آلام متجددة.. الزلزال يعيد اضطراب ما بعد الصدمة للسوريين

time reading iconدقائق القراءة - 7
مخيمات لسكان مدينة حلب السورية في أعقاب تعرضها لزلزال. 22 فبراير 2023 - الشرق
مخيمات لسكان مدينة حلب السورية في أعقاب تعرضها لزلزال. 22 فبراير 2023 - الشرق
حلب-الشرق

لا يستغرقُ الأمر أكثر من جولة مختصرة في أحياء مدينة حلب في سوريا، وأحاديث قصيرة مع ساكني المدينة، حتى تتجلى بوضوح آثار صدمة الزلزال الأخيرة على وجوههم، وفي حركات أيديهم وعيونهم، وخلال الأحاديث التي يتداولونها، ومخاوفهم المتجددة من الأبنية والجدران والعتمة.

ردّات فعل متفاوتة خلّفتها الهزّات الأخيرة، التي شعر وعانى منها الحلبيون وباقي سكان المدن السورية، وتركت في نفوسهم صدمة جديدة تنضم إلى رصيد صدمات الحرب المختلفة.

توقف الدوام في مدرسة العزيزية بمدينة حلب منذ زلزال 6 فبراير، وتحولت الصفوف إلى مراكز إيواء، لكن الباحة بقيت مساحة للعب الأطفال وتجمعهم.

في الليلة السابقة، كان كل شيء أقرب للطبيعي داخل الباحة، والأطفال يتقاذفون كرة، إلى أن انقطع التيار الكهربائي، فبدأت موجة عارمة من الصراخ والبكاء والذعر الذي أصاب الأطفال والأمهات على حدّ سواء.

تقول المرشدة النفسية رشا الصباغ: "يخزّن الجسم المشاعر خلال الصدمات، وهنا نتحدث مثلاً عن صدمة الزلزال الأخيرة، ويكون مركز التخزين الأساسي هو الجهاز العصبي، لكن لاحقاً تتحولّ المشاعر المخزنة إلى ردّات فعل، قد يتمثّل بعضها بالبكاء أو الصراخ أو قلق، أو تصرّفات لا يُمكن التحكم بها، مثل التبول اللاإرادي أو البكاء المفاجئ".

وتضيف الصبّاغ: "الصدمة أساساً حدث نفسي أكبر من مقدرة الجسم على تحمّله، فيقوم بتخزينه ليخرجه لاحقاً على دفعات، ويمكن أن يبقى في الجسم إلى الأبد، وهذا هو أحد أشكال اضطراب ما بعد الصدمة".

وبالفعل، توفّي في سوريا في 20 فبراير 3 أشخاص إثر هزّة ارتدادية قوية، بعد وصولهم إلى مشافي حلب وحماة مصابين بصدمة عصبية ثم توقف مفاجئ في القلب، وتقول الصبّاغ: "يبدو أن أجسامهم لم تتحمّل صدمة جديدة".

كوابيس وبكاء

ليس سهلاً أن يشرح السوريون للآخرين لماذا يخافون من إغلاق الباب بقوة، وبعضهم يهرع لمجرّد سماع صوت صحن يتكسّر أو رنّة الهاتف العادية.

تراكمت لدى أبناء البلد، الذي يعيشُ حرباً منذ نحو 12 سنة، ذكريات مختلفة للأصوات المشابهة لدوي الانفجارات، أو لما ينجم عن سقوط القذائف أو الاتصالات التي تحمل أخباراً سيئة غالباً ما ارتبطت بالوفيات والإصابات.

تنقل الصبّاغ عن الكاتب المختص في معالجة الصدمات جابور ماتي، وتقول: "في الصدمة، يحاول الدماغ عزل نفسه لحماية الجسد، والصدمة في الحقيقة شيء يحدثُ داخل الجسم، ويظهر لاحقاً خارجه".

ورغم أن مدينة دمشق كانت من أقلّ المدن تضرّراً من الزلزال بشكل مباشر، إلا أن سكاناً فيها يعانون من اضطرابات شديدة في النوم.

تقول دانيا السيد، وهي والدة لطفلة عمرها 5 سنوات في دمشق: "أستيقظ يومياً أكثر من 10 مرات في الليل، وفي كل مرة أنظر إلى طفلتي وتتراءى أمامي مشاهد أننا تحت الركام".

وتضيف السيدة التي أمضت ليلتها الأخيرة في الشارع بعد هزة ارتدادية: "النوم بالنسبة لي ليس مصدر راحة، بل مصدر قلق، وكل ليلة أذهب فيها إلى السرير، أكون في الحقيقة أبدأ معركة جديدة من التوتر والتخيلات".

تشرح الصباغ طبيعة الآلام المحتملة لاضطراب ما بعد الصدمة، وتقول: "ما يحدث من قلق وخوف وكوابيس هو استرجاع حدوث التجربة من جديد، فيتنبّه الجسم للخطر المحدق، ويبقى الدماغ متيقظاً لأية خطر".

ويلجأ البعضُ إلى "حلول مدمرة"، مثل الإفراط في تناول الكحول أو تعاطي الأدوية المخدرة، "لإلهاء الدماغ عن مهمته"، الأمر الذي سيزيد من حدّة الصدمة بعد الصحوة، بحسب الصبّاغ.

وتتابع: "يجب أن يواجه الأشخاص الألم الذي تعرّضوا له خلال الحرب أولاً ثم خلال الزلزال لأنه ألم حقيقي، ويواجه عادة بما يعرف بالعلاج المعرفي السلوكي، أو التعافي النفسي الجسدي من خلال الاعتراف أولاً ثم إطلاق العنان للشعور، والتفريغ من خلال أنشطة جسدية وفكرية، مثل الرسم أو الغناء أو البكاء أو الجري، كلّ بحسب ما يحبّ".

حلقات الدعم النفسي

يشعر الأشخاص بالخوف من التعبير عن مشاعرهم أو حتى الاعتراف بها، لذلك يمكن أن يكون العلاج مخيفاً بعض الشيء في البداية، لكن مع الوقت يكون آمناً ومريحاً، لذلك يلجأ المعالجون النفسيون في حالات الصدمات الجماعية، لما يعرف بحلقات الدعم النفسي.

تقول الصباغ: "تفيد هذه الجلسات في التشافي بشكل أسرع، وتعطي قدرة أكبر على التحكم في استجابة الجهاز العصبي".

لكن هذا الأمر لا ينسحبُ بنفس الدرجة على الأطفال، إذ أن الطفل "لا يمتلك المرونة النفسية التي يملكها البالغون ولا يستطيعون التحكم بردات فعلهم".

اختلفت صدمات الأطفال السوريين الناجين من تحت الأنقاض، كثير منهم كان يبكي، لكن آخرين خرجوا دون أية ردة فعل، وكان بعضهم ينظر بغرابة للمحيط، وخرج آخرون يضحكون، وشاهد الملايين عشرات الأطفال الذين يتحدثون مع فرق الإنقاذ والأطباء والصحافيين "بحديث يفوق أعمارهم"، مثل الطفلة التي طلبت الإمساك بيد أي شخص، أو الطفل الذي طلب أن يفحصه الطبيب قبل أن يشرب الماء.

تحذّر المرشدة الصباغ من المبالغة في معاملة الأطفال مثل "كالخوف الشديد عليهم بشكل انفعالي، أو إعادة رواية القصة أمامهم مع غضب أو بكاء"، لأن الطفل سيخزّن بذلك صدمة جديدة في داخله.

ويُنصح عادة بجلسات اللعب والغناء بشكل جماعي للأطفال، لما يتركه من أثر يُنسيهم التجربة، وتخرج الصدمة على شكل الرسوم التي يرسمونها، أو الأحاديث التي يتحدثون بها خلال تلك الجلسات.

وتُشيرُ إلى علامات يجب الالتفات لها كمؤشر للصدمة عند الأطفال، مثل مصّ الإبهام، أو فقدان الشهية، أو التعلّق الزائد بالألعاب أو الأهل، والانتباه بشدة للكلمات التي يتفوهون بها والأحاديث المرتبطة بالأحداث الأخيرة التي حدثت معهم.

عالج نفسك بنفسك

لا توجد إمكانية حالية لتخصيص معالج أو مرشد نفسي لكل سوري تعرّض لصدمة، وجميع السوريين بطبيعة الحال واجهوا بدرجة ما صدمة خلال الحرب أو لاحقاً خلال الزلزال.

تقول الصباغ: "بداية يجب التوقف حالاً عن إدمان الأخبار ومواقع التواصل الاجتماعي، لأنها المصدر الأول للتوتر، وتخصيص وقت محدد للغاية ومن مصادر محددة بدقة".

وتُضيف بعض الإرشادات التي يُمكن اللجوء إليها حين يشعر المرء بنوبة هلع مثل "التنفس العميق لدخول كميات إضافية من الأوكسجين إلى الدماغ، حينها سيشعر الدماغ بالأمان وتراجع الخطر، وينتقل إحساس الأمان هذا إلى الجسم".

إضافة إلى اللجوء لطرق تفريغ المشاعر المتاحة مثل "الكتابة، أو الرسم، أو التحدث مع الأشخاص الذين نحبهم، أو البكاء والصراخ على وسادة، أو ممارسة هواية مفضلة، والتركيز على فعل واحد خلال اللحظة".

اقرأ أيضاً:

تصنيفات