"انقلاب" ميانمار يثير تساؤلات بشأن ثنائية الحكم والديمقراطية

time reading iconدقائق القراءة - 11
دبي – إيلي هيدموس

لم يستطع جيش ميانمار مقاومة إغراء تنفيذ انقلاب على الحكومة المنتخبة في البلاد، مستبقاً جلسة افتتاحية للبرلمان الجديد الاثنين، المنبثق عن الانتخابات النيابية التي نُظمت في نوفمبر الماضي، وحقق فيها حزب "الرابطة الوطنية للديمقراطية"، بزعامة الحاكمة المدنية أونغ سان سو تشي، فوزاً ساحقاً.

وإذ احتفظ الجيش بنفوذٍ في ميانمار، بعد بدء التحوّل الديمقراطي، في عام 2011، فقد يكون رأى في الانتخابات تقويضاً لحضوره السياسي، لا سيّما بعد النتائج الهزيلة التي حققها "حزب الاتحاد للتضامن والتنمية" الذي يدعمه، وقرّر إنهاء شراكته مع سو تشي، مبرّراً الأمر بـ "تزوير" الاقتراع.

لكن إعادة عقارب الساعة عقوداً إلى الوراء لن تكون سهلة، وينسحب الأمر على تكرار الحكم العسكري لنصف قرن، إذ أن ما كان ممكناً في عام 1962، لن يكون كذلك في عام 2021.

لكن الجيش يصرّ على أن خطوته قانونية، إذ أن دستور 2008، الذي صيغ ونُفذ خلال الحكم العسكري، يتضمّن بنداً ينصّ على أن الرئيس يستطيع، في حالة طوارئ وطنية، إصدار مرسوم طوارئ لتسليم قائد الجيش السلطة التنفيذية للحكومة، والصلاحيات التشريعية والقضائية، بالتنسيق مع "مجلس الدفاع والأمن الوطني" الذي تهيمن عليه المؤسسة العسكرية.

ووصفت منظمة "هيومن رايتس ووتش" المدافعة عن حقوق الإنسان، هذا البند بأنه "آلية انقلاب في الانتظار"، علماً أن الدستور يضمن للجيش سيطرته على ميانمار، على حساب الساسة المنتخبين، إذ يحتفظ بربع مقاعد البرلمان، كما أن قائده يعيّن وزراء الدفاع والداخلية وشؤون الحدود.

ثنائية سو تشي والجيش

هذه الثنائية في الحكم كانت تميل لمصلحة الجيش، وأرغمت سو تشي على أن توازن بشكل دقيق علاقتها مع الجنرالات، بل قادت حملة دولية للدفاع عن موقف بلادها بشأن حملة ضد مسلمي أقلية الروهينغا، والتي وصفتها الولايات المتحدة ودول غربية بأنها "إبادة جماعية".

وفعلت سو تشي ذلك على حساب مكانتها الشخصية، علماً أنها حازت جائزة "نوبل" للسلام، في عام 1991، نتيجة مواجهتها الحكم العسكري في ميانمار، الذي أخضعها لإقامة جبرية لنحو 15 سنة. لكن ملف الروهينغا لا يتعلّق فقط بسو تشي والجيش، بل يعكس أيضاً مزاجاً عاماً، في بلاد يدين معظم سكانها بالبوذية، ويعتبرون الروهينغا مهاجرين من بنغلادش.

ولا تزال سو تشي الشخصية الأكثر شعبية في ميانمار، كما أن حزبها عزّز غالبيته في البرلمان، بفوزه بنسبة 83% من الأصوات في الانتخابات الأخيرة، في مقابل 79% في انتخابات 2015، التي حوّلت سو تشي إلى حاكمة مدنية للبلاد. في المقابل، نال حزب الجيش أقلّ من 7%.

"معجزة الديمقراطية"

لكن زعيمة المعارضة سابقاً فقدت بريقها في الخارج. وكتبت صحيفة "واشنطن بوست": "منذ توليها السلطة، خيّبت آمال حلفاء قدامى في الغرب، لا سيّما لدفاعها عن ميانمار - وجيشها خصوصاً - ضد اتهامات بإبادة جماعية نتيجة اضطهاد أقلية الروهينغا".

وأضافت الصحيفة، أن "سو تشي اقتربت في السنوات الأخيرة من قوى، مثل الصين والهند، ونأت بشكل متزايد عن دول، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، قادت سابقاً جهود الدعوة إلى إطلاقها من الإقامة الجبرية".

وأشارت الصحيفة إلى أن المؤرخ والكاتب في ميانمار ثانت مينت يو كتب على "تويتر": "الأبواب فُتحت على مستقبل مختلف تماماً، يكاد يكون مؤكداً أنه أكثر قتامة. لديّ شعور غارز بأن أحداً لن يكون قادراً على التحكّم في ما سيأتي بعد ذلك. وتذكّروا أن ميانمار بلد في حرب مع نفسه، وغارق في (انتشار) الأسلحة، مع انقسامات عميقة عبر خطوط عرقية ودينية، حيث بالكاد يستطيع الملايين إطعام أنفسهم".

وأضاف، أن "قدرة (ميانمار) على إحراز أيّ تقدم خلال العقد الماضي نحو الديمقراطية، كانت بمثابة معجزة تقريباً".

أما رومان كايو، وهو باحث في "برنامج دراسات ميانمار" في "معهد دراسات جنوب شرقي آسيا" بسنغافورة، فقال لـ "دويتشه فيليه": "بعد 10 سنين على بدء التحوّل الديمقراطي، تواجه البلاد انتكاسة كبرى".

وقارن الأحداث الأخيرة بقمع الجيش انتفاضة قادها طلاب، في عام 1988، وتابع: "ستكون العواقب وخيمة. هذا عالم مختلف عن عام 1988، مع العولمة، ومواقع التواصل الاجتماعي، وفيروس كورونا المستجد، وإدارة أميركية جديدة، وطموح الصين في قطاع البنية التحتية. وسيكون رد الفعل عنيفاً ضد جيش ميانمار".

"حقيقة سياسية"

لكن جون سيفتون، من "هيومن رايتس ووتش"، يذكّر بأن "المجلس العسكري الذي حكم ميانمار طيلة عقود، لم يبتعد عن السلطة في المقام الأول".

وقال لصحيفة "ذي غارديان": "لم يخضعوا أبداً للسلطة المدنية في المقام الأول، ولذلك فإن أحداث اليوم، بمعنى ما، تكشف فقط عن حقيقة سياسية كانت موجودة بالفعل".

في السياق ذاته، يلفت موقع "ذي ديبلومات" إلى أن "التوترات بين الحكومة المدنية والجيش تندرج في بعض النواحي، في الهيكل الدستوري لسياسة ميانمار".

وأضاف أن "التلاشي السريع لحزب الاتحاد للتضامن والتنمية... أدى فجأة إلى تأجيج الانقسام المدني - العسكري، إذ قلّص تأثير الجيش في الفرع التشريعي للحكومة، ما زاد من احتمال إجراء إصلاحات في الدستور، من شأنها أن تفاقم من تآكل نفوذه، وتعزّز تصميم الرابطة الوطنية للديمقراطية على أن لديها تفويضاً انتخابياً، للحكم وفقاً لشروطها الخاصة".

تمرد عرقي

وأشارت صحيفة "نيويورك تايمز" إلى أن الجيش برّر أول انقلاب نفذه، في عام 1962، عندما أطاح الجنرال ني وين بحكومة "هشّة"، لم تصمد أكثر من عقد بعد استقلال البلاد عن بريطانيا، بأنه "ضروري للحفاظ على اتحاد بورما، كما كانت البلاد تُعرف آنذاك، موحّداً في مواجهة تمردات عرقية في المناطق الحدودية. وعانت الأقليات، التي تشكّل نحو ثلث سكان البلاد، اضطهاداً واسعاً خلال الحكم العسكري".

واستدركت أن "الانتهاكات المرتبطة بالجيش كانت موجّهة ضد غالبية بامار العرقية أيضاً"، إذ احتجُز آلاف بوصفهم سجناء سياسيين، كما مارست أجهزة الاستخبارات العسكرية ترهيباً ضد السكان.

إضافة إلى ذلك، عجزت سو تشي عن تنفيذ وعودها بتسوية النزاعات العرقية في ميانمار، بعد خروجها من الإقامة الجبرية في عام 2010، إذ "تخوض جيوش عرقية حرباً مفتوحة مع جيش ميانمار، في الأطراف الشاسعة للبلاد، فيما تتقاتل النخب للسيطرة على الموارد الطبيعية"، وفق "نيويورك تايمز".

معضلة الهوية الوطنية

ووَرَدَ في تقرير أعدّته "مجموعة الأزمات الدولية" (مقرّها بروكسل)، ونشرته في أغسطس 2020، أن "الإثنية والنزاع مرتبطان بشكل وثيق في ميانمار، ما يوجِد حلقة مفرغة من العنف لا تزال تتصاعد".

وأضاف: "أدى عدم قدرة الدولة على معالجة مظالم الأقليات العرقية، أو توفير أمن مناسب للمجتمعات، إلى سباق تسلّح بين مجموعات الأقليات. ونتيجة لذلك، ثمة في البلاد الآن عشرات من الجماعات المسلحة القوية غير الحكومية".

وتابع التقرير: "منذ استقلالها في عام 1948، كافحت ميانمار لتشكيل هوية وطنية، تعكس تنوّعها العرقي، وتحقّق تطلّعات شعوب كثيرة داخل حدودها. واستناداً إلى إرث حقبة الاستعمار، عمل القادة الوطنيون لترسيخ مفاهيم خطرة للهوية العرقية، تقسّم (الأجناس الوطنية) بدل توحيدها".

وتفرض الولايات المتحدة عقوبات على قائد جيش ميانمار، الجنرال مين أونغ هلاينغ، نتيجة "قمع" الروهينغا. لكن المؤسسة العسكرية في البلاد تستطيع الاعتماد على دعم الصين، وهي أبرز مستثمر خارجي في ميانمار، إذ تنفذ مشاريع قيمتها 20 مليار دولار. كما كانت بكين أبرز مساند للحكم العسكري في البلاد، حين كان "منبوذاً" في العالم، وفق "معهد لوي" الأسترالي.

وإذ لم يستطع الجيش تحمّل ديمقراطية مبتورة في البلاد، وتقاسم للسلطة مع مدنيين، مستعيداً ما قد يعتبره حقاً له، نقلت صحيفة "وول ستريت جورنال" عن المؤرخ ثانت مينت يو قوله، إن ميانمار "على حافة هاوية".

وزاد: "إنها دولة تتضمّن عشرات من الجيوش المتحاربة، ومئات الميليشيات، وصناعة مخدرات غير مشروعة بقيمة 70 مليار دولار، وعشرات الملايين الذين وقعوا في براثن الفقر، نتيجة انكماش اقتصادي العام الماضي، والآن انهيار لأيّ تفاهم كان قائماً بين الجيش والرابطة الوطنية للديمقراطية، وهما أهم قوتين سياسيتين في ميانمار. أعتقد بأن العالم الخارجي فشل، في أحيان كثيرة، في تلمّس مدى هشاشة التحوّل الديمقراطي في ميانمار".

إقرأ أيضاً: