"ثمة علاقات محدودة في العالم، أكثر حيوية من تلك بين الولايات المتحدة والهند. إننا الديمقراطيتان الرائدتان في العالم، وتنوّعنا يغذي قوتنا الوطنية"، هذا ما قاله وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، خلال زيارته نيودلهي الشهر الماضي.
ويعكس ذلك رؤية الولايات المتحدة إلى الهند، بوصفها أحد أهم شركائها لكبح النفوذ المتنامي للصين، في منطقة المحيطين، الهندي والهادئ، ناهيك عن محاولة إبعاد الهند عن صديقتها التقليدية، روسيا.
خلال زيارة بلينكن للهند، تعهد ونظيره الهندي، سوبراهمانيام جايشانكار، بتوسيع الشراكة الأمنية بين بلديهما، فيما لم تخفِ واشنطن رغبتها في نيل مساعدة من نيودلهي، لعزل بكين. وعزّز الجانبان بشكل مطرد علاقاتهما العسكرية، وأبرما اتفاقات عسكرية، علماً بأن الولايات المتحدة والهند هما جزء من تحالف "الرباعي" (كواد)، الذي يضم أيضاً اليابان وأستراليا، ويركّز على القوة الاقتصادية والعسكرية المتنامية للصين، التي ترى في هذا التحالف محاولة لاحتواء طموحاتها.
بدا أن النزاع الحدودي المتجدد في جبال الهيمالايا، بين الهند والصين، والذي أسفر عن ضحايا ودفع البلدين إلى حشد عشرات الآلاف من العسكريين، يدفع نيودلهي إلى التقرّب أكثر من واشنطن، التي ترى في الهند حليفاً طبيعياً في مواجهة الصين.
"ثقل موازن محتمل للصين"
صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية أوردت في تقرير لها، أن بلينكن قد يكون استنتج أن لدى الولايات المتحدة خيارات ضئيلة أفضل من الهند، لكبح الصين. وأضافت: "رغم التقدم التكنولوجي وثقل الاستثمار في اليابان، فإن مجتمعها المسنّ وتراجع عدد سكانها، يحدّان من قدراتها على المدى البعيد، بوصفها شريكاً أمنياً. ورغم الامتداد القاري لأستراليا ووفرة مواردها الطبيعية، إلا أن عدد سكانها ضئيل، أقلّ من عدد سكان كندا".
وتابعت أن ذلك يعني أن الهند هي الوحيدة، من شركاء الولايات المتحدة في "كواد"، التي يتيح لها عدد سكانها، وموقعها الجغرافي، أن تكون بمنزلة "ثقل موازن محتمل للصين". ولفتت إلى أن الانتعاش المرتقب في الهند بعد جائحة فيروس كورونا، وتوقُع "صندوق النقد الدولي" أن ينمو اقتصادها بنسبة 9.5% هذا العام، سيساعدان المسؤولين الأميركيين على التغاضي عن أي مخاوف لديهم، بشأن كونها شريكاً سياسياً وأمنياً واقتصادياً لواشنطن، علماً بأن بلينكن شدد في نيودلهي على أن "كواد ليس تحالفاً عسكرياً".
لكن وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، ذكر خلال زيارته الهند، في مارس الماضي، أن تعزيز التعاون العسكري مع الدولة الآسيوية، يشكّل أولوية بالنسبة إلى إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن.
تقارب واشنطن ونيودلهي
صحيفة "وول ستريت جورنال" ذكرت أن واشنطن ونيودلهي تقاربتا خلال العقدين الماضيين، بدءاً من اتفاق سياسي تاريخي، أضفى شرعية على الترسانة النووية الهندية، وأتاح بيع نيودلهي تكنولوجيا نووية مدنية من الولايات المتحدة.
وأضافت أن الصفقات العسكرية بين الجانبين، التي كانت شبه معدومة في عام 2008، بلغت أكثر من 20 مليار دولار في عام 2020. وأبرم البلدان اتفاقات لتعزيز تعاونهما العسكري، وتشمل معاهدات تتيح مشاركة معلومات استخباراتية عسكرية، واستخدام قواعد الطرفين كي تجدّد قوات الأمن عتادها وتتزوّد بالوقود.
وخلال التوتر بين الهند والصين العام الماضي، أجّرت واشنطن لنيودلهي طائرتين مسيّرتين للمراقبة. كما تقترب الهند من إبرام صفقة مع الولايات المتحدة، لشراء 30 طائرة مسيّرة مسلّحة تبلغ قيمتها نحو 3 مليارات دولار.
ونقلت الصحيفة عن سريرام تشوليا، عميد كلية الشؤون الدولية في جامعة "أو بي جيندال جلوبال" الهندية، قوله: "الضغط التوسّعي الإقليمي للصين، وتصديرها العدواني لتكنولوجيا الجيل الخامس من الإنترنت، ودبلوماسية مصيدة الديون في المحيطَين الهندي والهادئ، بلغت مستويات لم يعُد فيها كبح علاقة شبه تحالف بين الهند والولايات المتحدة، أمراً منطقياً".
الهند و"إس-400"
لكن علاقات الولايات المتحدة بالهند تشهد توتراً، نتيجة خطط نيودلهي لشراء نظام الدفاع الصاروخي الروسي "إس-400"، في صفقة قيمتها 5 مليارات دولار.
وأثار أوستن مرة أخرى، اعتراض واشنطن على الصفقة، خلال زيارته نيودلهي، خصوصاً أنه كان قد تلقى رسالة من رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، روبرت مينينديز، ورد فيها: "إذا اختارت الهند المضيّ في شراء إس-400، فإن هذا الفعل سيشكّل بوضوح صفقة مهمة، وبالتالي خاضعة للعقوبات (الأميركية)، مع قطاع الدفاع الروسي".
واعتبرت آشلي تيليس، وهي باحثة في "معهد كارنيجي للدراسات"، أن الصفقة الهندية الروسية "قد تكون أصعب مشكلة تربك الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والهند".
وترفض نيودلهي التراجع عن الصفقة، علماً بأن روسيا تشكّل منذ فترة طويلة، أبرز مصدر للمعدات العسكرية للهند، كما أن إمداداتها من قطع الغيار وخدمات الصيانة، ضرورية لاحتياجاتها الدفاعية. ويرى مخططون عسكريون هنود في "إس-400" أداة مهمة ضد باكستان والصين.
وذكرت "وول ستريت جورنال" أن هذه الصفقة تعكس أيضاً جهود الهند لإصلاح علاقاتها بروسيا، التي توترت بعدما نوّعت نيودلهي مشترياتها من الأسلحة، بما في ذلك من الولايات المتحدة.
وأفاد "معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام" بأن 62% من واردات الهند من الأسلحة كانت من روسيا، بين عامَي 2013 و2017، في مقابل 79% في السنوات الخمس السابقة. وأضاف أن مشتريات الهند من المعدات العسكرية الأميركية خلال الفترة ذاتها، زادت بأكثر من 500% عن السنوات الخمس السابقة.
وذكر هارش بانت، رئيس الدراسات الاستراتيجية في "مؤسسة أوبزرفر للأبحاث" (مقرها نيودلهي)، أن المسؤولين الهنود يتوقّعون أن تتفهم الولايات المتحدة أن بلادهم لا تستطيع قطع علاقاتها بروسيا، أو أن تسمح بانحرافها عن مسارها، مضيفاً أن فرض عقوبات سيكون "مزعجاً جداً ويحيي نقاشات وشكوكاً قديمة في الهند، بشأن جدول أعمال الولايات المتحدة".
"مرونة" أميركية مع نيودلهي
في السياق ذاته، أفاد معهد "كاتو" الأميركي للدراسات السياسية، بأن الهند أوضحت منذ فترة طويلة أنها لا تريد أن تصبح أداة لسياسة الولايات المتحدة. ونقل عن وزير الخارجية الهندي قوله إن الولايات المتحدة كانت تتباهى سابقاً بأنها "تدير تحالفاً"، وبأن "هناك طريقة واحدة لممارسة الأعمال التجارية، وهي على طريقتنا". واستدرك أنها باتت الآن "أكثر انفتاحاً على التفكير بما يتجاوز التحالفات"، متحدثاً عن "مرونة" في التعاون العسكري، من دون توجيه انتقادات أميركية لسلوك بلاده.
أما السفير الهندي السابق في واشنطن، أرون سينج، فذكّر بأن غالبية المخزون الدفاعي لبلاده لا يزال من أصل روسي، مشدداً على أهمية أن تُظهر الولايات المتحدة لمواطنيه أنها "شريك موثوق".
وقال لشبكة "سي إن بي سي" الأميركية: "في إطار (التعامل مع) الصين، ترى الولايات المتحدة الهند بوصفها شريكاً مهماً جداً. أعتقد بأن ذلك سيكون، بصرف النظر عن نقاط القوة في العلاقات الثنائية، المعيار المحدّد للمضيّ في العلاقات بين الجانبين".
وأشار معهد "كاتو" إلى ميل الهند إلى الاتحاد السوفيتي، والولايات المتحدة إلى باكستان، خصوصاً خلال حرب في عام 1971، أسفرت عن تأسيس دولة بنجلاديش، ناهيك عن سعي واشنطن إلى عرقلة برنامج نيودلهي للتسلّح النووي، لكن العلاقات تحسنّت خلال إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، ثم أثناء عهدَي باراك أوباما ودونالد ترمب.
وأضاف أن الزعيمين، الهندي جواهر لال نهرو والصيني ماو تسي تونج، التقيا في عام 1954، وجمعهما العداء للولايات المتحدة. لكن نزاعاً حدودياً أدى إلى حرب وجيزة، في عام 1962، مُنيت خلالها الهند بـ "هزيمة مذلّة".
الهند وتجربة اليابان وتايوان
ويبلغ اقتصاد الصين الآن نحو 5 أضعاف حجم اقتصاد الهند، كما أن نيودلهي تعجز عن مجاراة تطوير بكين ترسانتها العسكرية. وأعلنت الهند، في عام 2020، عن موازنة عسكرية تقارب 74 مليار دولار، في مقابل 178 ملياراً للصين، كما أوردت صحيفة "نيويورك تايمز".
وأشار تقرير معهد "كاتو" إلى أن الصين تعتبر الهند "دولة من الدرجة الثانية، وليست قوة عظمى متكافئة". وأضاف: "انتُخب ناريندرا مودي رئيساً للوزراء، في عام 2014، متعهداً بتحرير الاقتصاد وتسريع إصلاحات أخرى. بدت الهند مستعدة لتجاوز الصين، كي تصبح الاقتصاد الأسرع نمواً في العالم. لسوء الحظ، فيما اتخذ خطوات إيجابية، كثف أيضاً سيطرة الدولة، ممّا أدى إلى تثبيط روح المبادرة، وشيطنة الاقتصاد، مدمّراً الشركات الصغيرة". وأشار إلى فوزه في الانتخابات الأخيرة، غالباً من خلال تأجيجه النزعة القومية للمتطرفين الهندوس.
ونقل المعهد عن جدعون راشمان، أبرز معلقي الشؤون الدولية في صحيفة "فاينانشال تايمز"، قوله إن ثمة "تلميحات إلى أن الهند قد تفكر في تحالف رسمي مع الولايات المتحدة"، مشيراً إلى أن مفكراً هندياً مقرّباً من حكومة مودي لاحظ أن "أحد الأسباب التي قد تجعل الصين تشعر بحرية في قتل جنود هنود، ولكن ليس قوات يابانية أو تايوانية، هو أن اليابان وتايوان تحتميان بمظلّة أمنية أميركية".
الاستقلال الاستراتيجي
موقع "آسيا تايمز" اعتبر أن بلينكن قلّل، خلال مؤتمره الصحافي مع نظيره الهندي في نيودلهي، من أهمية "خطوط الصدع في العلاقات الأميركية – الهندية، واتساع الهوة بين البلدين بشأن ملفات، مرتبطة بأفغانستان وتوزيع لقاحات مضادة لكورونا، وقضايا حقوق الإنسان".
وأشار إلى تبنّي إدارة بايدن "سياسات تدخلية في ملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون، ما يثير حساسيات حكومة ناريندرا مودي".
واعتبر أن الإدارة تنظر إلى الهند "بشكل أو بآخر، كما تفعل إزاء تركيا بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان". وتحدث الموقع عن "خيبة أمل عميقة في نيودلهي بشأن الطريقة غير المسؤولة" لسحب الولايات المتحدة قواتها من أفغانستان، تاركة البلد في "فوضى، ومهددة الأمن الإقليمي والاستقرار، ومليارات الدولارات من الاستثمارات الهندية في البلد".
ولفت معهد "هيريتدج" الأميركي للدراسات إلى أن السياسة الخارجية للهند، وهي من مؤسّسي حركة عدم الانحياز، استرشدت بعد استقلال البلاد، في عام 1947، بمبدأ عدم الانحياز بوصفه "مكوّناً مركزياً للهوية الهندية في السياسة العالمية"، والذي منع الهند من التورّط بالحرب الباردة، والتحالف مع الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفيتي. ومع انتهاء الحرب الباردة، تلاشت جاذبية مبدأ عدم الانحياز، الذي خلفه مبدأ جديد في السياسة الخارجية: الاستقلال الاستراتيجي.
لكن تهديد بكين أرغم نيودلهي على النأي عن عدم الانحياز، حيث تلقت مساعدات طارئة وإمدادات عسكرية من واشنطن، خلال الحرب الصينية – الهندية في عام 1962. وجُمّدت المساعدات العسكرية الأميركية لنيودلهي خلال الحرب الهندية – الباكستانية، في عام 1965. وعشية حرب هندية – باكستانية أخرى، في عام 1971، وقّعت نيودلهي اتفاقاً دفاعياً مع موسكو.
"حرق جسور الصداقة"
معهد "كارنيجي" أشار إلى أن توجّه روسيا نحو الصين، والهند نحو الولايات المتحدة، "يحرق تدريجياً جسور الصداقة" بين البلدين. وأضاف أن واشنطن هي أبرز شريك تجاري لنيودلهي، إذ بلغ التبادل بينهما 80 مليار دولار، ويرتفع المبلغ إلى نحو 150 ملياراً، إذا احتسبت الخدمات والسلع.
ونبّه إلى "حدود للتقارب" بين الهند والولايات المتحدة، إذ إن "المجتمع الهندي ينظر بريبة إلى أميركا"، كما أن التعاون مع واشنطن "كان دوماً قضية سامة بالنسبة إلى الساسة الهنود".
ورجّح المعهد ألا تبرم الهند تحالفاً عسكرياً مع الولايات المتحدة، مستدركاً أن ثمة مشكلتين أساسيتين في العلاقات الهندية - الروسية الآن، أولهما أن موسكو ليست قادرة على توسيع علاقاتها مع نيودلهي، خارج حدود التعاون في قطاعَي الدفاع والطاقة. ورغم دعوات إلى زيادة حجم التجارة بين الجانبين إلى 30 مليار دولار، بحلول عام 2025، إلا أنه لم يتجاوز 10 مليارات دولار في السنوات الماضية. وتتمثل المشكلة الثانية في أن صدام روسيا مع الولايات المتحدة، يرغمها على الميل نحو الصين في آسيا، في خطوة تمسّ علاقاتها بالهند، كما أن علاقات موسكو مع إسلام آباد، تزعج نيودلهي.
يعتبر السفير الهندي السابق في بكين، جوتام بامباوالي، أن "الصين خسرت الهند بشكل استراتيجي"، مشيراً إلى أن بلاده "تقف الآن بقوة مع الولايات المتحدة". لكن موقع "ذي هيل" الأميركي يرى أن "الهند لن تصبح حليفة للولايات المتحدة، ولن تتخلّى عن علاقاتها الوثيقة بروسيا"، بل "ستشقّ طريقها الخاص في هيكل قوة دولي متعدد الأطراف بشكل متزايد". وأضاف أن "على صنّاع السياسة الأميركيين أن يتعاملوا مع الهند بجرعة كبيرة من الواقعية"، وأن يتخلّوا عن "أمل التحالف معها". وتابع: "إذا استمروا في هذه الأوهام، فمن المؤكد أنهم سيُصابون بخيبة شديدة".
اقرأ أيضاً: