تفشي الوباء في البرازيل يعكس بشكل أو بآخر الوضع العام في القارة اللاتينية.

ثمة جانب آخر ألقت منظمة الصحة العالمية الضوء عليه، يتمثل في تضاعف أعداد الوفيات في البرازيل والبيرو كل أسبوعين تقريباً، مقارنة بكل شهرين في بريطانيا والولايات المتحدة، و4 أشهر في فرنسا و5 أشهر في إيطاليا. خلال الأسبوع الفائت شهدت البرازيل تسجيل أكثر من 1000 حالة وفاة يومياً، والأخطر من هذا كله أن ذروة الوباء، وفق تقدير بعض الخبراء، لا تزال على بعد أسابيع قليلة في أميركا اللاتينية.

إنفاق محدود على الرعاية الصحية

تعاني أنظمة الرعاية الصحية في مختلف دول أميركا الجنوبية من مشكلات شتى، لعل أبرزها الميزانيات المتواضعة التي تخصصها الحكومات. وتشير استطلاعات الرأي منذ سنوات إلى أن الرعاية الصحية تأتي في سلم أولويات مواطني القارة، بالنسبة للبرازيليين، وهي مشكلة تسبق الفساد والبطالة والجريمة، فيما يقول الكولومبيون إن الرعاية الصحية قضية أهم من الإرهاب والعصابات المنظمة.

تحدد منظمة الصحة العالمية حجم الإنفاق على الصحة العامة بما نسبته 6% من الناتج القومي، غير أن معظم دول القارة اللاتينية لا تستوفي هذه النسبة. وتشير دراسة صادرة عن كلية لندن للاقتصاد عام 2019 إلى إنفاق البرازيل 1.1% من الناتج القومي على الرعاية الصحية وهي النسبة الأقل في القارة، بينما تتصدر البيرو قائمة الدول الأكثر إنفاقاً مقارنة بغيرها، بنسبة 2.9%، وبشكل عام لا تجاري هذه الأرقام توصيات منظمة الصحة العالمية.

الأرقام الحقيقية أعلى بكثير

تواجه الكوادر الطبية في البرازيل، كغيرها من دول العالم، أياماً عصيبة في ظل الانتشار الواسع لوباء كورونا. غيرسون سلفادور طبيب الطوارئ في المستشفى الجامعي بمدينة ساو باولو، رغم مواظبته على العمل 65 ساعة أسبوعياً فضلاً عن الوقت الذي يقضيه في متابعة مستجدات المرض والتوصيات العالمية، يقول لـ"الشرق" إنه "لا يرى صعوبة في استقبال المرضى بل في إيقاف تفشي الفيروس نفسه"، ويتابع "لدينا الكثير من الأسئلة حول الوباء، وفي المقابل ليس هناك إلا القليل من الأجوبة. المنطقة التي أعمل بها هي البؤرة الأكبر في البرازيل، لكن لا علاج نقدمه".

يلفت سلفادور إلى أن  الأرقام الرسمية في البرازيل لا تعكس حقيقة انتشار المرض، مؤكداً أن هناك حالات كثيرة لم يُكشف عنها لعدم خضوعها للفحوص، ويضيف "يمكنني القول إن الرقم الحقيقي 7 أضعاف ما يتم الإعلان عنه".

ويتفق سلفادور مع زميله دي روسي في تحميل الحكومة مسؤولية تفشي الوباء على نطاق واسع، ويضيف "روّجت الحكومة مؤخراً بشكل خاطئ لعقار الكلوروكين واعتقد الناس أن العلاج بات متوفراً، ثم خرج الملايين من منازلهم. في الواقع لم يكن ذلك صحيحاً حيث لا علاج أو لقاح للمرض حتى الآن، كما نعاني في القطاع الطبي نقصاً في غرف العناية المركزة ومعدات الوقاية الشخصية، حيث توفي جراء ذلك العديد من العاملين في القطاع الصحي. أنا غير متفائل حيال ما أراه من فوضى".

أزمة المهاجرين تلقي بظلالها

في أزمة كورونا التي تعيشها القارة اللاتينية تتداخل الأسباب بعضها ببعض، أحدها يرتبط بأفواج المهاجرين التي تدفقت من فنزويلا عام 2016، على خلفية الانقسام السياسي وتداعياته الكارثية على اقتصاد البلاد، حيث يتوزع اليوم أكثر من 5 ملايين فنزويلي في البرازيل وكولومبيا والبيرو.

وكان من الواضح أن المنظومات الصحية في تلك البلدان لا تسمح باستيعاب كل هذا العدد، فحتى قبل جائحة كورونا كان المهاجرون يتنافسون مع السكان المحليين للحصول على الأدوية وأسرّة المستشفيات، ومع تفشي الوباء باتت الأزمة عاملاً آخر يضاف إلى معاناة القارة.

لم يكن ما يحدث اليوم، على ما يبدو، مفاجئاً للمسؤولين في البرازيل، إذ توقع وزير الصحة  السابق لويز هنريك مانديتا انهيار النظام الصحي في بلاده بنهاية شهر أبريل الفائت، لاسيما في ظل النقص الكبير في أسرّة العناية المركزة والمعدات الطبية، وهي معضلة مشتركة في جميع أنحاء القارة.

الأمازون.. وفراغ أطباء كوبا

تتركز أعلى نسبة إصابات على امتداد القارة اللاتينية في منطقة الأمازون، وفي هذا الصدد أشار المدير التنفيذي لبرنامج الطوارئ بمنظمة الصحة العالمية، الدكتور مايك ريان، إلى أن نسبة انتقال العدوى تصل إلى 490 شخصاً لكل 100 ألف من السكان، وهو معدل مرتفع للغاية مقارنة بمناطق انتشار الوباء في أماكن أخرى حول العالم.

ومن جملة التحديات التي يعيشها سكان الأمازون نقص الكوادر الطبية، غير أن هذه المشكلة ليست قديمة، فحتى نهاية عام 2017 كان هناك آلاف الأطباء الكوبيين يعملون في المناطق النائية بالأمازون، وفق برنامج مشترك بين الحكومتين البرازيلية والكوبية يطلق عليه "Mais Medicos" بمعنى "المزيد من الأطباء"، إلا أن البرنامج توقف فجأة مع وصول بولسونارو إلى الحكم عام 2018.

كان الهدف من البرنامج إرسال أطباء إلى المناطق الفقيرة والريفية التي لا تشكل عامل جذب كبير للأطباء البرازيليين، إلا أن الرئيس المنتخب المعادي بشراسة للشيوعية، شنّ خلال حملته الانتخابية هجوماً على الأطباء الكوبيين، حيث شكك في كفاءاتهم، واصفاً ظروف عملهم بأنها تشبه "العبودية" نظراً إلى أن الحكومة الكوبية تحصل على 70% من رواتبهم، فضلاً عن منع عائلاتهم من مرافقتهم.

فرض بولسونارو شروطاً جديدة على الاتفاقية مع كوبا، لترد الأخيرة بإعادة نحو 8300 طبيب في نهاية عام 2017، ما شكّل ضربة قاسية لسكان المناطق المعزولة في البرازيل الشاسعة، وقد حذّر آنذاك خبراء الصحة العامة في البرازيل من الفراغ الذي قد لا تستطيع الحكومة ملأه في ظل مغادرة أطباء كوبا.

"تويتر" يحذف منشورات الرئيس

أثارت سياسة بولسونارو في مواجهة جائحة كورونا غضب الكثير من البرازيليين، ورغم خضوعه في وقت سابق لحجر صحي بعد الاشتباه بإصابته، واصل خرق إرشادات التباعد الاجتماعي وإثارة الجدل من خلال مشاركته في مسيرات واستضافة حفلات شواء وممارسة رياضة الرماية في أوج انتشار الوباء.

مؤخراً أعلنت وسائل إعلام محلية مقاطعة بولسونارو، بعد اعتداء أنصاره على عدد من المراسلين قرب القصر الرئاسي، رداً على ما اعتبروه مؤامرة موجهة ضد الرئيس. قبل ذلك دخل موقع "تويتر" على خط المواجهة، إذ حذف تغريدات ومقاطع فيديو من حساب الرئيس البرازيلي، وُصفت بالمخالفة لتوجيهات منظمة الصحة العالمية.

بولسونارو الملقّب بـ"ترامب الاستوائي" أبدى رغبته في إنهاء إجراءات العزل العام نظراً لما تسببه من أضرار على الاقتصاد، بالتزامن مع تحذير منظمة الصحة العالمية من أن المنطقة رغم التفشي السريع لوباء كورونا لم تصل بعد إلى ذروته.