أحلام موسكو وكوابيس كييف.. هل يحرك التاريخ الأزمة الأوكرانية؟

time reading iconدقائق القراءة - 14
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستمع إلى رئيس أركان القوات المسلحة فاليري جيراسيموف أمام شاشة ضخمة تظهر خريطة أوكرانيا خلال الاجتماع السنوي لمجلس وزارة الدفاع في موسكو- 21 ديسمبر 2021 - AFP
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستمع إلى رئيس أركان القوات المسلحة فاليري جيراسيموف أمام شاشة ضخمة تظهر خريطة أوكرانيا خلال الاجتماع السنوي لمجلس وزارة الدفاع في موسكو- 21 ديسمبر 2021 - AFP
موسكو -الشرق

بينما ترتكز أنظار العالم على مخاطر انزلاق الوضع نحو حرب في أوكرانيا وعليها، مع كل التداعيات "المدمرة" المحتملة على روسيا وجارتها الأقرب، يتداول متابعو الأزمة بنشاط معطيات عن الحشود العسكرية المتبادلة واستعدادات الأطراف، فيما يغيب عن المشهد جزئياً، البُعد التاريخي لعلاقة ظلت على مدى قرون ملتبسة بين موسكو وكييف.

ولعل مقالب التاريخ، وضعت طموحات الهيمنة السياسية والتوسع الجغرافي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أمام إعادة كتابة السردية التاريخية لهذه العلاقة، بين النظرية السائدة التي تشير إلى أن كييف تحديداً هي "أم المدائن" الروسية، وأنها كانت عاصمة إمبراطورية وليدة قبل ألف عام، ومساعي الكرملين تثبيت رواية بديلة تقوم على أنه لا وجود في التاريخ لأوكرانيا من دون الشقيق الروسي الأكبر.

وعلى مدى قرون، دلت دروس التاريخ على أن الأمبراطورية الروسية كانت تضعف وتتقلص إذا خسرت أوكرانيا، وقد يفسر هذا الواقع في جانب منه أهمية المواجهة القائمة حالياً بالنسبة إلى الكرملين.

وينسب البعض إلى القائد العسكري الروسي كوتوزوف الذي قاد المواجهة مع جيوش نابليون عام 1812 ونجح في هزيمتها، متعاوناً مع "الجنرال ثلج" أقوى أسلحة روسيا الشاسعة، مقولة ظلّت تحدد على مدى قرون شكل العلاقة بين روسيا وأوكرانيا: "روسيا هي سيف الإمبراطورية، وأوكرانيا هي الدرع".

وبوتين الذي يقرأ التاريخ جيداً، يدرك أن خسارة الدرع، ستشكل بداية النهاية لأحلام استعادة الإمبراطورية.

"روس الكييفية"ونفي تاريخ أوكرانيا

يُنظر إلى المفكر السياسي والمؤرخ الروسي ألكسندر دوجين على أن له تأثيراً في سياسات الكرملين في عهد بوتين، وكتب الرجل أخيراً: "بالنسبة إلى المراقبين الأجانب، فإن الصراع بين الشعبين الأرثوذكسيين السلافيين الشرقيين، اللذين لهما أصل مشترك من روس الكييفية، هو شيء غريب وغير مفهوم".

والمشكلة الأوكرانية "توحي بأن قوة ثالثة لها يد في هذا الصراع، أي الأميركيون أنفسهم، الذين حاولوا وضع الشعبين ضد بعضهما البعض، ومن خلال دعم أوكرانيا لتوجيه ضربة لروسيا والتي تعيد إحياء تاريخها بفضل الإصلاحات الوطنية لبوتين".

ويرى دوجين أن السردية المتعلقة بالأزمة الأوكرانية "لا علاقة لها بالواقع على الإطلاق"، لأنها تنطلق من "تقديم الصراع على أنه مواجهة بين دولتين روسيا وأوكرانيا"، ويعيب على الساسة ووسائل الإعلام في الغرب تقديم القضية كما لو أن أوكرانيا دولة منفصلة لها تاريخها الطويل، ضمّها البلاشفة قسراً إلى الاتحاد السوفييتي في عشرينيات القرن الماضي، وأنه عندما انهار النظام الشيوعي، استعادت أوكرانيا استقلالها على الفور.

وانطلاقاً من تكريس قراءة حديثة للتاريخ تقوم على أنه "قبل الاتحاد السوفييتي، لم تكن أوكرانيا ولا بيلاروسيا موجودتين كدولتين منفصلتين، إلّا في إطار إمارتيّ جاليسيا- فولينيا وبولوتسك في العصور الوسطى".

ويردف: "تتكون أراضي الكيان السياسي الجديد أوكرانيا، الذي نشأ عام 1991، من أقاليم وشعوب غير متجانسة كلياً"، ويخلص إلى أن "صيغة نورماندي واتفاقيات مينسك (لتسوية الأزمة الأوكرانية)، تهدف في الواقع فقط إلى خفض التصعيد، ولكن على المدى الطويل وحتى على المدى المتوسط لا تحل أي شيء".

وعليه "لا يمكن أن يكون هناك سوى حل واحد لهذا الوضع: تقسيم أوكرانيا إلى قسمين، مع الاعتراف بالسيادة السياسية لكلا النصفين، الضفة اليمنى الغربية لأوكرانيا، ونوفوروسيا (روسيا الجديدة) مع منح وضع خاص لكييف، عاجلاً أم آجلاً سيحدث هذا التقسيم".

وتقول الصحافية الروسية الأميركية ماشا جيسين، إن الرئيس فلاديمير بوتين "يتبنى أيضاً فكرة تقسيم أوكرانيا بدفعه لتحديد مصيرها من خلال مفاوضات بينه وبين الزعماء الأوروبيين، أما إذا لم ترغب أوروبا في المشاركة في التقسيم، فإن روسيا ستتصرف بشكل منفرد".

وفي هذه الحالة، يمكن لشرق أوكرانيا أن يصبح مثل بريدنيستروفيا (ترانسنيستيريا)، التي تُعتبر رسمياً جزءاً من مولدوفا، ولكنها تخضع لحكم حكومة انفصالية موالية لموسكو منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، أو أوسيتيا الجنوبية، وأبخازيا اللتين انفصلتا بشكل أحادي عن جورجيا بمساعدة من موسكو في 2008، أو شبه جزيرة القرم التي تم الاستيلاء عليها عام 2014".

ومن الملاحظ أن ثمّة تطابقاً واسعاً، من حيث الجوهر، في المنطلقات بين ما يطرحه وينظر له دوغين وما يؤمن به بوتين من أفكار تجد طريقها في الاستراتيجيات والسياسات التي يشتقها الكرملين، ويعمل على محاولة فرضها في علاقة روسيا مع دول الاتحاد السوفييتي السابق، ولا سيّما ما يخص أوكرانيا، لاستعادة نفوذ وهيمنة روسيا القيصرية.

بوتين: لا سيادة لأوكرانيا دون روسيا

في مقالة له نشرت على موقع الكرملين الإلكتروني، تحت عنوان: "حول الوحدة التاريخية بين الروس والأوكرانيين" في يوليو 2021، يرى الرئيس الروسي فلايديمير بوتين أن "أوكرانيا الحديثة هي نتاج خالص للحقبة السوفييتية، ونحن نعلم ونتذكر جيداً أنها قد تشكلت بمعظمها على أراضي روسيا التاريخية، وليس نتاج تطور تاريخي يعود لقرون خلت".

ويدلل بوتين على رؤيته، قائلاً: "للتأكد من ذلك يكفي أن ينظر المرء إلى حدود الأراضي التي توحدت مع الدولة الروسية في القرن الـ 17 وأراضي جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفييتية، عندما انفصلت عن الاتحاد الأوروبي".

وأضاف: "في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي شجَّع البلاشفة سياسة التوطين التي اتخذت شكل (الأكرنة) في جمهورية أوكرانيا السوفييتية.. ولا شك أن سياسة التوطين لعبت دوراً رئيسياً في تطوير وتعزيز الثقافة واللغة والهوية الأوكرانية، وفي الوقت ذاته وتحت ستار ما سُمي (محاربة شوفينية القوة العظمى الروسية)، كانت (الأكرنة) غالباً ما تفرض على أشخاص لا يعتبرون أنفسهم أوكرانيين، وقد أمنت هذه السياسة السوفييتية الوطنية على مستوى الدولة المساحة لـ3 شعوب سلافية منفصلة: وهم الروس والأوكرانيون والبيلاروس، بدلاً من أمة روسية كبيرة موحدة".

وفي إنكار منه لتبلور الهوية الأوكرانية كصيرورة تاريخية، يزعم بوتين أنه في النصف الثاني من القرن الـ19، وعلى خلفية سعي قادة الحركة القومية البولندية في استغلال القضية الأوكرانية لمصلحتهم الخاصة، بعد صدور تعميم "فالويف" عام 1863 ثم تعميم "إم أوكاز" عام 1876، اللذين حظرا نشر واستيراد الأدب الديني والاجتماعي من اللغة الأوكرانية، "بدأت فكرة الشعب الأوكراني كأمة منفصلة عن الأمة الروسية بالتشكل، والانتشار بين النخب البولندية، وبعض المثقفين المالوروسيين".

"أم المدائن الروسية"

ونظراً لعدم وجود أسس تاريخية، واستحالة وجود مثل هذه الأسس، فقد جرت محاولات لتثبيت هذه الادّعاءات بجميع أنواع التلفيقات التي وصلت إلى حد الادّعاء بأن الأوكرانيين "هم السلاف الحقيقيون"، وأن الروس وسكان موسكو ليسوا كذلك، وأصبحت مثل هذه الافتراءات تستخدم بشكل متزايد لأسبابٍ سياسية كأداة للتنافس بين الدول الأوروبية.

ويشدد فلاديمير بوتين في مقالته على أن "الروس والأوكرانيين والبيلاروسيين هم جميعاً من سلالة روسيا القديمة التي كانت أكبر دولة في أوروبا"، وكانت القبائل السلافية وغيرها في هذه المنطقة الشاسعة من لادوجا ونوفغورود وبسكوف إلى كييف وتشيرنيجوف، ترتبط مع بعضها بلغة واحدة (اللغة التي نعرفها اليوم بالروسية القديمة)، وبروابط اقتصادية وبحكم أمراء سلالة روريك، وبعد معمودية روسيا القديمة بالإيمان الأرثوذكسي. ولا يزال الخيار الروحي الذي اتخذه القديس فلاديمير الذي كان أمير نوفجورود والأمير الأكبر في كييف، هو ما يحدد إلى حد كبير ارتباطنا ووحدتنا اليوم".

وكدلالة على ما تمثله العاصمة الأوكرانية كييف في الوعي الجمعي الروسي والمعتقد الديني الأرثوذكسي والذي يشمل الشعبين الأوكراني والبيلاروسي حسب من يتبنون السردية التاريخية الروسية لنشوء وتطور الإمبراطورية الروسية، يقول بوتين في مقاله: "احتل عرش كييف موقعاً مهماً في روسيا القديمة، وهذا ما كان متعارفاً عليه منذ القرن التاسع، وقد خلدت رواية (قصة الأيام الماضية) كلمات القديس أوليج عن كييف حين قال: فلتكن "أم المدائن الروسية لأجيالٍ قادمة".

وفي استحضار لغوي تاريخي ببعد رمزي، لا يخلو من محاولة توظيفه في المشروع الجيوسياسي لروسيا، يؤكد بوتين في مقالته أن كلمة "أوكرانيا" كانت "تستخدم غالباً بمعنى كلمة "أوكراينا" باللغة الروسية القديمة، والتي تعني المحيط أو الحدود، والتي وجدت مكتوبة في مصادر ترجع إلى القرن الـ12، للإشارة إلى المناطق الحدودية. 

وكلمة “أوكراني” وفقاً للوثائق الأرشيفية، كانت في الأصل تستخدم للإشارة إلى حرس الحدود الذين يقومون بحماية الحدود الخارجية للبلاد"، وينطلق بوتين من هذه النقطة محذراً القيادة الأوكرانية والغرب بالقول: "لن نسمح على الإطلاق باستخدام أراضينا التاريخية، والناس القريبين منّا الذين يعيشون عليها ضد روسيا".

أوكرانيا المعاصرة.. منحة "البلشفيين"

اللافت أن بوتين لم يسعَ فقط إلى نسف السردية التاريخية لنشوء أوكرانيا وروسيا، بل اقترب أكثر ليضع مؤسس الدولة السوفييتية فلاديمير لينين في قفص الاتهام لكونه "منح أوكرانيا أراضي روسية".

وقال بوتين إن أفكار لينين ورفاقه "زرعت قنبلة ذرية تحت مبنى يسمى روسيا"، ومعلوم أن لينين الذي تبنى فكرة "الثورة العالمية"، تنازل عن مساحات واسعة من مناطق تسكنها الأغلبية الروسية ودفعت الإمبراطورية الروسية مئات الآلاف من أجل استعادتها في حروب طاحنة مع الإمبراطورية العثمانية، من أجل استمالة القوميين الأوكرانيين للانضمام إلى الاتحاد السوفييتي.

وفي المقابل رفض إعلان استقلال أجزاء دونباس و"نوفوروسيا" وهو مصطلح أطلق في عهد الإمبراطورة يكاتيرينا الثانية على مناطق واسعة تمتد من رستوف جنوب غربي روسيا وتضم حوض بحر الآزوف وميناء مريبول وصولاً إلى مدينة أوديسا على البحر الأسود، وتسكن هذه المناطق أغلبية روسية. 

وفي المقابل، من اللافت الإشارة إلى أن خطابات بوتين "التاريخية" لا تتطرق إلى الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين إلّا من جهة تحقيق الانتصار في الحرب العالمية الثانية، ومرد ذلك إلى أن ستالين كان من "البلاشفة القوميين" ممن شددوا على أن الاتحاد السوفييتي لا بد أن يبقى امتداداً طبيعياً في حدوده ومركزية السلطة فيه للإمبراطورية الروسية، وعارضوا أفكار لينين وليون تروتسكي. 

واتهم بوتين في خطاب أمام الجمعية البرلمانية في 2016، البلاشفة برسم حدود اعتباطية بين أوكرانيا وروسيا، ثم إعطاء شبه جزيرة القرم ومدينة سيفاستوبول لأوكرانيا في 1954، ولكن الأهم أن بوتين أشار بوضوح إلى أنه يعتقد أن الحدود التي رُسمت حتى بعد ثورة 1917 يمكن، بل ينبغي أن يعاد رسمها.

السردية الأوكرانية

على النقيض من السردية التاريخية الروسية، تدعي أوكرانيا المعاصرة أنها الوريث السياسي لـ"كييف روس" أو "روس الكييفية"، التي أسسها في القرن الـ11 الأمير ياروسلاف الحكيم كأول دولة سياسية للسلاف الشرقيين، بعد أن وحد الإمارات الواقعة بين بحر البلطيق والبحر الأسود.

وفي رد غير مباشر على مقالة الرئيس الروسي، قال وزير خارجية أوكرانيا دميترو كوليبا: "بصفتنا أحفاداً مباشرين لروسيا القديمة فإننا لا ننكر حق بيلاروسيا وروسيا الحديثة في التأكيد على الروابط التاريخية المشتركة (..) ما نعارضه بشكل قاطع هو المحاولات الروسية الحالية لاستخدام تاريخ كييف روس أداة لخدمة أساطير بوتين الحديثة والمطالبات الإقليمية غير المشروعة".

وفي رفضها لمقولة بوتين "روسيا وأوكرانيا شعب واحد" تؤكد السردية الأوكرانية على حقيقة أنه رغم المشترك التاريخي والتقارب بين البلدين، إلّا أن مسار الشعبين الأوكراني والروسي كان مختلفاً عبر التاريخ، نتج عنه ثقافتان ولغتان وتطلعات قومية مختلفة، ولا ينتقص من ذلك نجاح روسيا في التحول إلى إمبراطورية أخضعت الأراضي الأوكرانية لنفوذها وحولتها إلى جزء منها في القرن الـ 17.

وحسب تصريح أدلى به المستشار في مكتب الرئاسة الأوكرانية أولكسي أريستوفيتش "ينبغي إعادة تسمية أوكرانيا باسم (روس أوكرانيا)، وإن العمل في هذا الاتجاه جار بالفعل"، مضيفاً: "روسيا سرقت التاريخ وخصصته لنفسها، لذلك تقاتل أوكرانيا من أجل إرث مملكة (كييف روس)، وتحقق انتصارات رائعة على المستوى الدولي".

وفي غمرة السباق بين الدبلوماسية والحرب، من المؤكد أن تنفيذ اتفاقات مينسك 2015، يمنح روسيا فرصة من أجل تعطيل انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، بناء على البند الذي ينص بمنح الإقليمين الانفصاليين وضعاً خاصاً يمكنهما من الاعتراض على قرارات السياسة الخارجية، وربما يفتح الباب أمام مطالبة عدد من الأقاليم في جنوب شرق أوكرانيا ذات الأغلبية الإثنية الروسية بحكم ذاتي واسع.

ولكن المؤكد أن كييف "أم المدن الروسية" لن تعود جزءاً من "إمبراطورية بوتين" من دون عمل عسكري كبير تسيطر فيه على مركز الحضارة الروسية وتعيين تابعين لها، والسؤال هو هل يستطيع بوتين تحمل الكلفة الباهظة؟ وهل تقبل أوروبا بتغيير خريطتها السياسية مرة أخرى بعد ضم القرم في 2014.   

اقرأ أيضاً:

تصنيفات