الجزائر.. قصة "مفاوضات إيفيان" التي أنهت استعماراً دام 132 عاماً

time reading iconدقائق القراءة - 15
صورة للمفاوضين الجزائريين خلال مفاوضات إيفيان لوقف إطلاق النار - 17 مارس 1962 - AFP
صورة للمفاوضين الجزائريين خلال مفاوضات إيفيان لوقف إطلاق النار - 17 مارس 1962 - AFP
باريس-أ ف ب

شهدت مدينة إيفيان بوسط فرنسا في 18 مارس 1962، توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، الذي كرس هزيمة فرنسا وفتح الطريق أمام استقلال الجزائر، بعد أكثر من سبع سنوات من اندلاع الثورة الجزائرية في 1 نوفمبر 1954، و132 عاماً من الاستعمار (1830).

وشابت المفاوضات بين الفرنسيين والجزائريين في إيفيان توترات وسوء فهم، وفق شهادات أوردتها وكالة "فرانس برس". 

تفاوض في السر

أعلنت جبهة التحرير الوطني الجزائرية، منذ بداية الثورة التحريرية في عام 1954، أنها مستعدة للتفاوض مع السلطات الفرنسية، ولكن المفاوضات المباشرة بين فرنسا والحكومة المؤقتة لم تبدأ حتى يناير 1961. ودامت 18 شهراً، معظمها في السرّ. 

وبدأت الاتصالات بشكل خاص بفضل ممثل الحكومة الجزائرية المؤقتة في إيطاليا الطيب بولحروف، الذي طلب من الرئيس الإيطالي حينها جيوفاني جرونشي، ومن رئيس الوزراء جورجيو لابيرا، ومن المدير التنفيذي لمجموعة النفط "إيني" إنريكو ماتيي، جس نبض الرئيس الفرنسي لمعرفة نواياه. 

وبفضل الإيطاليين، تأكد بولحروف من "أن الجنرال (شارل) ديغول بات مستعداً للتفاوض مع "المتمردين"، وفق ما يروي نجله جليل بلحروف لوكالة "فرانس برس". 

سجارة في رمضان

وبدأ التوتر الذي ساد أجواء المفاوضات في بدايتها، يتراجع مع مرور الوقت وتعرُّف المفاوضون على بعضهم البعض.

وروى الطيب بولحروف لابنه، أنه خلال المحادثات في لوسارن في سويسرا التي سبقت تلك التي جرت في إيفيان عام 1961، دخل جورج بومبيدو المقرّب من ديغول والحائز ثقته، مع "سيجارة في فمه" خلال شهر رمضان، الى الاجتماع.

ويقول جليل بولحروف: "أطفأ سيجارته احتراماً، لكن والدي قال له إنه يستطيع التدخين براحته، لأن الإسلام دين متسامح للغاية، فلا مشكلة".

 ويشير المؤرخ الجزائري عمار محند عمر من معهد الدراسات في نانت (فرنسا)، إلى أن "الأشهر الأخيرة من المفاوضات بين الحكومة الجزائرية المؤقتة والحكومة الفرنسية، سلكت منحى إيجابياً، تمثّل بالوصول بأسرع وقت إلى تفاهم"، ولو أن الأمور كانت لا تزال تحتاج أحيانا الى تجاوز الكثير من سوء الفهم.

ويروي عمر أن خضر بن طوبال، أحد المفاوضين الجزائريين، ردّ مرة على رئيس الوفد الفرنسي الذي كان يخاطب الحكومة المؤقتة للجزائر، بالقول "أنتم، على الجانب الآخر من الطاولة"، على أساس أن فرنسا لا تعترف بهذه الحكومة ولا بجبهة التحرير الوطني. فأجرى مقارنة بين المتكلم و"بعض الرجال الجزائريين الذين لا يذكرون أبداً زوجاتهم بالإسم، حتى عندما يخاطبونهن مباشرة". 

دعم سويسري

وخلال المرحلة التحضيرية والمفاوضات، تلقى الوفد الجزائري دعماً من سويسرا.

وجرى جزء من المفاوضات في المرحلة الأولى بالقرب من جنيف، وكان الوفد الجزائري يقيم في فيلا في منطقة بوا دافو على الجانب السويسري من الحدود. 

وتمكّن المصوّر الفرنسي أندريه غازو من التقاط بعض الصور، بفضل الدكتور جيلالي بن تامي، ممثل الهلال الأحمر الجزائري في سويسرا الذي عرّفه برضا مالك، عضو الوفد الجزائري المفاوض. 

ويقول المصوّر لوكالة "فرانس برس" إن المفاوضين "جاؤوا إلى سويسرا من تونس في رحلة خاصة لشركة الطيران السويسرية، التي تلقت تعليمات بعدم التحليق فوق الأجواء الفرنسية". 

ويضيف أن مراقبة المناطق المحيطة بالفيلا كانت من مهمة الجيش السويسري "خوفاً من عملية هجومية ضد المفاوضين، من منظمة الجيش السري (منظمة فرنسية كانت تعارض استقلال الجزائر)".

ويتابع "كانت هناك أيضاً مدافع مضادة للطيران للتصدّي لاحتمال ظهور طائرات بالقرب من المكان". 

وروى المصوّر الشهير ريمون ديباردون لصحيفة "ليبرتي" اليومية الجزائرية في كانون ديسمبر الماضي، أن الوفد الجزائري "كان مرتاحاً ويرتدي أزياء أنيقة"، وكان أفراده "شباباً تتراوح أعمارهم بين 30 و40 عاماً". 

وقال: "كان ذلك مناقضاً للصورة التي كانت لدينا عن جبهة التحرير الوطني في الجبال وبالزي العسكري".

ديغول

في مايو 1958، قال شارل ديغول بعد عودته إلى الحكم، بعد سقوط الجمهورية الرابعة بسبب حرب الجزائر: "هذه مشكلة لا يمكن حلّها، إنما نتعايش معها".

كان الرجل الذي أطلق النداء إلى مقاومة ألمانيا النازية في 1940، لا يزال يحتفظ بهالة من الاحترام، وكان ينظر إليه في فرنسا على أنه رجل المرحلة، والوحيد القادر على إخراج فرنسا من المستنقع الجزائري السياسي والاقتصادي والإنساني.

في الجانب الآخر من المتوسط، كان المستوطنون الأوروبيون في الجزائر، مقتنعين بدورهم أن الرجل الذي قاتل قبل 15 عاماً من أجل تحرير فرنسا والحفاظ على سلامة أراضيها، سينقذ بقاءهم في الجزائر.

تُنسب إلى ديغول مواقف في مجالس خاصة حول الجزائر لم يكن في الإمكان التحقّق منها. لكن في خطاباته العلنية، حفظ التاريخ خصوصاً عبارة "لقد فهمتكم" التي توجه بها إلى حشد في العاصمة الجزائر، يطالب فيها ببقاء الجزائر فرنسية في الرابع من يونيو 1958، بعد ثلاثة أيام فقط على تسلمه الرئاسة. 

 لكن ديغول العائد إلى السلطة بعد عشر سنوات،"لم تكن لديه أي فكرة عمّا يمكن أن يفعله"، وفق ما يقول المؤرخ الفرنسي موريس فاييس.

وكان هذا التناقض السبب لاحقاً في اتهامه من جانب فرنسيي الجزائر وجزء من الجيش، بـ"الخيانة"، مذكرين إياه بأنه قال "تحيا الجزائر الفرنسية" على هامش زيارة إلى وهران في السادس من يونيو 1958.

ويرى فاييس أنه "لا يمكن الحديث عن خيانة"، مضيفاً أنه "كان يبحث عن مصلحة فرنسا. نقطة على السطر، وعن بقائها في الجزائر. كيف؟ لم يكن يعرف يومها الطريقة".

إقرار بوفاة الجزائر الفرنسية

اعتباراً من 1959، شهدت سياسة ديغول منعطفات عدة، إذ قال في مارس 1960 أمام العسكريين في الجزائر، إن الاستقلال "خدعة"، لكنه عاد واختار السير نحو القبول بجزائر جزائرية.

وحصل المنعطف الحاسم في 16 سبتمبر 1959. يومها، أعلن ديغول أن للجزائريين الحق بتقرير المصير، ما اعتبر وثيقة وفاة لـ"الجزائر الفرنسية".

ديغول أخذ بالاعتبار واقع الأمور في الجزائر، بسبب الخسائر الفادحة للجيش الفرنسي، وتشويه صورة فرنسا في العالم، واتهامات ضدها في الأمم المتحدة، والتغيير في صفوف الرأي العام الفرنسي، إذ انتشرت على كل الجدران في كل الأراضي الفرنسية عبارة "السلام في الجزائر".

وحسم ديغول الذي لطالما قال إن "لا قيمة لسياسة خارج الواقع"، القرار، معتبراً أن الأمر لا يستحق كل هذه التضحيات.

ويقول فاييس: "كان براغماتياً، ووصل إلى نتيجة مفادها أن مصلحة فرنسا تكمن في وقف الاستعمار"، وطوى صفحة في تاريخ فرنسا، ولو أن تداعياتها لا تزال تتردد حتى اليوم.

علاقة متقلبة

عقب التوقيع على اتفاق "إيفيان" عام 1962، قامت علاقة جيدة بين القادة الجزائريين الجدد آنذاك والجنرال شارل ديغول. واستمرت كذلك مع خلفه جورج بومبيدو، ثم مع فرنسوا ميتران، رغم أن هذا الأخير كان وزير داخلية في بداية الثورة الجزائرية في 1954.

ويقول أستاذ التاريخ في جامعة السوربون بيار فيرمران: "كان ميتران محاطاً بأشخاص من الحزب الاشتراكي مؤيدين كلهم لجبهة التحرير الوطني" التي قادت الثورة الجزائرية، و"عرف كيف يقدّم نفسه على أنه رجل العلاقات المميزة مع هذا البلد".

مع استقلال الجزائر، استمرت فرنسا في تجاربها النووية في الصحراء الجزائرية حتى عام 1967. و"نفّذ الجيش الفرنسي تجارب كيميائية سراً حتى عام 1978"، وفق وكالة الأنباء الفرنسية.

وفي عام 1992، ندّد فرنسوا ميتران بتعليق العملية الانتخابية في الجزائر بعد فوز "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" (المحظورة حالياً) في الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية، فردّت الجزائر باستدعاء سفيرها للتشاور.

وبعد انتهاء العشرية السوداء للحرب الأهلية في الجزائر في عام 2000، اختار الرئيس الجزائري الجديد آنذاك عبد العزيز بوتفليقة، رغم أنه كان قريباً من فرنسا، اعتماد خطاب مناهض لها علناً.

تصنيفات