الغزو الروسي لأوكرانيا يدفع ألمانيا للتخلي عن سياستها "المترددة"

time reading iconدقائق القراءة - 10
المستشار الألماني أولاف شولتز خلال زيارته قيادة عمليات الجيش الألماني في شويلوز بألمانيا- 4 مارس 2022. - REUTERS
المستشار الألماني أولاف شولتز خلال زيارته قيادة عمليات الجيش الألماني في شويلوز بألمانيا- 4 مارس 2022. - REUTERS
دبي-الشرق

قالت مجلة "فورين أفيرز" الأميركية إن ألمانيا أجرت تحولاً هائلاً في غضون أسبوع بعد تخليها عن سياستها الخارجية، التي وصفتها بـ"المترددة والسلمية"، والتزامها بزيادة الإنفاق الدفاعي بشكل كبير، مُشيرة إلى أن صدمة الغزو الروسي لأوكرانيا دفعت برلين إلى إرسال آلاف الأسلحة المضادة للدبابات والطائرات إلى كييف.

وأضافت المجلة في تقرير، أن ألمانيا التي تعرضت للانتقاد من قبل حلفائها بسبب جهودها الضئيلة، قفزت إلى المقدمة لتلعب دوراً قيادياً في الأمن الأوروبي، إذ تسعى حالياً إلى عزل روسيا ومعاقبتها بعد استرضائها واستيعابها لعقود.

علاوة على ذلك ستسعى ألمانيا جاهدة إلى تحقيق الاستقلال عن روسيا في مجال الطاقة من خلال إنشاء مصادر طاقة محلية جديدة والتخلص من الإمدادات الروسية.

وقال المستشار الألماني أولاف شولتز في جلسة خاصة للبرلمان عُقدت الأحد الماضي: "من الواضح أننا بحاجة إلى زيادة الاستثمار في أمن بلدنا لحماية حريتنا وديمقراطيتنا"، معلناً بداية حقبة جديدة من التغيير الهائل لبلد كان يشعر بالارتياح مع الوضع الراهن منذ 3 عقود.

وقالت وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بربوك، إن ألمانيا "تترك اليوم وراءها شكلاً خاصاً وفريداً من أشكال ضبط النفس في السياسة الخارجية والأمنية".

إرث ألمانيا "القبيح"

"فورين أفيرز" قالت إن الإرث القبيح للعدوان العسكري الألماني خلال القرن العشرين أنتج عقلية ترى أن الحوار والتعددية هما الأداة الفعالة -وربما الوحيدة- للسياسة الخارجية، مُضيفة أن الجرعة غير الصحية من الخوف من الذات هي جوهر الشكوك الألمانية تجاه القوة الصارمة.

وأوضحت المجلة أن الهدف من التحالفات كان يتمثل في احتواء الآخرين، تماماً مثلماً حدث للسيطرة على الألمان، الذين لم يخشوا شيئاً أكثر من الاستدراج المتجدد نحو التسليح الأحادي.

وذكرت أن الإعلان عن هذا التحول في السياسة الألمانية قوبل ببهجة وتصفيق حار من أعضاء الأحزاب الرئيسية في البرلمان. وقال فريدريش ميرتس زعيم المعارضة المحافظة: "لقد طفح الكيل. اللعبة انتهت".

ولفتت المجلة إلى أن حكومة يسار الوسط الجديدة في برلين لم تنوِ أبداً التخلي عن نهج السياسة الخارجية للمستشارة السابقة، أنجيلا ميركل، والمتمثل في موازنة الاحتياجات الأمنية مع المصالح التجارية أو الابتعاد عن كراهية ألمانيا للصراعات العسكرية بعد الحرب، لكن بالنسبة لبرلين، فإن هجوم روسيا على أوكرانيا غيّر كل شيء. 

وأشارت إلى ما كتبه المؤرخ فريتس شتيرن، الذي نجا من الهولوكوست بعدما غادرت عائلته ألمانيا إلى الولايات المتحدة في عام 1938، في كتابه "5 جمهوريات ألمانية وحياة واحدة"، حيث قال إنه "بعد جمهورية فايمار، والرايخ الثالث النازي، وألمانيا الغربية في فترة ما بعد الحرب وألمانيا الشرقية، وألمانيا المُوحدة التي ظهرت بعد سقوط جدار برلين، فإن ما يشهده العالم الآن هو ولادة الجمهورية الألمانية السادسة، جمهورية على استعداد لاستخدام القوة العسكرية دفاعاً عن القيم الليبرالية والديمقراطية".

المحرمات السياسية القديمة

وقالت "فورين أفيرز" إن العديد من المحرمات السياسية القديمة انتهت في وقت واحد خلال الأيام القليلة الماضية، ووصفت تعليق المصادقة على "نورد ستريم 2"، خط الغاز الطبيعي الروسي الذي اكتمل في سبتمبر الماضي، وإرسال أسلحة فتاكة إلى أوكرانيا بأنهما مجرد انعكاسين لسياسة الحكومة الألمانية.

وأضافت المجلة أن ألمانيا أُصيبت بصدمة قوية من حقيقة أن القوة الصارمة تعد أداة ضرورية لحماية الديمقراطية وردع المستبدين.

وعلى مدى عقود كانت السياسة الخارجية الألمانية تقوم على أن السلام لن يتحقق في القارة باستبعاد روسيا. وتضمنت هذه العقيدة فكرة أن الاعتماد المتبادل سيساعد في استقرار العلاقة، كما أدت إلى صبر لا نهائي مع الكرملين، حتى بعد خطاب بوتين العدواني في مؤتمر ميونخ للأمن عام 2007، عندما اتهم الولايات المتحدة بزعزعة استقرار الأمن العالمي. واستمر هذا الصبر بعد غزو بوتين لجورجيا في عام 2008 وغزو أوكرانيا في عام 2014.

وعلى الرغم من قيادة ألمانيا لحملة العقوبات الأوروبية على روسيا بعد ضم شبه جزيرة القرم وتوغلها في منطقة دونباس الأوكرانية، سرعان ما وازنت برلين هذه التحركات مع عرض بناء خط أنابيب "نورد ستريم 2" في عام 2015.

وحتى في مواجهة ضغط حلف شمال الأطلسي "الناتو" وقادة أوكرانيا، بدا من غير المعقول أن تتخلى ألمانيا عن مقاومتها لتسليم الأسلحة.

وفي وقت سابق من العام الجاري، أشارت بربوك إلى الدروس المستفادة من التاريخ، حيث قالت في مؤتمر ميونيخ للأمن، فبراير الماضي، إن إمداد منطقة قتلت فيها القوات الألمانية ملايين المواطنين أثناء الحرب العالمية الثانية بالأسلحة لن يؤدي إلى مزيد من الشعور بالذنب.

وقالت المجلة إن حرب بوتين غيرت كل شيء في غضون ساعات، مؤكدة أن حرمان الأوكرانيين من الأسلحة الدفاعية (مثل القذائف الصاروخية) يعني التغاضي عن التمييز بين المذنب والضحية. 

وأضافت المجلة أن روسيا قد تكون ساعدت في هزيمة النازيين، لكنها الآن في "الجانب الخطأ من التاريخ".

وكانت الحكومة الألمانية قد أعلنت الأحد الماضي بعبارات واضحة أنها ستواجه بوتين وستدافع بقوة عن الليبرالية. ووصفت المجلة دعوة شولتز إلى تحقيق الدبلوماسية الألمانية "دون سذاجة" بأنها "نقد ذاتي".

وترى المجلة أن التفاؤل بإقناع القوى الرجعية بسياسة التغيير من خلال التجارة انتهى، موضحة أن أدوات السياسة الخارجية ستكون من مخلفات الماضي طالما ظل بوتين في السلطة في روسيا، وأن ألمانيا ستعمل على ردع سعي بوتين لتغيير موازين القوى في أوروبا.

تحول باهظ الثمن

وقالت "فورين أفيرز" إن التغيير سيكون مكلفاً، خاصة بالنسبة لقطاع الطاقة الألماني المعتمد على الاستيراد، وأشارت إلى تصريح وزير المالية الألماني، كريستيان ليندنر، أمام البرلمان بأن هذه التكلفة ستعتبر "ثمن الحرية". 

وكان شولتز قد أعلن أن بلاده ستستقل عن الطاقة الروسية. وستبني ألمانيا ميناءين للغاز الطبيعي المُسال على الفور، وستعمل على تخزين الاحتياطات الوطنية من الفحم والغاز، وستسعى إلى إبرام المزيد من العقود طويلة الأجل في سوق الطاقة الدولي وزيادة وتيرة إنتاج الطاقة، أو "طاقة الحرية" كما وصفها ليندنر.

وللتأكد من امتلاكها احتياطياً كافياً من الطاقة، قد تحتاج محطات الطاقة النووية المتبقية في ألمانيا إلى استمرار اتصالها بالإنترنت بعد نهاية العام الجاري، وهو الوقت المقرر لإغلاق هذه المحطات في إطار خطة الخروج من الطاقة النووية. وستتوقف الكثير من الأمور على خفض إمدادات الغاز الطبيعي الروسي.

100 مليار يورو لتطوير الجيش الألماني

وأضافت المجلة أن إعلان شولتز عن استثمار 100 مليار يورو في الجيش الألماني وزيادة الإنفاق الدفاعي إلى أكثر من 2% من الناتج المحلي، وهي الهدف المحدد لأعضاء الناتو، فاجأ مجتمع السياسة الخارجية، والدولة، والكثير من مجموعته البرلمانية غير المطلعين على قراره.

وأوضح شولتز أن ألمانيا لا تحتاج فقط إلى طائرات تطير، وسفن تبحر، وجنود مجهزين تجهيزاً جيداً، لكنها تحتاج قوات مسلحة حديثة تماماً.

وتحدث المستشار خلال خطابه عن الاحتمالات، التي أثارت الجدل سابقاً، مثل استخدام الطائرات المسيرة والمشاركة في ترتيبات المشاركة النووية لحلف الناتو.

وأشارت المجلة إلى عودة مسألة شراء المقاتلات "إف-35" الأميركية إلى الطاولة، وتعهد شولتز ببناء طائرة حربية مقاتلة من الجيل السادس، ونظام القتال الجوي المستقبلي الذي تطوره ألمانيا مع فرنسا وإسبانيا.

ولفتت المجلة إلى أن تصريح وزير المالية الألماني بأن ألمانيا تستهدف تحويل جيشها إلى أحد أقوى القوات المسلحة وأفضلها تجهيزاً في القارة كان سيمنحه لقب "داعي إلى الحرب" قبل أيام قليلة.

وقالت المجلة إن اختيار شولتز لكلماته كان رائعاً عندما تعهد بالدفاع عن كل متر مربع من أراضي الناتو، في إشارة إلى تعهد الرئيس الأميركي، جو بايدن، بالدفاع عن كل شبر من أراضي الحلف.

مستشار ألمانيا الحاسم

وأضافت أن تصريحات شولتز جديرة بالملاحظة بشكل خاص، لأنها جاءت من بلد تظهر فيه استطلاعات الرأي بعض التردد حول المادة 5 من ميثاق الناتو، والتي تتعلق بالدفاع المشترك، وتنص على أن الهجوم على أحد أعضاء الناتو يعد هجوماً على جميع أعضائه.

وكان يُنظر إلى شولتز الذي تولى منصبه في ديسمبر الماضي، على أنه متردد وضعيف خلال الأسابيع القليلة الأولى لتوليه منصبه، لكن خطابه وقراراته بثت حياة جديدة في حكومته، بحسب المجلة.

وقالت المجلة إن النهج الحاسم للمستشار الألماني سد الفجوة بين ألمانيا وشركائها، ويفتح العديد من فرص السياسة الخارجية الجديدة. 

وتعتبر إدارة بايدن ألمانيا شريكاً لا غنى عنه في أوروبا، ويمثل ذلك أمراً ضرورياً للادعاء بأن التحالفات تقوي الولايات المتحدة، وليست مجرد استنزاف للموارد.

وأضافت المجلة أن ألمانيا -بمساعدة قليلة من بوتين- أسكتت منتقديها الآن، خاصة في الكونجرس الأميركي، حيث كان السيناتور الجمهوري تيد كروز يقود كتيبة من المشككين في برلين.

وأشارت إلى تقارير تفيد بأن الحكومة الفرنسية سعيدة للغاية لأن ألمانيا يمكن أن تصبح الآن الشريك الأمني الجاد الذي كانت تبحث عنه منذ وقت طويل.

وترى "فورين أفيرز" أن آثار هذه القرارات ستكون أكثر وضوحاً في شرق برلين، الذي يسمح لألمانيا بإصلاح علاقاتها مع دول البلطيق والدول الحلفاء في الناتو الآخرين على الجانب الشرقي، والتي كانت قد بدأت تعتبر ألمانيا أنانية، وفي بعض الأحيان صديقة لروسيا.

ويمثل إرسال وحدات إضافية إلى ليتوانيا، ونشر القوات على الأراضي السلوفاكية لأول مرة، وتوسيع نطاق المراقبة الجوية في رومانيا مجرد بداية لعملية طويلة من المرجح أن تشهد إرسال المزيد من القوات الألمانية إلى أوروبا الشرقية.

وقد يعجل هذا الاتجاه من تخلي الناتو عن القانون التأسيسي للعلاقات المشتركة والتعاون والأمن بين روسيا والناتو لعام 1997، الذي يحد من انتشار قوات الحلف في الدول الأعضاء في أوروبا الشرقية، التطور الذي وصفته المجلة بأنه "حتمي".

اقرأ أيضاً:

تصنيفات