يثير النصر الذي حققته زعيمة أقصى اليمين في إيطاليا، جورجيا ميلوني، في الانتخابات النيابية التي نُظمت الأحد، ويؤهّلها لتشكيل حكومة يمينية، مخاوف من تأجيج اضطرابات في الداخل وتوتير علاقات بلادها مع حلفائها بالاتحاد الأوروبي، لا سيّما في ظلّ تحديات كبرى، ليس أقلّها أزمتَي الطاقة وفيروس كورونا المستجد، والغزو الروسي لأوكرانيا.
الصعود الصاروخي لميلوني، وخلافتها المرتقبة لرئيس الوزراء المستقيل ماريو دراجي، وهو شخصية تكنوقراطية مخضرمة، يطرحان إشكالية بشأن أسلوب تعاملها مستقبلاً مع ملفات ساخنة، تمسّ مسائل حيوية بالنسبة لإيطاليا، وقضايا جوهرية في أوروبا والعالم، علماً أن ثمة توجّساً لكونها ستترأس أكثر الحكومات يمينية في البلاد منذ الحرب العالمية الثانية.
ونال تحالف ميلوني التي ستصبح أول امرأة تتولّى رئاسة الوزراء في إيطاليا، نحو 43% من الأصوات، وفقاً لتوقعات شبكة "راي" العامة، علماً أنه يضمّ أيضاً حزب "الرابطة" بزعامة ماتيو سالفيني، و"فورتسا إيطاليا" بزعامة رئيس الوزراء السابق سيلفيو برلوسكوني.
وقادت ميلوني (45 عاماً) المعارضة لحكومة دراجي التي سعت لترسيخ الاستقرار في البلاد خلال الأشهر الـ18 الماضية، بعد أزمة كورونا.لكنها تتمتع بخبرة محدودة في الحكم، وستترأس الحكومة في "لحظة محفوفة بالأخطار بالنسبة إلى بلدها"، إذ أن "الحكومة الإيطالية المقبلة ستواجه سلسلة من الأزمات المتداخلة، ذلك أن نقص الطاقة الناجم عن الغزو الروسي لأوكرانيا يؤدي إلى زيادة التضخم وتقويض النموّ"، كما أفادت "بلومبرغ".
حيّ يساري ووالد شيوعي
قد يكون إدراك الخلفية النفسية والثقافية والاجتماعية لميلوني، مطلوباً لفهم توجّهاتها السياسية والأيديولوجية، إذ أن حياتها الشخصية والسياسية متشابكة منذ سنّ مبكرة. فهي نشأت مع أختها لأمّ عزباء في حيّ يقطنه يساريون غالباً من الطبقة العاملة في روما، علماً أن والدها، الذي تصفه بأنه شيوعي ملتزم، هجر الأسرة وهي لا تزال طفلة.
وحين بلغت الـ15 من العمر، انضمّت ميلوني إلى جناح الشباب في "الحركة الاجتماعية الإيطالية"، التي أسّسها أعضاء سابقون في الحزب الفاشي لبينيتو موسوليني بعد الحرب العالمية الثانية.
ثم ارتقت في "التحالف الوطني" اليميني المتطرف، الذي خلف الحركة، ودخلت البرلمان الإيطالي للمرة الأولى في عام 2006. واندمج "التحالف الوطني"، الذي سعى للتخلّص من الإرث الفاشي، مع حزب برلوسكوني بعد ذلك بوقت وجيز.
كما أن التاريخ الشخصي لميلوني لا يتناسب دوماً مع القالب المحافظ في إيطاليا. ففي مشهد سياسي يهيمن عليه الرجال، وجب عليها أن تناضل من أجل انتزاع قبولها في الحلبة، لا سيّما لدى أقرانها اليمينيين.
وأثارت ضجة عندما ترشّحت في عام 2016 لمنصب رئيس بلدية روما، أثناء حملها. ولديها ابنة عمرها 6 سنوات مع شريكها، وهو صحافي تلفزيوني لم تتزوّجه.
موسوليني "سياسي جيد"
في سيرتها الذاتية ذكرت ميلوني أن والدتها كادت أن تُجهضها، لكنها تخلّت عن القرار حين كانت في طريقها إلى العيادة.
وتشدد ميلوني على أنها تريد إبقاء الإجهاض قانونياً، ومساعدة النساء في الحفاظ على أطفالهنّ، في الوقت ذاته.
وفي عام 2019، صعدت ميلوني إلى منصة خلال تجمّع ضخم أمام كنيسة في روما، وألقت خطاباً حماسياً، ورد فيه "أنا جورجيا! أنا امرأة! أنا أمّ! أنا إيطالية! أنا مسيحية! ولا يمكنكم أن تأخذوا هذا مني".
وبعد التجمّع، أقدم هاويان لتنسيق الموسيقى على مزج هذه العبارة بقطعة لموسيقى الراب، بهدف السخرية منها، لكن ذلك عزّز شعبيتها لدى الناخبين المحافظين الذين كانوا يبحثون عن قيادة جديدة.
وألقت ميلوني خطابات عنيفة تنتقد "لوبي المثليين" والبيروقراطيين الأوروبيين والمهاجرين غير الشرعيين، داعية لفرض حصار بحري على المهاجرين، ومندّدة بالنخب الثقافية اليسارية. كذلك تعهدت بزيادة الإنفاق الدفاعي وإغلاق حدود إيطاليا، لحمايتها من "الأسلمة".
لكنها سعت أخيراً إلى طمأنة ناخبي يمين الوسط المعتدلين، إذ سُئلت عمّا إذا كانت توافق مع الإجماع التاريخي على أن موسوليني كان شريراً وسيئاً بالنسبة إلى إيطاليا، فأجابت "نعم"، علماً أنها كانت معجبة به في شبابها، باعتباره "سياسياً جيداً"، في مقابلة مع التلفزيون الفرنسي عام 1996.
وتعتبر صحيفة "إلموندو" الإسبانية أن "مسيحية" ميلوني هي "ثقافية أكثر من كونها لاهوتية، وأيديولوجيتها ليست عقائدية". فهي تتبنّى نهجاً "ملتبساً"، إذ ترفض ربطها بأقصى اليمين، لكنه لم تدنه أو تنبذه، علماً أن حفيدات موسوليني أعضاء في حزبها. كذلك تعلن تأييدها لحلف شمال الأطلسي (الناتو) وأوروبا، لكنها تنتقد غالباً "بيروقراطية بروكسل"، وتتودّد للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان.
لكن ميلوني شددت هذا الشهر على أنها ستواصل الضغط الاقتصادي على روسيا، بقولها: "إذا نأت بلادنا غداً عن حلفائها واتجهت نحو الجانب الآخر، فستبقى العقوبات قائمة على أيّ حال، لكننا سنخسر صدقيتنا".
"اضطراب داخلي"
تتطلّع ميلوني إلى ترؤس الحكومة، ولكن عليها التنبّه إلى حليفها سالفيني، الذي نال حزبه 9% من الأصوات، في مقابل 17% قبل 4 سنوات.
وفي عام 2019، اعتبر سالفيني أنه سيكون رئيساً للوزراء، عندما حصل حزبه على تأييد 34% من الناخبين في استطلاعات الرأي، ولم يقبل سوى على مضض بوجوب أن يكون في المرتبة الثانية وراء حزب "فراتيلي ديتاليا" بزعامة ميلوني، الذي نال نحو 26% من الأصوات الأحد، في مقابل 4% في عام 2018.
ونقلت "بلومبرغ" عن جورجيا سيروجيتي، أستاذة السياسة بجامعة ميلانو، قولها: "لن يمرّ وقت طويل قبل أن تختبر الحكومة توترات داخلية. الدعم الضعيف لحزب الرابطة لم يكن متوقعاً. يجب أن نستعد لحكومة بقيادة ميلوني، ولكن بدرجة عالية من الاضطراب الداخلي".
وخلال الحملة الانتخابية، دافع سالفيني عن زيادة الاقتراض لمساعدة الإيطاليين على تجاوز أزمة الطاقة، وشكّك في فعالية العقوبات المفروضة على روسيا، التي أبدى برلوسكوني تفهّماً لموقفها في غزو أوكرانيا.
"نجاح كبير لبوتين"
اعتبر إنريكو ليتّا، زعيم "الحزب الديمقراطي" ليسار الوسط، الذي حلّ في المرتبة الثانية، بنيله 19% من الأصوات وسيقود المعارضة، أن "إيطاليا باتت مختبراً للشعبوية، نتيجة مخاوف" أثارتها "سلسلة أزمات، منذ 12 عاماً"، بما في ذلك "الأزمة المالية العالمية، ثم أزمة المهاجرين، وأزمة كوفيد، ثم الحرب" في أوكرانيا.
وأضاف أن نصر ميلوني يعني "نجاحاً كبيراً لبوتين، إذ سيكون أسعد (شخص) إطلاقاً". وأشار إلى أن ميلوني "أظهرت موقفاً مؤيّداً لأوكرانيا"، مستدركاً أن "برلوسكوني وسالفيني هما أكثر أصدقاء بوتين إخلاصاً في إيطاليا". ورجّح أن يتبدّل موقف روما بشأن حرب أوكرانيا.
لكن أنطونيو تاجاني، وهو قيادي في حزب برلوسكوني ورئيس سابق للبرلمان الأوروبي، شدد على أن "لا شيء يدعو إلى القلق"، معتبراً أن "لا سالفيني ولا ميلوني (هما) ضد أوروبا ولا مع روسيا".
وأضاف أن "لدى سالفيني مشكلات مع العواقب الاقتصادية للعقوبات" المفروضة على موسكو، ولذلك "اقترحنا خطة انتعاش جديدة على المستوى الأوروبي".
وتابع: "البرنامج الموقّع لتحالفنا واضح جداً ويبدأ تحديداً بإعلان نوايا، مفيداً بأنه لن يغيّر سياستنا الخارجية، ولا الموقف من الناتو أو الاتحاد الأوروبي".
"لا نريد تدمير أوروبا"
في خضمّ حرب أوكرانيا وأزمة الطاقة، قد لا يكون الاتحاد الأوروبي متحمّساً للعمل مع ميلوني، التي قد تقود إيطاليا في مسار سلكته المجر أو بولندا، وهما دولتان "مشاغبتان" في التكتل.
وترى ميلوني في تفرّد إيطاليا سبيلاً لتصبح أكثر نفوذاً في أوروبا، بقولها الشهر الماضي: "نريد سلوكاً إيطالياً مختلفاً على الساحة الدولية، على سبيل المثال في التعامل مع المفوّضية الأوروبية. (لكن) ذلك لا يعني أننا نريد تدمير أوروبا، والانسحاب منها، وأننا نريد فعل أمور مجنونة. هذا يعني ببساطة توضيح أن الدفاع عن المصلحة الوطنية، مهم بالنسبة إلينا كما هو (مهم) بالنسبة إلى الفرنسيين والألمان".
وقد تثير حكومة بقيادة ميلوني خلافاً مع المفوّضية منذ مرحلة مبكرة، إذ شكّكت بالمتطلّبات المالية للاتحاد الأوروبي، وشجبت أسلوب تعامله مع أزمة الطاقة، مستشهدة بتأثير استمرار ارتفاع الأسعار، في الشركات والأسر. كذلك قد يشهد عهد ميلوني نزوعاً نحو الحمائية في إيطاليا، كما أفاد معهد "أتلانتيك كاونسل".
وأقرّ "مركز الإصلاح الأوروبي"، وهو معهد أبحاث يتخذ لندن مقراً، بأن حكومة بقيادة ميلوني قد تؤدي إلى "اضطرابات" بين روما وبروكسل، لا سيّما في ما يتعلّق بالهجرة والسياسة الاقتصادية.
واستبعد أن يتغيّر كثيراً نهج إيطاليا بشأن الاتحاد الأوروبي والسياسة الخارجية، بما في ذلك إزاء روسيا، معتبراً أن "مخاوف من أن تصبح إيطاليا بمثابة حصان طروادة بالنسبة إلى روسيا، ليست في محلّها".
وأضاف المركز أن حكومة يمينية في روما "ستقلّص نفوذ إيطاليا في الاتحاد الأوروبي وتجعل علاقات الجانبين أكثر اضطراباً"، مستدركاً أن "إيطاليا لن تصبح بولندا أو المجر الجديدة".
ولفت إلى أن "الحكومة اليمينية قد لا تستمر في السلطة لفترة طويلة"، إذ عليها أن "تتخذ خيارات سياسية صعبة".
ورأى أن "الاقتتال الداخلي داخل التحالف أمر لا مفرّ منه تقريباً، إذ قد ينهار بسهولة ويُستبدل بمجموعة مختلفة من الأحزاب".
"ميلوني القوية" وخطر سالفيني
مجلة "فورين أفيرز" تعتبر أن "ميلوني القوية قد تكون أفضل من (ميلوني) الضعيفة"، إذ أنها "تقدّم نفسها بوصفها أشبه (بسياسية) محافظة تقليدية"، كما أن سياساتها تنسجم "على نطاق واسع مع توجيهات الاتحاد الأوروبي والناتو".
ورأت أن ميلوني "لا تشكّل أكبر خطر على استقرار إيطاليا ومكانتها في الغرب"، بل حليفيها، لا سيّما سالفيني.
وأشارت إلى أن لدى ميلوني "طموحات واضحة لتعزيز هيمنة السلطة التنفيذية على البرلمان، وترسيخ مكانتها"، مضيفة أن "نزعتها المحافظة وأجندة الإصلاح الدستوري سيثيران جدلاً داخل إيطاليا وفي أوروبا".
وأوضحت أن "ميلوني القوية ستُحدث استقراراً أكثر من كونها مزعجة، في حين أن ميلوني الضعيفة قد تُضطر إلى المساومة مع سالفيني، بوسائل سيجدها حلفاء إيطاليا غير مستساغة".
وذكرت المجلة أن "لدى ميلوني كل الحافز لتقديم نفسها بوصفها رئيسة وزراء موثوقاً بها... وتعزيز صدقيتها الدولية"، وأوضحت في هذا الصدد أنها تدعم بشكل لا لبس فيه عضوية إيطاليا في منطقة اليورو، عكس تصريحاتها السابقة.
كما أن البيان الانتخابي المشترك الذي اتفقت عليه ميلوني مع سالفيني وبرلوسكوني، يَعِد بـ"احترام التزامات (إيطاليا) بوصفها جزءاً من الحلف الأطلسي" و"التزام كامل بالتكامل الأوروبي".
واعتبرت المجلة أن "الصعوبة التي تواجهها ميلوني تكمن في إيجاد وسيلة للاعتدال أو التكيّف مع سالفيني، من دون التقليل من صدقيتها مع شركائها في الاتحاد الأوروبي والمستثمرين الدوليين".
ثمة مَن يعتبر أن ميلوني استغلّت "مشاعر وطنية"، تتمثل في انعدام الأمن والقلق من أزمات الطاقة والتضخم وكورونا والهجرة، ونصبّت نفسها "منقذة" لإيطاليا، فيما أثبت التاريخ أن الزعماء القوميين المتطرفين الذين يتمتعون بكاريزما، يميلون إلى "أداء عمل جيد خلال الأوقات العصيبة".
لكن ميلوني التي لم تتلقَّ تعليماً جامعياً وتعرّضت لمضايقات نتيجة وزنها، تشدد على أنها "لن تعتذر عن أي شيء" في حياتها، وشكت من دفعها إلى "التحدث عن التاريخ، لا عن السياسة الحالية"، وزادت: "أعتقد بأن ذلك ليس صائباً".
اقرأ أيضاً: