النظام الانتخابي الألماني.. تطور تاريخي لتقييد عودة الرايخ الثالث

time reading iconدقائق القراءة - 11
المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل خلال قمة حلف شمال الأطلسي في بروكسل - 14 يونيو 2021 - REUTERS
المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل خلال قمة حلف شمال الأطلسي في بروكسل - 14 يونيو 2021 - REUTERS
برلين -مصطفى السعيد*

قد يستغرب المرء أن تتربع أنجيلا ميركل على رأس السلطة السياسية التنفيذية في ألمانيا لأربع ولايات متتالية، ويتساءل: أليس هناك من ضابط لعدد الولايات في ألمانيا، ولماذا يفرض قانون الانتخاب الألماني نسبة 5% ليجتازها أي حزب قبل دخول البرلمان، حارماً بذلك عدداً لا يستهان به من الناخبين من فرصة التأثير لأصواتهم، وكيف يتسق الأمر عندما نرى في استطلاعات الرأي اليوم تفوقاً ساحقاً لمرشح الاشتراكيين الديمقراطيين لمنصب المستشارية أولاف شولتس، لكنه ليس بالضرورة أن يحظى بهذا المنصب؟.

هذه بضع أسئلة فقط لا تجد إجابة لها، إلا بعد النظر إلى النظام الانتخابي الألماني، والذي تجد محدداته أسبابها في تاريخ ألمانيا المعاصرة.

بذور التغيير

بحسب النظام السياسي الألماني، فإن الناخب يقترع لأعضاء البرلمان وليس لمنصب المستشارية، في حين أن الأحزاب هي من تختار مرشحها للمنصب شهوراً أو أطول قبل بدء الانتخابات، وترفع صوره في كل مكان لجذب الانتباه لبرنامجها. وهذا هو حال المرشحين الحاليين والمستشارين المحتملين مثل أرمين لاشيت وأولاف شولتس وأنالينا بيربوك (حزب الخضر). وعندما يفوز حزب أي منهم بنسبة أعلى من الآخرين، يبدأ بالبحث عن ائتلاف حكومي.

ومن هنا فإن الولايات المتكررة لميركل ومن قبلها هيلموت كول وكونراد أديناور، كانت كلها ممكنة، إذ لا يوجد في النظام السياسي والانتخابي أي تحديد لعددها.

ومع غياب ميركل وضعف مرشح حزبها المسيحي الديمقراطي أرمين لاشيت، وصعود شعبية مرشح الاشتراكيين الديمقراطيين، يبدو أن عام 2021 يحمل بذور التغيير، كما حصل عام 1998 عندما خسر هيلموت كول، مستشار الوحدة الألمانية التاريخي، أمام غيرهارد شرودر، نجم الاشتراكيين الديمقراطيين الصاعد آنذاك.

توزيع الصلاحيات

ألمانيا الاتحادية دولة ولدت من رحم كارثة الحرب العالمية الثانية، بقرار من قوى الحلفاء الثلاث آنذاك، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وهي القوى التي وافقت على القانون الأساسي (الدستور الألماني) في أيار 1949، ومن ثم على إجراء أول انتخابات ديمقراطية حرة في الدولة الوليدة في أغسطس 1949.

كان بالضرورة أن تكون هذه الدولة فيدرالية تتوزع فيها الصلاحيات بين المركز والأطراف، حتى لا تتكرر تجربة القوة المركزية الماحقة (هتلر والحزب النازي وهي الفترة التي تعرف باسم الرايخ الثالث) بين عامي 1933 و1945، والتي عادت على ألمانيا وأوروبا وأجزاء أخرى من العالم، بالدمار والقتل والتشريد.

تشارك الولايات الـ16 (الأطراف) في صياغة بعض التشريعات من خلال المجلس الاتحادي (مجلس مندوبي الولايات)، وتجري انتخابات برلمانية دورية في العادة كل 5 سنوات، ثم تشكل حكوماتها، برئيس وزراء لكل ولاية.

إلا أن الانتخابات التشريعية العامة للبرلمان الاتحادي (البوندستاغ) تبقى الأهم، ومحط تنافس شديد بين الأحزاب الألمانية، فهذه الانتخابات تحدد الخطوط العامة لسياسة ألمانيا الاقتصادية، وسياستها الخارجية والدفاعية والأمن الخارجي.

تجرى الانتخابات كل أربع سنوات، ولعل أشهر ما جاء به الدستور الألماني والقانون الانتخابي بشأنها، أنها "عامة ومباشرة وحرة وسرية تتساوى فيها الأصوات"، وهي مواصفات يبين أنها كانت محصلة تطورات كثيرة صبّت في تأسيس الجمهورية الحديثة.

الانتخابات عامة

أصبحت الانتخابات عامة في ألمانيا بعد عام 1919، عندما شملت النساء لأول مرة إلى جانب الرجال. وهي مباشرة، إذ ينتخب النواب فيها مباشرة، وليس هناك وسيط كالمجمع الانتخابي الأميركي الذي ينتخب الرئيس في النهاية.

والانتخابات في ألمانيا حرة، إذ يمكن لأي ناخب فيها أن يفعّل صوته الانتخابي حسبما يشاء ودونما تأثير، كما يمكنه العزوف عن التصويت نظراً لعدم إلزامية التصويت كما فرضه النظام النازي في الانتخابات الصورية التي جرت بين عامي 1933 و1945.

أما الأصوات المتساوية فهي أيضاً نتاج تطور تاريخي، إذ كانت الانتخابات في حكم القيصر الألماني وحتى بداية القرن العشرين، تقسم الناس إلى 3 فئات، الأولى للملاك وكبار التجار، والثانية للفئة الوسطى كأصحاب المهن والحرف، والثالثة لعامة الشعب، وكان لصوت الفئة الأولى قيمة في تحديد السياسات تفوق قيمة صوت الفئة الثالثة بـ17 مرة، أما السرية فتضمنها آلية التصويت في مقصورات مغلقة يوم الاقتراع.

عدد الناخبين وحق التصويت

ويبلغ عدد الناخبين في اقتراع هذا العام، المقررة ليوم 26 سبتمبر، نحو 60،4 مليون. من بينهم 31،2 مليون امرأة و 29،2 مليون رجل. وهم جميعاً ممن بلغوا 18 عاماً من العمر، ويحملون الجنسية الألمانية سواء أكانوا كذلك من قبل أم من المجنّسين.

أما المقيمون في ألمانيا من حملة الجنسيات الأجنبية، ويبلغ عددهم في ألمانيا نحو 5،3 مليون فلا يحق لهم المشاركة في الانتخابات لا ترشيحاً ولا تصويتاً.

وهناك اليوم مطالبات وحملات، وإن كانت صغيرة، منها "نحن ننتخب"، تدعو لإشراكهم، وتنظم اقتراعات صورية للأجانب، وتقول إنهم في المتوسط يقيمون 16 عاماً في ألمانيا، ويعملون على تنميتها ويدفعون مستحقاتهم من الضرائب، وبالتالي لهم الحق قي المشاركة في صياغة السياسات في البلد، وإن مثل هذه المشاركة تعزز اندماجهم في مجتمعهم الجديد.

ومع أن بعض الأحزاب كحزب "الخضر" واليسار، يتعاطف مع هذه الفكرة، إلا أن الدستور الألماني ينص على حصر حق المشاركة في الانتخابات بالألمان، وبالتالي لا بد من "تجميع ثلثي أصوات البرلمان لتغيير هذه القاعدة وهو أمر مستبعد حالياً".

التقسيمات الإدارية 

إدارياً قسّمت ألمانيا إلى 299 دائرة انتخابية، يترشح فيها الأفراد، سواء كانوا مستقلين أم ينتمون لحزب ما، كما تترشح إلى جانبهم الأحزاب المسجلة بقوائم انتخابية، وعند الاقتراع يكون لكل ناخب صوتان، الأول يمنحه لمرشح بعينه في الدائرة، والثاني لقائمة حزبية.

يتشكل البرلمان لاحقاً في حده الأدنى من 598 نائباً، من بينهم 299 من النواب المنتخبين مباشرة بالأغلبية البسيطة للأصوات، بواسطة الصوت الأول، و299 نائباً تنتدبهم الأحزاب وفق ترتيب قائمتها، وعددهم تحدده النسبة التي حظي بها الحزب في الانتخابات ارتكازاً لقاعدة النسبية. لذا يسمى النظام الانتخابي بنظام "التمثيل الشخصي النسبي"، لمزجه بين انتخاب الأفراد وانتخاب القائمة الحزبية.

التصويت عبر البريد 

ووفقاً للقانون الانتخابي يتم الاقتراع في شكله العلني والمباشر، وفي صورته الأكثر انسجاماً مع الدستور في مراكز الاقتراع، ويمكن اختيار التصويت عبر البريد بشكل يحافظ على النزاهة، وبينما بلغت نسبة التصويت بالبريد أكثر من 28% عام 2017، فإنه من المتوقع أن تزيد هذا العام عن 40% بسبب جائحة كورونا، وخوف الناخبين من الإصابة في مراكز الاقتراع.

تبدو الأمور بسيطة، لكنها في الحقيقة معقدة، إذ أن الصوت الثاني هو الأهم والحاسم، ويجب أن تحصل الأحزاب في البرلمان في نهاية الأمر على عدد من المقاعد، يعكس نسبتها في التصويت الثاني.

ولكن بعض الأحزاب، وخاصة الكبيرة منها، تكسب عن طريق التمثيل الشخصي المباشر أكثر من غيرها. وبالتالي يكون لها في البرلمان، عدد من المقاعد يفوق نسبتها في التصويت للقوائم الحزبية.

ولتعويض هذه المعادلة المختلّة، يتم إضافة مقاعد للأحزاب الأخرى، وهي الأصغر عادة، والتي لا يمكنها الفوز بمرشحيها في الانتخابات المباشرة للدوائر. وهكذا يتضخم البرلمان ويزيد عدده عن 598، فالبرلمان الحالي يتشكل من 709 نائب، ويتوقع للبرلمان المقبل أن يكسر عتبة الـ 700 هو الآخر.

عدد الأحزاب 

بلغ عدد الأحزاب التي ستشارك في الانتخابات هذا العام 47، لكن التجربة الألمانية في حقبة جمهورية فايمار ما بين 1918 و1932، والتي اتسمت بتشرذم الأحزاب، وصعوبة تشكيل حكومة قوية، ومهدت بذلك الطريق أمام الحزب النازي ليبسط سطوته، جعلت آباء القانون الانتخابي، يفرضون عتبة 5% من الأصوات يجب على أي حزب بلوغها لدخول البرلمان، أو يدخله عبر 3 نواب انتخبوا شخصياً، ومباشرة في دوائرهم. وهناك أحزاب عريقة فشلت في دخول البرلمان، مثل حزب الأحرار (الليبراليين)، عندما حصل عام 2013 على نسبة 4،8% من الأصوات فقط.

الأغلبية نادرة 

وبعد أن تستقر حسابات الانتخابات والتي تعلن مساء يوم الاقتراع، تبدأ الأحزاب بالتشاور بينها، من أجل تجميع أغلبية مطلقة في البرلمان، إذ من النادر أن يحظى حزب لوحده بالأغلبية اللازمة.

وهنا يعود منصب المستشارية إلى الواجهة، وينتخب البرلمان المستشار الذي تمكن من جمع الأصوات اللازمة، وعقد اتفاق مع شركاء في البوندستاغ لتشكيل الحكومة.

وحسب ما تفيد به استطلاعات الرأي والمزاج السياسي في ألمانيا الآن، فإن البلاد مقدمة على تغيير في الائتلاف الحكومي، وبطبيعة الحال في شخصية المستشار، وسيكون لذلك انعكاسات على السياسات الداخلية، بكل تأكيد، وإن كان تأثيره على السياسة الخارجية بدرجة أقل.

*كاتب صحافي ومدير "مركز برلين للإعلام"