كان عام 2022 فاصلاً في الطريقة التي اعترفت بها الولايات المتحدة بالصين كقوة عظمى منافسة، إذ لم تحدد إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في استراتيجية الأمن القومي الأميركي، الصادرة في أكتوبر الماضي، بكين على أنها أهم تحد أمني لها فحسب، بل أعلنت أيضاً بشكل لا لبس فيه أن حقبة ما بعد الحرب الباردة قد انتهت.
وأشارت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية إلى التنافس بين الولايات المتحدة والصين على أنه أشبه بالحرب الباردة، باعتباره عداء بين قوتين عظميين، مضيفة أنه إذا كان موقف القوة أحادي القطب للولايات المتحدة هو السمة المميزة لحقبة ما بعد الحرب الباردة، فإن التحول إلى هيكل قوة ثنائي القطب بين الولايات المتحدة والصين سيشكل نظاماً عالمياً جديداً.
وترى المجلة أن التنافس بين الولايات المتحدة والصين فريد من نواح كثيرة، وتزودنا طبيعته بمعلومات بارزة عن النظام العالمي الجديد واستقراره، والدور الذي يمكن أن تلعبه الحنكة السياسية.
ومن حيث توازن القوى، يشبه التنافس بين الولايات المتحدة والصين الحرب الباردة، وهو عداء آخر بين قوتين عظميين. ولهذا السبب، وصف مستشار إدارة أوباما السابق لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ إيفان ميديروس، اجتماع نوفمبر بين الرئيس الأميركي جو بايدن والرئيس الصيني شي جين بينج في بالي بإندونيسيا بأنه "أول قمة للقوى العظمى في النسخة الثانية من الحرب الباردة".
وقد أثار هذا المخاوف، وخاصة في أوروبا، بشأن عودة ظهور الكتل المتنافسة، وأيضاً قلق بين الدول النامية بشأن الوقوع في وسط هذه المنافسة.
لكن القطبية الثنائية الجديدة بين الولايات المتحدة والصين هي حقيقة ناتجة عن عدة عقود من النمو الاقتصادي والعسكري الصيني، الذي أغلق الفجوة مع الولايات المتحدة.
كذلك، يعتبر هيكل السلطة ثنائي القطب عموماً أكثر استقراراً من هيكل متعدد الأقطاب، لذلك يجب على قادة مثل المستشار الألماني أولاف شولتز، الذي تحدث عن نظام متعدد الأقطاب، أن يكونوا حذرين فيما يرغبون فيه.
عالم أقل استقراراً
وعلى الرغم من سباقات التسلح والأحداث المتوترة، تميز التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، بدرجة عالية من الاستقرار وغياب الصراع المسلح المباشر بين القوتين العظميين. لهذا السبب أطلق المؤرخ جون لويس جاديس على حقبة الحرب الباردة اسم "السلام الطويل".
ومع ذلك، قد لا تكون جميع الأنظمة ثنائية القطب مستقرة بنفس القدر. وهناك أسباب وجيهة للاعتقاد بأن بنية التنافس ثنائية القطب بين الولايات المتحدة والصين ستجعل العصر الجديد أقل استقراراً من الحرب الباردة.
وعندما يكون الاستقرار البنيوي أضعف، تصبح الحاجة أقوى إلى الحنكة السياسية وحواجز الحماية لإدارة النظام.
5 عوامل
وذكرت "فورين بوليسي" أنه هناك خمسة عوامل هيكلية ستجعل العصر الجديد ثنائي القطب أقل استقراراً من الحرب الباردة.
أولاً، يتسم التنافس بين الولايات المتحدة والصين بديناميكية تحول في القوة غير مستقرة. وتظهر الأدلة التاريخية أن هناك خطراً حقيقياً من نشوب حرب كبرى عندما تهدد قوة صاعدة بتجاوز هيمنة قوة آخذة في التراجع، وأشارت المجلة إلى مثال الإمبراطورية الألمانية الصاعدة التي كانت تسعى جاهدة من أجل الارتقاء بمكانتها في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى.
وتقول المجلة إنه لم يكن للحرب الباردة هذه الديناميكية، فقد برزت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي كقوتين عظميين من رماد الحرب العالمية الثانية، وكانتا منافستين متساويتين من الناحية العسكرية منذ البداية.
وتضيف أن الوضع الحالي مختلف، إذ تلحق الصين تدريجياً بالولايات المتحدة. وعلاوة على ذلك، من خلال قوتها الاقتصادية، فإن إمكانات الصين كقوة عظمى أعظم من إمكانات الاتحاد السوفييتي في أي وقت مضى.
فضلاً عن ذلك، ولأن المؤسسة العسكرية الصينية لا تزال أقل شأناً في هذه المرحلة، فهناك حيز أقل للتفاوض على اتفاقيات الحد من التسلح، ومن ثم لن تكون الصين راغبة في وضع سقف للتطوير العسكري من شأنه أن يجعل مكانتها المتدنية تراوح مكانها.
وتشير تصريحات ترددت مؤخراً إلى أن الصين ربما تكون قد تجاوزت بالفعل الولايات المتحدة في عدد الرؤوس الحربية النووية على صواريخها الباليستية العابرة للقارات.
ولكن من حيث إجمالي المخزون النووي، بما في ذلك الرؤوس الحربية المنشورة على الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، والصواريخ الباليستية التي تطلق من الغواصات، والقاذفات الاستراتيجية، فضلا عن الرؤوس الحربية النووية غير النشطة، لا يزال مخزون الصين النووي صغيراً نسبياً مقارنة بمخزون الولايات المتحدة.
مسرح التنافس
العامل الثاني، هو أنه على النقيض من الحرب الباردة، فإن المسرح الرئيسي للتنافس العسكري بين الولايات المتحدة والصين هو البحر، وهي بطبيعتها أقل استقراراً وأكثر عرضة لخطر حرب محدودة.
وسمح التركيز الرئيسي للحرب الباردة على المسرح البري الأوروبي بظهور "استراتيجية الانتقام الهائل"، مما ردع بقوة أي محاولات لعبور الخط الثابت الذي يقسم أوروبا.
ومن غير المرجح أن يشكل استخدام القوة العسكرية من قبل القوتين العظميين في المياه الآسيوية تهديداً وجودياً لأي من الدولتين أو المخاطرة بحرب نووية. فقد تستخدم الصين الأسلحة النووية إذا تم غزوها، لكن من غير المرجح أن يخاطر القادة الصينيون بحرب شاملة مع الولايات المتحدة إذا تم تدمير بعض سفنهم فحسب.
وأشارت المجلة إلى أن هذا يزيد من خطر نشوب حرب محدودة في المياه الآسيوية. ولكن حتى حرب محدودة في البحر بين قوتين عظميين يمكن أن يكون لها عواقب وخيمة على الاستقرار الإقليمي والاقتصاد العالمي.
خطر تايوان
ثالثاً، تشكل تايوان مصدراً آخر لعدم الاستقرار في النظام ثنائي القطب الجديد. وكان أقرب مكافئ لها خلال الحرب الباردة هو مدينة برلين المقسمة، حيث وقعت العديد من المواجهات المتوترة بين القوى العظمى.
وتمثل تايوان أكبر خطر لحرب القوى العظمى في عصر التنافس بين الولايات المتحدة والصين، مع ديناميكيات تصعيد غير مؤكدة من حيث الانتشار الجغرافي واستخدام الأسلحة.
وأضافت "فورين بوليسي" أن العامل الرابع أن مجالات النزاع الجديدة في الفضاء والمجال السيبراني توفر لواشنطن وبكين سبلاً إضافية للإكراه والتعطيل.
وقد تتراوح الهجمات الإلكترونية من التخريب والسرقة والتجسس إلى ما يسمى "بيرل هاربور الرقمي"، في إشارة إلى هجوم إلكتروني مفاجئ كبير ومتطور من أجل تشكيل البيئة قبل نشوب صراع عسكري أو تأخير أو ردع رد الطرف المنافس.
ولفتت المجلة الأميركية إلى وجود خطر حقيقي من التصعيد غير المقصود؛ بسبب القدرات السيبرانية في المستقبل بين الصين والولايات المتحدة. ومن الممكن أيضاً أن تكون هناك ديناميكية مماثلة داخل المجال الفضائي، إذ تؤدي الضربات الوقائية على الأقمار الصناعية أو بواسطتها إلى تصعيد غير محسوب العواقب.
الاعتماد المتبادل
خامساً، خلافاً للنظرية القائلة بأن الاعتماد المتبادل يقلل من خطر الحرب، فإن المستوى المرتفع من الترابط الاقتصادي والتكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين يحتمل أن يكون أكثر عرضة للصراع خلال الحرب الباردة.
وترى المجلة أن المستوى العالي من الاعتماد المتبادل بين الصين والاقتصاد العالمي؛ هو السبب الذي يجعل بعض المراقبين يفضلون استخدام تسميات أخرى غير "الحرب الباردة" عند وصف النظام ثنائي القطب بين الولايات المتحدة والصين، مما يشير إلى مصطلحات مثل التعايش التنافسي، أو التعايش البارد، أو التعايش الصراعي.
لكن مستوى الاعتماد المتبادل في التنافس بين الولايات المتحدة والصين يترك مجالاً أكبر للحرب الاقتصادية مما كان عليه الحال خلال الحرب الباردة. وفي هيكل السلطة ثنائي القطب، تنظر القوتان العظميان إلى الاعتماد المتبادل على أنه ضعف وبالتالي تسعيان إلى الحد منه.
وعملية فك الارتباط هذه، الجارية الآن، ستخلق احتكاكاً بين القوتين العظميين، وبين الولايات المتحدة وحلفائها، وداخل النظام الاقتصادي الدولي.
على سبيل المثال، تؤدي حرب التكنولوجيا بين الولايات المتحدة والصين إلى نوع جديد من الصراع، إذ ترد الصين على العقوبات الأميركية من خلال إطلاق نزاع في منظمة التجارة العالمية. وسوف تتحدى الحرب الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين النظام الاقتصادي الدولي بطرق جديدة.
بالإضافة إلى ذلك، توضح المخاوف التي أعرب عنها شولتز والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن حرب باردة جديدة تحفظات حلفاء الولايات المتحدة بشأن فك الارتباط.
وتقول المجلة إن الأبعاد الهيكلية الخمسة السابق ذكرها (تحول القوة الديناميكي، والتنافس البحري الأقل استقراراً بطبيعته، وتايوان كنقطة ساخنة، والتقنيات الفضائية والسيبرانية الجديدة، والمخاطر المرتبطة بالترابط الاقتصادي) تشير إلى أن هيكل التنافس بين الولايات المتحدة والصين قد يكون في الواقع أكثر هشاشة من التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
وتضيف أنه سوف تكون هناك حاجة إلى الحنكة السياسية الحكيمة والسليمة من كلا الجانبين؛ لتطوير قواعد اللعبة ثنائية القطب الجديدة وتعديلها باستمرار.