
ساد هدوء حذر العاصمة التونسية وكبرى مدن البلاد بعد مضيّ أكثر من 24 ساعة على الإجراءات التي أعلنها الرئيس قيس سعيّد وعطل بموجبها عمل البرلمان ورفع الحصانة عن النواب، وأقال رئيس الحكومة، في خطوة أحدثت شرخاً بين مرحب ومعارض.
وفيما جدّدت حركة النهضة القوة الأبرز في البرلمان والحكومة وصف إجراءات الرئيس بأنها "انقلاب"، فإنها دعت أنصارها إلى تجنّب المرابطة أمام البرلمان ومدّت يدها للحوار مع الرئيس "حقناً للدماء".
وخيم الهدوء صباح الثلاثاء في محيط مقر البرلمان والشوارع الرئيسية بالعاصمة تونس، مع دخول قرارات الرئيس المرتبطة بإعلان التدابير الاستثنائية في البلاد يومها الثاني.
وشهدت جادة البرلمان الاثنين، مناوشات بين أنصار حركة النهضة والرئيس قيس سعيد، حاولت قوات الأمن فضّها.
كما اعتصم عدد من النواب ورئيس البرلمان راشد الغنوشي داخل سيارته أمام المقر لساعات احتجاجاً على تجميد جميع اختصاصات المؤسسة التشريعية.
"النهضة" تدعو للحوار
المكتب التنفيذي لحركة النهضة اعتبر في بيان الثلاثاء، أن "الإجراءات الاستثنائية التي أعلن عنها رئيس الجمهورية غير دستوريّة وتمثل انقلاباً على الدستور والمؤسسات، خاصة ما تعلّق منها بتجميد النشاط النيابي واحتكار كل السلطات دون جهة رقابيّة".
وحضّت الحركة على الحوار مع الرئيس قيس سعيّد ودعته للتراجع عن قراراته، فيما طالبت أنصارها بعدم التجمهر أمام مقرّ البرلمان فيما يشبه التراجع عن دعوات سابقة بالتحشيد لم تلق لها آذانا صاغية.
وقال مراقبون إن الدعوة التي أطلقها راشد الغنوشي في الساعات الأولى لصدور القرارات الرئاسية، ودعوة أنصاره فجراً للمرابطة أمام مبنى البرلمان لم تلق تجاوباً من أنصاره، بدليل العدد القليل الذي تجاوب معه، وهو ما يتناقض مع ما عرف عن الحركة من القدرة على الحشد والتجييش في الشوارع.
وذكرت الحركة في بيانها بلهجة مختلفة ترنو نحو خفض التصعيد أنها "تتفهم الاحتجاجات التي شهدتها البلاد خلال الآونة الأخيرة ومشروعية المطالب الاجتماعية والاقتصادية والسياسيّة، إلى جانب الخطر الوبائي الكبير الجاثم على بلادنا، بما يجعل هذه القضايا أولويّة مطلقة للبلاد تحتاج إلى إدارة حوار وطني ورسم خيارات جماعية قادرة على إخراج البلاد من جميع أزماتها".
وجاءت قرارات قيس سعيّد مساء الأحد، بعد يوم احتجاجي تزامن مع ذكرى عيد الجمهورية في تونس، ورافقته أعمال عنف وإضرام نار في مقرات كثيرة تابعة لحركة النهضة، التي يٌحمّلها المحتجون حصيلة كارثية للحكم منذ 10 سنوات.
وتقول الصحافية خولة بوكريم رئيسة تحرير موقع "كشف ميديا" الإخباري لـ"الشرق"، إن حركة النهضة لن ترضخ لقرار تجميد أعمال البرلمان، منبهة في ذات الوقت من أن السيناريو المصري مطروح، لأن تاريخ "الإخوان" يقول إنهم لا يسلّمون الحكم طواعية وبسهولة، على حد تعبيرها.
وترى بوكريم أن النهضة مازالت في حالة "صدمة" لأنها تشعر بأن قيس سعيّد "غدر بها"، مؤكدة أن الرئيس لطالما هدد باللجوء إلى الفصل 80 من الدستور في عدة خطابات سابقة.
"مواجهة مع الشعب"
المحلل السياسي عبد السلام الككلي قال إن حركة النهضة ارتكبت جملة من الأخطاء خلال السنوات العشر الماضية التي قضتها في السلطة، مشيراً إلى أنها أجهضت مسار العدالة الانتقالية، وتصالحت مع الفاسدين دون محاسبتهم بإقرارها "قانون المصالحة".
ومن ضمن هذه الأخطاء كذلك، يقول الككلي، إقدام الحركة على التحالف مع حزب "قلب تونس" الذي وصمته سابقاً بأنه "حزب مافيا فاسد".
بالإضافة إلى ذلك قام الغنوشي بتعيين أمين عام لحزب الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي مستشاراً له، وكان يعدّ لتخريب وحلّ الدوائر القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية. كما أسقطت النهضة حكومة الفخفاخ ووضعت يدها مع عتاة الفاسدين، على حد قول المحلل السياسي.
ويقول الككلي: "النهضة تعلم اليوم أنها ليست في مواجهة مع قيس سعيّد، بل هي خائفة مما هو آت وأن المواجهة باتت مع جزء من الشعب التونسي، ولذك نلمس تغيراً في لهجتها خاصة عندما ذكرت أن الاحتجاجات التي رافقها إحراق لمقراتها مشروعة وتتفهمها".
النقابات تلتزم الحياد
ويبدو أن النقابات في تونس تفضل مسك العصا من الوسط في تعاملها مع التطورات السياسية بالبلاد، إذ أصدر الاتحاد التونسي للشغل، الذي يمثل المركزية النقابية في البلاد، بياناً الاثنين، دون أن يرحب بقرارات سعيّد أو يندد بها.
وطالب الاتحاد بضمانات دستورية وجدول زمني لتطبيق هذه "الإجراءات الاستثنائية" معبراً عن رفضه لجوء "أي طرف" إلى العنف.
وعلى الرغم من أن الاتحاد لا يمثل حزباً سياسياً، إلا أنه كثيراً ما لعب أدواراً سياسية حاسمة في محطات كثيرة من تاريخ البلاد بفضل قدرته على ضبط السلم الاجتماعي.
وأفاد بيان الاتحاد العام التونسي للشغل بأنه نبه عدة مرات إلى "تعطل دواليب الدولة وتفكك أواصرها وأجهزتها وتردي الوضعين الاجتماعي والاقتصادي وتعمّق معاناة الشعب وتزايد الفوارق بين الفئات والجهات وتفشي الفساد ونهب المال العام واستشراء مظاهر الخروج على القانون وخرقه".
وعبر الاتحاد عن معارضته "لجوء أي طرف مهما كان موقعه أو موقفه أو دواعيه إلى العنف" و"رفضه القطعي لسياسة التشفي أو تصفية الحسابات وضمان خروج سلمي من هذه المرحلة الدقيقة والصعبة".
وأشاد اتحاد الشغل بالمؤسّسة العسكرية ودعا كلّ الأطراف إلى وجوب النأي بها عن التجاذبات السياسية، "إيماناً منه بعراقة هذه المؤسّسة ووطنيتها وتمسّكها غير المشروط بحماية أمن البلاد والعباد، حفاظاً على مدنية الدولة".
ويقول الجامعي والمحلل السياسي عبد السلام الككلي لـ"الشرق"، إن الاتحاد لم يرفض الإجراءات الاستثنائية التي أعلنها الرئيس، ولم يصفها بأنها خرق للدستور أو انقلاب كما ذهب إلى ذلك البعض، ولكنه لم يقبلها إلا بمرافقتها بتدابير دستورية أي ضمانات بأن يتم احترام الحريات وألا تدوم الفترة الاستثنائية وأن يفتح حوار جدي لتجاوز الأزمة.
ويرى الككلي أن "غالبية المنظمات الوازنة في تونس لم ترفض قرارات سعيد لكنها حذرة في التعامل معها، ونحن الآن نلمس تسليماً بهذه التدابير الاستثنائية وحتى حركة النهضة ذاتها باتت تسلم بها وتدعو إلى الحوار للتخفيف من وطأة هذه الإجراءات".
المجتمع الدولي "يدرس التغيير"
إلى ذلك، بدت معظم ردود الفعل الغربية حذرة تجاه الأحداث في تونس، في حين رفضت كل من ألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا وصف ما يحدث بـ"الانقلاب" في تناقض تام مع رواية حركة النهضة.
وحضّت غالبية الدول في بياناتها على احترام الدستور والحفاظ على المسار الديمقراطي وتجنب العنف.
واعتبر المحلل عبد السلام الككلي أن "الردود الدولية حذرة لأنها في الواقع لم تفهم بالضبط طبيعة التغيير الذي وقع في تونس، وهذا الغموض لخّصه الموقف الأميركي الذي قال نحن ننكبّ على دراسة الجوانب القانونية للتدابير التي أعلنها الرئيس".
ويرى الككلي أن المجتمع الدولي يقدم عدة محاذير حيال هذا التغيير وعلى رأسها حماية الحرية والعودة بسرعة إلى الشرعية الدستورية.
لكنّ الصحافية خولة بوكريم ترى أن الرئيس قيس سعيّد قد نسّق مع الخارج بشكل جيّد قبل أن يعلن اجراءاته للعموم، إذ من غير المنطقي أن يتخذ قرارات قوية في تأثيرها ومضمونها دون دعم دولي، وحماية دولية تحسباً لأن يكشّر "الإخوان" في تونس عن أنيابهم تجاه الشعب التونسي، فقراراته في النهاية لها مؤيدوها ولها قاعدة شعبية تتبناها"، على حد تعبيرها.