ظهر ملف الإجهاض فجأة كقضية يمكن أن تعيد تشكيل المعركة بين الديمقراطيين والجمهوريين للسيطرة على الكونجرس، في أعقاب تسريب مشروع قرار المحكمة العليا الأميركية الثلاثاء، ينقض حُكماً أصدرته هذه الهيئة القضائية الأعلى في الولايات المتّحدة قبل نصف قرن، واعتبرت بموجبه حرية الإجهاض "حقاً مكرّساً" في الدستور الأميركي.
وإذا أصدرت المحكمة العليا قرارها بالصيغة التي سرّب بها مساء الاثنين، فهذا يعني أن حظر الإجهاض أو السماح به سيعود إلى كل ولاية على حدة.
وأتى التسريب في وقت يستعد فيه كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري لانتخابات التجديد النصفي، والتي يأمل فيها الحزب الديمقراطي الحفاظ على سيطرته على الأغلبية البسيطة بمجلسي النواب والشيوخ، وسط محاولة جمهورية شرسة لاستعادة المجلسين.
وتوقع مراقبون أن يشحذ قرار المحكمة المحتمل الناخبين الليبراليين للتصويت للحزب الديمقراطي الذي يأمل أيضاً في الحصول على الكتلة الأكبر من أصوات النساء وهن الفئة المتأثرة بقرار المحكمة.
ويتوقع أن يكون للتسريب تأثير كبير على اتجاهات التصويت بانتخابات التجديد النصفي في نوفمبر، إذ بدأ الديمقراطيون بالفعل في استخدام قضية الإجهاض في حملاتهم الانتخابية.
وفيما لا يملك البيت الأبيض خيارات واسعة لمواجهة قرار المحكمة حال صدوره، إلا أن هناك مسارات تشريعية تضع مطالب ديمقراطية بتوسيع المحكمة العليا وإلغاء آلية المماطلة بالكونجرس والتي تمنح الجمهوريين سيطرة على مشاريع القوانين الهامة، في صدارة المشهد مرة أخرى.
لكن تلك الخيارات نفسها إشكالية ولا يتوقع تمريرها وفقاً لخبراء ومراقبين.
حق الإجهاض
وأفادت صحيفة "بوليتيكو"، مساء الاثنين، استناداً إلى مسودّة قرار أن المحكمة الأميركية العليا تعتزم إلغاء الحُكم التاريخي الذي أصدرته في 1973 واعتبرت فيه أن حق النساء في الإجهاض مكرّس في دستور الولايات المتحدة.
وقالت الصحيفة إن معلوماتها تستند إلى مسودّة قرار وافق عليها أعضاء المحكمة بالأكثرية ومؤرّخة في 10 فبراير وصاغها القاضي المحافظ ساميويل أليتو، لكنّ هذا النصّ لا يزال مدار نقاش بين أعضاء المحكمة بانتظار صدوره بصيغته النهائية قبل نهاية يونيو.
وفي 1973 أصدرت المحكمة العليا في ختام نظرها بقضية "رو ضدّ ويد" حُكماً شكّل سابقة قضائية إذ أنه كفل حق المرأة في أن تُنهي طوعاً حملها ما دام جنينها غير قادر على البقاء على قيد الحياة خارج رحمها، أي لغاية حوالي 22 أسبوعاً من بدء الحمل.
وأكدت المحكمة العليا الأميركية، في بيان، صحة المسودة التي وصفتها بأنها "جزء روتيني وأساسي من العمل السري للمحكمة"، إذ يوزع القضاة مسودات الآراء داخلياً بغرض التداول.
وقالت المحكمة إنه على الرغم من أن الوثيقة صحيحة "إلا أنها لا تمثل قراراً صادراً عن المحكمة أو الموقف النهائي لأي عضو بشأن القضية".
تشكك ديمقراطي
ثمة إجماع واسع أن حكماً بإلغاء حق الإجهاض في الولايات المتحدة سيساعد الديمقراطيين في بعض المقاطعات، ما يمهد لتقليص خسائرهم عبر جذب أصوات النساء في الضواحي والذين دعموهم في انتخابات 2018.
لكن القليل فقط يعتقدون أن هذا سيكون كافياً لمواجهة انتخابات نصفية حامية الوطيس وسط أرقام متدنية لشعبية الرئيس بايدن حسبما ذكرت صحيفة "بوليتيكو" الأربعاء.
وقال أحد القائمين على استطلاعات الرأي للديمقراطيين، إن القضية ستساعد "على الهوامش" ولكن الحفاظ على الأغلبية بمجلسي الشيوخ والنواب يحتاج إلى انخفاض معدلات التضخم.
وفتحت القضية نقاشاً أيضاً بشأن الدرجة التي يجب أن يميل فيها الحزب إلى استخدام رسالة حقوق الإجهاض لتحفيز ناخبيه بدلاً من التركيز بشكل أساسي على تكلفة المعيشة ونمو الوظائف.
وفي هذه النقطة قالت جوليان روجينسكي، وهي خبيرة استراتيجيات بالحزب الديمقراطي: "الناخبون في انتخابات التجديد النصفي يهتمون أولاً وأخيراً بالقدرة على توفير تكاليف المعيشة، فهم لا يقلقون يومياً بشأن فقدان القدرة على الحصول على حق الإجهاض".
وأضافت أن مخاوفها تتمحور حول كون أن الديمقراطيون أحياناً ما يعتمدون في رسالتهم على ما يأملون في أن يهتم الناخبون به بدلاً من التركيز على ما يهتم بها الناخبين حقاً".
"مهمة صعبة لا يحالفهم فيها التاريخ"
الصحافية اللبنانية المتخصصة في شؤون الكونجرس الأميركي، رنا أبتر، رأت أن قرار المحكمة العليا، سيكون له تأثير مباشر على الانتخابات التشريعية. مشيرة إلى التصريحات الصادرة عن أعضاء مجلس الشيوخ والنواب من الحزبين وكذلك البيت الأبيض، والتي تمحورت في غالبيتها حول أهمية الانتخابات النصفية.
وقالت أبتر في تصريحات لـ"الشرق"، إن تلك التصريحات تعني أن الديمقراطيين سيستغلون القضية لتحميس الناخبين في التصويت لهم على أمل الحفاظ على الأغلبية بالمجلسين، فيما سيركز الجمهوريون على قضايا ارتفاع التضخم والاقتصاد لمهاجمة الحملات الانتخابية للمرشحين الديمقراطيين الذي بدأوا بالفعل في ذكر قضية الإجهاض.
لكن فيما بات من المؤكد اعتماد الديمقراطيين في جزء من رسالتهم للناخبين على قضية الإجهاض، إلا أن نجاحهم في جذب أصوات كافية للحفاظ على الأغلبية "مهمة صعبة" إذ لا يقف التاريخ والتقليد الأميركي إلى جانبهم حسبما قالت أبتر.
وتابعت: "الحفاظ على الأغلبية مهمة صعبة لأنه بطبيعة الحال وكما هو متعارف عليه في الولايات المتحدة هناك دوماً حزب الأغلبية الذي يخسر في الانتخابات النصفية إذا ما كان يتمتع بمنصب الرئاسة، وهذا هو الحال. الديمقراطيون لديهم البيت الأبيض وأغلبية في المجلسين، وتاريخياً تقلب الانتخابات النصفية الموازين في الكونجرس وعلى الأرجح سيخسر الديمقراطيون".
المحلل السياسي المقيم بواشنطن طارق الشامي، رأى أن استفادة الديمقراطيين من قضية الإجهاض ستقتصر على الولايات المتأرجحة بالنسبة لمقاعد مجلس الشيوخ، والمناطق الحضرية المتأرجحة بالنسبة لمرشحي مجلس النواب، لكن نجاح مرشحي الحزب سيكون مرهوناً بمدى نجاح الديمقراطيين في إقناع المحافظين المؤيدين لحق الاختيار في قضية الإجهاض بأن يكون تصويتهم في صناديق الاقتراع يوم الانتخابات على هذا الأساس.
وأضاف أنه "قد يكون من الصعب تقدير التوجهات العامة للناخبين حالياً نظراً لوجود عوامل أخرى هامة مثل التضخم والهجرة التي سيكون لها أثر مهم في التصويت".
وتابع: "فرص الديمقراطيين في الحفاظ على مجلس الشيوخ ربما تكون أفضل كونهم حاولوا الحفاظ على 14 مقعداً يشغلونها الآن مقابل 21 مقعداً يحاول الجمهوريون الحفاظ عليها".
"تسريب مدروس"
العضو بالحزب الديمقراطي، سامح الهادي، رأى في تصريحات لـ"الشرق"، أن التسريب جاء "في وقت مدروس وله دلالات شديدة الأهمية".
وقال إنه يعتقد في رأيه الشخصي الذي لا يمثل الحزب، إن التسريب سببه أحد القضاة الليبراليين في المحكمة وعدد أسبابه لذلك.
وأشار الهادي إلى أن التسريب ذهب لمنصة معروف أنها ليست محافظة على الأقل في الوسط المحلي الأميركي، كما أنه جاء بعد مجموعة مشاورات وتسريب مسبق حول نفس الموضوع، مضيفاً: "هذا نسق اعتدنا عليه تاريخياً فالتسريب يقيس اتجاه الرأي العام ويمنح القضاة المعاكسين للرأي العام فرصة لتغيير وجهة نظرهم.
وقال إنه مع اقتراب موسم الانتخابات من المهم بالنسبة للحزب الديمقراطي، أن يستمر في الحفاظ على شعبيته ضمن الداعمين لحريات الإجهاض والمساواة في الأجور وحقوق المثليين ودعم حقوق المهاجرين واللجوء للولايات المتحدة.
وشدد على أن "هذه الكتلة الانتخابية نواة مهمة لاستمرار سيطرة الحزب الديمقراطي النسبية أو البسيطة على مجلسي النواب والشيوخ، وهذا التسريب يدعم وجهة نظر الحزب الديمقراطي في ضرورة وجود صوت قوى لصالح الحريات المدنية والليبرالية في هيئة المحكمة العليا وهذا سيزيد من الكتلة التصويتية الخاصة الداعمة للديمقراطيين".
ليست عاملاً حاسماً
ولكن الهادي اعتبر في حديثه لـ"الشرق"، أنه من الصعب الاعتماد على قضية الإجهاض وحدها كعامل حاسم في استمرار سيطرة الحزب الديمقراطي على الكونجرس.
وتابع: "هذه القضية مع مجموعة أخري من القضايا الشائكة ستكون داعمة لصالح استمرار الحزب ولكنها لن تكون مهمة سهلة"، وأشار الهادي إلى أن قضية التضخم ستلعب دوراً سلبياً.
وشدد على أنه من الصعب التنبؤ الآن بخيارات الإدارة الفيدرالية إذا ما أصبح قرار المحكمة نهائياً، لكن على مستوى الولايات التي يحكمها حكام ديمقراطيون قد يختلف الوضع.
وأشار في هذا السياق إلى حاكمة ولاية ميشيجان، جريتشين ويتمر التي تقدمت بطلب لمحكمة الولاية العليا لتحصين قرارات الولاية من نفوذ المحكمة العليا إذا ما صدر الحكم بالتقييد الكامل لحق الإجهاض.
ولكن الهادي قال إنه لا يعتقد أن الحكم النهائي سيأتي بتقييد كامل لحق الإجهاض وإنما سيعتمد على "موائمة ترضي الطرفين، إذ تضع قيوداً على الوصول لحق الإجهاض دون أن تلغيه كلياً".
وأضاف الهادي أن كل شيء وارد في هذه السنة التي يحاول الجميع فيها العمل لصالح جذب أكبر عدد من الأصوات.
ورأى أن احتفاظ الحزب بأغلبيته في الكونجرس أمر "شديد الصعوبة"، نظراً للميل التاريخي للناخب الأميركي لعدم منح السلطة بأركانها الثلاثة لصالح حزب واحد.
خيارات بايدن
لا تملك إدارة الرئيس الأميركي الكثير من الخيارات لمواجهة قرار المحكمة العليا، فالخيار الوحيد الذي يتمتع به الديمقراطيون لمواجهة قرار المحكمة هو إقرار الكونجرس لقانون يجعل حق الإجهاض قانوناً رسمياً في الولايات المتحدة.
لكن المعضلة في طرح من هذا النوع بحسب الصحافية المتخصصة بالشؤون الأميركية، رنا أبتر، أنه يحتاج إلى 60 صوتاُ لتمريره، وهو ما وصفته بـ"المستحيل"، إذ أن الديمقراطيون لديهم 50 صوتاً في المجلس ولا يتفق جميع الديمقراطيين على حق الإجهاض وأشارت في هذا السياق إلى السيناتور الديمقراطي المعتدل جو مانشين بولاية فيرجينيا والذي يتوقع ألا يصوت معهم على هذه القضية.
ومضت قائلة: "تشريعياً من الممكن أن يقر الكونجرس قانوناً للتصدي لقرار المحكمة العليا ولكن هذا صعب".
معضلة التحرك بالكونجرس
الخيار الذي يفكر به بعض الديقراطيون وهو إقرار تشريع في الكونجرس الأميركي لحماية حق الإجهاض على المستوى الفيدرالي، يواجه معضلة من نوع آخر وهو "الفيليباستر" أو آلية المماطلة.
ووفق آلية المماطلة لا تمرر بعض القوانين الهامة بمجلس الشيوخ، إلا بحصولها على 60 صوتاً، وهو ما يمنح الأقلية في المجلس السيطرة على مشاريع القوانين تلك.
وتعد المطالبة بإلغاء آلية المماطلة أحد الأمور الرئيسية التي طالب بها ديمقراطيون بعد تولى بايدن السلطة، ولكن لهذا أيضاً ما يعوقه، فهذا الخيار يعرف سياسياً بـ"الخيار النووي" لخطورته سياسياً، وإضافة لذلك فإن الديمقراطيون يحتاجون إلى 50 صوتاً في المجلس وهو ما لا يتحقق لهم.
وتضيف أبتر: "الديمقراطيان المعتدلان بمجلس الشيوخ جو مانشين في فيرجينيا وكريستين سينما في ولاية أريزونا، رفضا الأمر بشكل قاطع، لذا من الصعب إنهاء هذه الاستراتيجية التي يعتمد عليها حزب الأقلية وليس الأغلبية لأنها تعطيه السلطة على مجلس الشيوخ تحديداً".
توسيع المحكمة العليا
أعاد تسريب مسودة المحكمة العليا الدعوات الديمقراطية إلى توسيع المحكمة الدستورية العليا ليضم تشكيلها أكثر من 9 قضاة وهي الدعوات التي بدأت قبل تولي بايدن السلطة.
في عام 2016 توفي قاضي المحكمة العليا المحافظ أنتونين سكاليا، ورشح الرئيس باراك أوباما حينها ميريك جارلاند ليحل محله في المحكمة لكن الجمهوريون رفضوا عقد جلسات استماع وتذرع زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ حينها، ميتش ماكونيل بأن سكاليا توفي في عام انتخابات ولا يمكن السماح للرئيس أوباما بوضع قاض في المحكمة.
وظل مقعد سكاليا في المحكمة خالياً حتى تولى دونالد ترمب السلطة وعين القاضي المحافظ نيل جورسيتش في مقعده.
وفي 2018 سنحت الفرصة لترمب لتعيين قاضي ثان في المحكمة بعدما أعلن القاضي الليبرالي أنثوني كينيدي تقاعده، ورشح ترمب بريت كافاناه في يوليو 2018.
"حقل ألغام"
وفي سبتمبر 2020 سنحت الفرصة لترمب للمرة الثالثة لتعيين قاض في المحكمة العليا بوفاة القاضية الليبرالية روث بايدر جينسبرج، ليعين أيمي كوني باريت في أكتوبر قبل أسابيع قليلة من الانتخابات الرئاسية، ليميل تكوين المحكمة بشكل واضح لصالح المحافظين الذين باتوا يملكون 6 من أصل 9 مقاعد في المحكمة.
وينظر كثيرون إلى تعيين ترمب 3 قضاة محافظين بالمحكمة العليا على أنه إرثه الحقيقي في الحكم والذي ستظل له آثار طويلة المدى نظراً إلى أن قضاة المحكمة يعينون في هذا المنصب مدى الحياة ولا يمكن عزلهم.
تلك الحقائق أدت إلى تجدد دعوات توسيع الديمقراطيين للمحكمة العليا، ولكن رنا أبتر ترى أن هذا الأمر "مستبعد لأنه حقل ألغام، إذ أن بايدن إذا ما اعتمد على خطوة من هذا النوع ما الذي يمنع الرئيس المقبل من إضافة المزيد من القضاة".
واعتبرت أن توسيع المحكمة "قرار سياسي حرج جداً وقد يكون بايدن منفتحاً عليه ولكن تطبيقه صعب".