لماذا يفشل اللبنانيون في انتخاب رئيس؟

time reading iconدقائق القراءة - 13
كرسي الرئاسة اللبنانية في قصر بعبدا بالعاصمة بيروت يبدو فارغاً بعد انتهاء ولاية ميشال عون رسمياً- 1 نوفمبر 2022 - REUTERS
كرسي الرئاسة اللبنانية في قصر بعبدا بالعاصمة بيروت يبدو فارغاً بعد انتهاء ولاية ميشال عون رسمياً- 1 نوفمبر 2022 - REUTERS
بيروت-تيما رضا

يتحضر اللبنانيون إلى دخول الشهر الثاني من الفراغ الرئاسي، الذي بدأ بانتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في 31 أكتوبر الماضي، من دون أن تلوح في الأفق، أي مؤشرات على قرب انفراج الأزمة الرئاسية.

الجلسة النيابية السابعة التي عقدها مجلس النواب، الخميس، بهدف انتخاب رئيس جديد للبلاد، لم تفض إلى نتيجية، ليبقى الواقع على حاله، متمثلاً بانقسام المجلس بأكثريته بين خيارين: الورقة البيضاء واسم ميشال معوض (سياسي ونائب لبناني ونجل الرئيس الراحل رينيه معوض).

بناء على ما تقدم، بإمكان أي متابع للأزمة اللبنانية أن يتساءل: لماذا لم يتم انتخاب رئيس للجمهورية حتى اليوم؟ أو ما الذي يُعيق الانتخابات الرئاسية؟ وقد يقف المتابع أمام سؤال أبسط من ذلك بكثير، ألا وهو: كيف يُمكن لزعماء بلد مسؤولين أن يستمروا بتجاذابتهم السياسية غير آبهين بما يرزح تحته شعبهم من أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة؟

خطان متوازيان

النظر إلى الخريطة السياسية اللبنانية، يُشبه النظر إلى متاهة متشابكة من حيث الطوائف والتحالفات السياسية التي قد يصعب على غير اللبنانيين الإلمام بتفاصيلها كافة، كما يصعب شرحها كذلك، إذ أنها تبدو في كثير من الأحيان عصية على الفهم، انطلاقاً من بُعدها عن المنطق العام لإدارة البلد.

وفي ضوء هذا الواقع السياسي، تُجمع معظم القوى السياسية في لبنان على أنه "ما لم تحصل معجزة، فإنه لا سبيل لانتخاب رئيس في العام الحالي".

الكاتب والمحلل السياسي الدكتور مكرم رباح قال لـ"الشرق"، إن "قوى الأمر الواقع في لبنان، أي حزب الله وحلفاؤه، يتحكمون بمفاصل البلد، ويسعون إلى التعطيل إلى حين الوصول لتسوية ترضيهم"، مذكراً بأنهم (القوى ذاتها) "عطلوا البلد قبل عهد ميشال عون بعامين ونصف العام".

ورأى رباح أن "الوضع اللبناني لا يحتمل تسويات، فما أوصل البلد إلى الانهيار الذي نشهده هي التسويات". وزاد: "نحن بحاجة إلى رئيس سيادي يتحمل مسؤولية النهوض بلبنان والإصلاح الحقيقي".

وليس خافياً على أحد، أن الانتخابات الرئاسية في لبنان دخلت الدوامة ذاتها التي تطبع معظم الاستحقاقات الكبرى، من انتخاب رئيس جمهورية إلى تشكيل الحكومات، وترتبط هذه الدوامة بالشرخ السياسي العمودي على مستوى النخبة السياسية اللبنانية، التي تنقسم بين خطين متوازيين.

الخط الأول، المعروف بقوى "الممانعة"، هو صاحب الورقة البيضاء في صندوق الاقتراع. ويشمل هذا الخط ما يُسمى "الثنائي الشيعي"، أي "حزب الله" و"حركة أمل"، ومعهم من الحلفاء "تيار المردة" الذي يرأسه سليمان فرنجية(اسمه مطروح كمرشح للرئاسة)، و"التيار الوطني الحر" برئاسة جبران باسيل (يطرح نفسه كمرشح رئاسي) والذي يُمثل واحدة من أكبر الكتل النيابية المسيحية في لبنان، إضافة إلى بعض الشخصيات السنية والدرزية اللبنانية المعارضة لزعماء طوائفها في الداخل.

أما الخط الثاني، فيُطلق عليه "السيادي"، وهو سبق أن صوّت للمرشح المعلن الوحيد إلى رئاسة الجمهورية رئيس حزب "حركة الاستقلال" ميشال معوض. ويتمثّل هذا الخط في "حزب القوات اللبنانية" برئاسة سمير جعجع، وذلك بالتحالف مع شخصيات مسيحية و"الحزب التقدمي الاشتراكي" بزعامة وليد جنبلاط.

ويتقارب مع الخط "السيادي" حزب "الكتائب اللبنانية" برئاسة سامي الجميل (نجل الرئيس الأسبق أمين الجميل)، مع الإبقاء على تمايزه من خلال رفضه الدائم أن يتم التعامل معه كجزء من السلطة التقليدية، معتمداً على مواقفه السياسية خلال السنوات العشر الأخيرة، والتي رفض خلالها المشاركة بالحكومات المتعاقبة، كما رفض التسوية التي دخل بها جعجع وأدت إلى انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية لمدة 6 سنوات توصف بـ"العجاف" كونها شهدت وصول لبنان إلى الانهيار الاقتصادي التام.

لا أغلبية مطلقة

مع دعوة رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري لأول جلسة انتخاب لرئيس للجمهورية في سبتمبر الماضي، عملاً بأحكام الدستور اللبناني وتجنباً للفراغ الرئاسي، تحول البرلمان إلى هيئة ناخبة، لا يحق لها التشريع وإنما تجتمع حكماً لانتخاب رئيس للبلاد.

وينص الدستور اللبناني على ضرورة حضور نصاب من 86 نائباً من أجل التصويت للرئيس، على أن ينال 65 صوتاً ليُعتبر رابحاً من الدورة الأولى، و بالأكثرية المطلقة في الدورة الثانية. ومنذ الجلسة الأولى لانتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفاً لعون يعمد نواب خط "الممانعة" إلى تطيير نصاب الجلسة الثانية.

وتعليقاً على ذلك، قال الإعلامي قاسم قصير لـ"الشرق" إن "لا أحد في البرلمان يملك الأغلبية المطلقة. أي من الفريقين لا يملك أغلبية الأصوات الـ65 أو نصاب الـ 86، ولذلك تبدو قدرة الطرفين على انتخاب رئيس شبه معدومة من دون توافق".

ورأى قصير أن "قدرة الطرفين على التعطيل ثابتة، وفي حال طرح الخط الآخر اسماً من دون التوافق عليه، سيلجأ الفريق الآخر للتعطيل".

"الورقة البيضاء"

وبدت الورقة البيضاء صاحبة الأكثرية المطلقة حتى الجلسة السابعة، إذ نالت 50 صوتاً، يليها النائب ميشال معوض الذي حصل على 42 صوتاً، أما الباقي فكان عبارة عن أصوات مُشرذمة تُمثل باقي النواب.

وهناك كتلة من النواب المنفردين في البرلمان اللبناني، يحاولون التكتل من أجل التحول إلى قوى مؤثرة، لا قيادة واضحة لهم وإن كان أبرز وجوههم النائب أشرف ريفي (وزير داخلية سابق). لكن هذه المجموعة ليست محكومة بأي تحالف وما يجمعها هو معارضة "الخط الممانع"، وتاريخها يرتبط برئيس الحكومة السابق سعد الحريري المنسحب من الحياة السياسية. وعلى الرغم من النفي المستمر لهذا الارتباط، إلا أن هذه الكتلة متهمة بأنها من "فلول تيار المستقبل".

هذه المجموعة التي اعتمد أكثريتها التصويت لـ "لبنان الجديد" ليست الوحيدة التي تُعتبر من الأصوات المتأرجحة، فكذلك نواب الحزب التقدمي الاشتراكي الذين صوتوا حتى الآن لمعوض، يُعتبرون حتى الدقيقة الأخيرة من الأصوات التي يمكن أن تنقلب لصالح ما يسمى بالرئيس "التوافقي"، وهو ما عبّر عنه مراراً وليد جنبلاط (زعيم الحزب).

ويبقى النواب الـ13، الذين خرجوا من رحم ما يسمى "الحراك المدني" الذي شهده لبنان في 17 أكتوبر 2019، إذ دفعت الانتخابات الرئاسية إلى تشرذم هؤلاء حتى باتوا مادة دسمة للنكات "الساخرة".

ولم تنفع محاولة لملمة صفوف هؤلاء النواب ليشكلوا ما يعرف بـ"تكتل التغيير"، إذ سرعان ما انفصل النائب ميشال دويهي عنهم اعتراضاً على عدم إكمال المبادرة الرئاسية التي بدأها النواب الـ13، وتبعه النائب وضاح الصادق الذي أعلن أنه قادم "من صلب حركة 14 آذار" وقال إن ميشال معوض يمثله كرئيس، وانضم في الجلسة السابعة اليه النائب مارك ضو في التصويت لصالح معوض.

"مقاربات مختلفة"

وفي حديث لـ"الشرق"، قال المحامي والمرشح السابق للانتخابات النيابية بدعم من حراك 17 أكتوبر الدكتور علي مراد إن "الحاصل بين النواب هو اختلاف في مقاربة الملف الرئاسي، وطبيعة التكتيك التي يمكن اعتمادها، و ضرورة إيجاد آليات عمل، والاتفاق على الوجهة السياسية العامة بظرف سياسي صعب".

وشدد على أن "الآمال المعقودة عليهم تُحمّلهم مسؤولية كبيرة، خصوصاً أننا أمام فراغ رئاسي طويل، ومن هنا تُعقد آمال كبيرة على هؤلاء النواب بالتحديد، لأنهم من خارج الاصطفافات السياسية، ويمكنهم لعب دور إيجابي".

ومنذ 3 جلسات انتخابية خلت، يعمد 6 نواب ممن تطلق عليهم تسمية "نواب ثورة 17 أكتوبر" (الحراك الشعبي الذي اندلع في 2019)، يعمدون إلى التصويت للدكتور عصام خليفة (أستاذ جامعي ونقابي سابق)، وهو من أشد المعارضين لعملية ترسيم الحدود البحرية التي جرت بين لبنان وإسرائيل، ويطالب بمحاكمة ميشال عون والموقعين على الاتفاقية بتهمة "الخيانة العظمى والتفريط بثروات لبنان في الخط 29، والموافقة على الترسيم على الخط 23 الذي أرادته إسرائيل".

ويبدو أن الإجماع على مناقبية خليفة في صفوف النواب الـ13، لم ينسحب على إجماع بشأن قدرته على إدارة المرحلة المقبلة، حتى أن بعض المصوتين له كالنائبة بولا يعقوبيان أعربت أكثر من مرة عن أن مرشحها هو صلاح حنين (نائب سابق)، داعيةً إلى لالتفاف حوله كخيار سيادي حقيقي من دون امتدادات خارجية (في إشارة إلى ميشال معوض المعروف بعلاقاته الجيدة مع الأميركيين).

من المعرقل؟

الورقة البيضاء، التي عرّفناها أعلاه بأنها ورقة خط "الممانعة"، يعتبرها المنتمون إلى هذا الخط  بمثابة "اليد الممدودة إلى التوافق". والتوافق هنا، هو ما يراه البعض "بدعة يلجأ إليها السياسيون اللبنانيون منذ سنوات، وتأتي على شكل سلّة تشمل الحصص السياسية في الحكومات والتعيينات، وتجلّى آخرها بانتخاب ميشال عون رئيساً بعد سنتين ونصف من الفراغ الرئاسي".

وفي مرحلة الدعوة إلى التوافق أو التسوية الرئاسية، يضع الفرقاء السياسيون شروطهم على الطاولة، فالأمين العام لـ"حزب الله" اللبناني يُريد رئيساً "يحمي ظهر المقاومة" (على حد وصفه)، ومرشحه الأول هو زعيم "تيار المردة" سليمان فرنجية، بينما أول المعارضين لفرنجية هو حليف "حزب الله" الأول زعيم التيار الوطني الحرب جبران باسيل، الذي يرى أن فرنجية "غير جدير بالرئاسة" (بحسب ما صرح به أخيراً).

ولطالما أكد باسيل أنه كرئيس أكبر كتلة نيابية مسيحية يعتبر "الأَولى بالرئاسة". وسبق أن قال الرئيس المنتهية ولايته ميشال عون (والد زوجة باسيل) إنه حتى وإن كانت العقوبات الأميركية المفروضة عليه تُشكل عقبة، إلا أن من حقه تسمية الرئيس الذي يراه مناسباً. وهنا تظهر مشكلة أخرى، فإذا رضخ "حزب الله" لابتزاز حليفه القوي (باسيل)، فإن حليفه نبيه بري (حليف حزب الله) رئيس "حركة أمل" الذي يُعد من ألد "خصوم" جبران باسيل، وذلك رغم المصالح المشتركة التي تجمعهما، لا يبدو في وارد القبول بالأخير رئيساً.

هكذا، تبدو الاتهامات المتبادلة سيدة الموقف في المشهد السياسي اللبناني، إذ تُوحي بأن المختلفين على سدة الرئاسة لا يشعرون بفداحة الواقع المعيشي الذي يرزح تحته اللبنانيون. ويغيب في الوقت ذاته الكلام عن الإصلاح ومكافحة الفساد، والواقع المعيشي والاقتصادي المتأزم لصالح الخلاف على ما يوصف لبنانياً بـ"سلة التسوية".

وبينما يرفض "حزب الله" وحلفاؤه وصفهم بـ"المعطلين" للانتخابات الرئاسية، ويعتبرون أن عدم طرح أي مرشح آخر بدل ميشال معوض من قبل الفريق الآخر هو بمثابة "قطع للطريق على التوافق"، يرى جماعة "الخط السيادي" في عدم طرح اسم مرشح واضح من قبل "الممانعة"، والإمعان بتطيير النصاب بعد الدورات الأولى في الجلسات، "تعطيلاً متعمداً في محاولة لفرض رئيس يُوافق على شروط حزب الله وسلاحه"، مؤكدين أن ذلك "غير مقبول".

ويُكرر الأفرقاء السياسيون أن الاستحقاق شأن لبناني داخلي، وهو الإنجاز ذاته الذي احتفوا به بانتخاب ميشال عون رئيساً، إلا أن عمق الشرخ الحاصل هذه المرة يُوحي ببعد أي تسوية حقيقية، وخصوصاً في ظل تقارب أعداد الأكثرية النيابية بين خطي الممانعة والسيادة مع قبول الطعن المقدم من قبل فيصل كرامي ضد النائب رامي فنج المحسوب من بين النواب الـ13، الممثلين لما يعرف بـ"الحراك". هكذا، يكون عدد نواب خط "الممانعة" قد زاد نائباً على حساب النواب المعارضين للسلطة بشقيها.

وفي حين، تتأمل القوى المعارضة لـ"حزب الله" حدوث تغيّر يطرأ على المشهد الإقليمي، وخصوصاً في إيران (نظراً لتبنيها ورعايتها لحزب الله) في ضوء الاحتجاجات المتواصلة هناك منذ سبتمبر الماضي، تتجه الأنظار إلى قائد الجيش العماد جوزيف عون، على أن يكون الشخصية التوافقية، وهو ما تم اعتماده بالتسويات السابقة، سواء بانتخاب إميل لحود ومن بعده ميشال سليمان، وحتى ميشال عون الذي كان قائداً سابقاً للجيش، ويختلف عن سابقيه بأنه يقود حزباً سياسياً أيضاً.

كما قد يتم اللجوء إلى قائد الجيش، لأنه يُمثل المؤسسة الوحيدة الصامدة في وجه الانقسامات السياسية، والتي يعتبرها اللبنانيون كافة بمثابة ضمانة جامعة لهم، وتقف على مسافة واحدة من الجميع.

وفي وقت يرى مكرم رباح "أن الفراغ ليس أخطر من الإتيان برئيس محكوم من حزب الله"، يعتبر قاسم قصير "أننا بانتظار انفراج داخلي أو تدخل خارجي ينعكس إيجابا على الانتخابات الرئاسية، علماً أنه لا يبدو قريباً".

يبقى أن في لبنان قضايا كبرى وشائكة لا آراء متقاربة حولها، على غرار سلاح "حزب الله"، وامتداد لبنان الإقليمي وعلاقته بالخارج، والقطاع المصرفي، وشكل الحكومة المقبلة، وتعيين حاكم جديد لمصرف لبنان، والإصلاحات الاقتصادية، والتحقيق في انفجار مرفأ بيروت.

اقرأ أيضاً:

تصنيفات