أزمة أوكرانيا.. البوندستاج ينصف شولتز في مواجهة انتقادات شرسة

time reading iconدقائق القراءة - 15
المستشار الألماني أولاف شولتز في مكتبه ببرلين- 3 أبريل 2022. - AFP
المستشار الألماني أولاف شولتز في مكتبه ببرلين- 3 أبريل 2022. - AFP
برلين-مصطفى السعيد*

نجح المستشار الألماني أولاف شولتز في تأمين تأييد واسع لسياسته ضمن  البوندستاج (البرلمان الألماني) وإرضاء حلفائه بأوروبا وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ليوقف سيل الانتقادات لمستوى دعم ألمانيا لأوكرانيا بالسلاح، أو مستوى العقوبات المفروضة على روسيا.

ولم يكن بوسع شولتز ذلك لولا خطوات استباقية اتخذها خلال الأيام القليلة الماضية من قبيل قرار تزويد أوكرانيا بمركبات "جيبارد" المجنزرة والحاملة لأنظمة مضادة للطائرات، والعمل على إنشاء حلقة تسليح تبادلية تقوم بموجبها دول مثل سلوفينيا ولربما تنضم إليها التشيك قريباً بتزويد أوكرانيا بدبابات "t72" سوفييتية الصنع على أن تعوضها ألمانيا بدبابات أحدث في الفترة المقبلة.

وبسبب زيارة رسمية إلى اليابان كان مخططاً لها منذ مدة، لم يحضر المستشار الألماني جلسة البوندستاج يوم 28 أبريل على أهميتها، وهي التي خصصت لنقاش الدعم الألماني لأوكرانيا كرد فعل على الحرب الروسية عليها.

ومن طوكيو اعتبر شولتز أن قرار البوندستاج بدعم أوكرانيا بالمزيد من الأسلحة، ومنها الثقيلة والأنظمة المعقدة، ما هو إلا مصادقة على ما اتخذته حكومته من خطوات حتى الآن.

وبالفعل تضمن نص القرار مثل هذا التأييد صراحةً إلى جانب المطالبة بتسريع الدعم وإرسال المزيد من الأسلحة الثقيلة، حيثما أمكن.

تأييد واسع لسياسة شولتز

جاء قرار التأييد الذي وقعت عليه أحزاب الائتلاف الحاكم الثلاثة "الاشتراكي والخضر والليبرالي" إلى جانب حزب المعارضة الأكبر "المسيحي الديمقراطي" على غير ما كان ينبئ به الجدل المحتدم في الساحتين السياسية والإعلامية بألمانيا.

وتأتي الخطوة بعد أن كانت المعارضة المسيحية الديمقراطية تتحدث عن ضعف المستشار، وترى أن تردده في إرسال أسلحة ثقيلة إلى أوكرانيا يضر بسمعة ألمانيا دولياً.

ولم يتردد بعض ممثلي الائتلاف الحاكم من حزبي الخضر والليبرالي في انتقاد سياسة شولتز في هذه المسألة بشدة مما فتح باب التكهن، وإن كان باستحياء، بانفكاك عقد الائتلاف الحاكم.

بعد كل هذا تغيرت قبيل اجتماع البوندستاج اللهجة، وانضمت المعارضة الأساسية إلى مشروع القرار الذي أعده الائتلاف الحاكم مع تعديلات جزئية، وحصد المشروع الذي لا يعتبر ملزماً بل هو عبارة عن توصية ومطالبة للحكومة، على تأييد 586 برلمانياً من أصل 736، ليبقى فقط نواب أقصى اليمين (البديل) وأقصى اليسار (حزب اليسار ـ الشيوعي السابق) في خانة الرفض، وهو ما يعتبر تأييداً واسعاً لسياسة شولتز.

تحول في العقيدة العسكرية 

ما الذي وقع لتتغير لهجة الخطاب وتنسحب من الانتقاد لكل ما فعله المستشار وحكومته حتى الآن لصالح التأييد، مع الإبقاء ربما على انتقادات للسياسة الإعلامية وقدرة الحكومة على شرح مواقفها؟

للإجابة لا بد من العودة إلى بداية الأزمة والحرب، فبعد 3 أيام  من نشوب الحرب في 27 فبراير أدلى المستشار الألماني أولاف شولتز ببيان أمام البرلمان الألماني أعلن فيه عن "نقطة تحول حاسمة".

واعتبر شولتز في ذلك الخطاب أن حرب روسيا في أوكرانيا هي تهديد غير مسبوق للهيكلية الأمنية الأوروبية وتهديد لمنظومة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لأنها تنتهك سيادة الدول وتمس بحدودهـا التي ثبتت في أعقاب الحرب العالمية الثانية وفي إطار إنهاء الحرب الباردة بين القطبين الشرقي والغربي وهي التي كانت أساساً لإرساء حقبة من السلام في أوروبا امتدت على مدى عقود.

استدعى هذا الحدث الفاصل بين الحرب والسلام، تغييراً في الاستراتيجيات الأمنية الأوروبية وتلك التي كانت معتمدة في ألمانيا، أكبر الاقتصاديات الأوروبية. 

ألمانيا واعترافاً منها بتاريخها المشؤوم في النصف الأول من القرن العشرين والذي تسببت فيه بجرائم ضد البشرية في الهولوكوست وبالقتل والدمار في أوروبا شرقاً وغرباً وصولاً إلى كل من روسيا وأوكرانيا، نأت بنفسها عن نهج الحرب والعسكرة، ولم تبن جيشاً لها في ألمانيا الاتحادية (الغربية) إلا عام 1955 بدعم من الحلفاء الغربيين الذين أرادوا منها أن تنضم إلى حلف الناتو.

وعلى الجانب الآخر من الجدار الحديدي الذي فصل لاحقاً بين الشرق والغرب أسست ألمانيا الديمقراطية (الشرقية) وبإيعاز من الاتحاد السوفياتي أيضاً جيشها (1956) وانضمت إلى حلف وارسو المنافس.

وعندما تحققت الوحدة الألمانية عام 1990 وانضم جيشا الألمانيتين إلى بعضهما البعض أملت عليها اتفاقية 4+2 (التي نصت على المصادقة الدولية على هذه الوحدة) بأن تقلص ألمانيا عدد جنودها من أكثر من 509 آلاف إلى 375 ألفاً. ومن ثم قلصته منذ عام 2000 تباعاً ليبلغ العدد الآني 183 ألفاً فقط.

ومع هذا التقليص تراجع التسليح والإنفاق العسكري إلى درجة تصريح المفتش العام لقوات المشاة في الجيش الألماني ألفونس مايس بأن "الجيش يقف مفلساً عارياً"، تعبيراً عن عجزه عن تلبية ما ينبغي له من مهمات.

وكانت ألمانيا تعول على الاستفادة من مردود السلم وتستثمر في اقتصادها وشعبها، إلى أن جاء الهجوم الروسي على أوكرانيا ليوقظها من حلمها الوردي. 

وكان شولتز أول من استيقظ على الفعل وأعلن في خطابه الذي وصفه الكثيرون بالتاريخي عن تخصيص 100 مليار يورو لرفع قدرات الجيش للدفاع عن البلاد والمساهمة الفعالة ضمن حلف الناتو، وعن الإيفاء بنسبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي كحصة للموازنة الدفاع، وهو الذي كان خلافياً جداً في ألمانيا وبينها والإدارة الأميركية في عهد دونالد ترمب. وإن لم يصرح الألمان أنفسهم بذلك، فإن المراقبين الدوليين رأوا بأن ألمانيا تعبر بذلك عن رغبتها في لعب دور دولي وعسكري يليق بمكانتها الاقتصادية.

وأعلنت ألمانيا مع بدء الحرب تزويد أوكرانيا بأسلحة دفاعية من قبيل صواريخ مضادة للدبابات وأخرى مضادة للطائرات بالإضافة إلى قاذفات يدوية للصواريخ المضادة للدبابات وأحجمت في ذات الوقت عن تزويدها بأسلحة هجومية أو ثقيلة.

وقامت عقيدة المستشار الألماني هنا على مبدأين، أحدهما يتمثل في تجنيب أوكرانيا الخسارة وحرمان روسيا وبوتين من تحقيق نصر عسكري قد يفتح الشهية على دول أخرى كجورجيا ومولدوفا أو دول البلطيق المنطوية تحت راية الناتو.

وعلى الجهة الأخرى الحيلولة دون أن تصبح ألمانيا أو الناتو طرفاً في الصراع وذلك درءاً لإمكانية اندلاع حرب عالمية ثالثة ولربما بأسلحة نووية تكتيكية على الأقل.

انتقادات حادة

مقاربة ليس من السهل ضبط إيقاعها بشكل جيد، خاصة وأن خطاب شولتز التاريخي في 27 فبراير، رفع سقف التوقعات لِما يمكن لألمانيا أن تقدمه، ولم يعد ينظر إليها كما في السابق بأنها ممول سخي فحسب.

وهكذا بدأت الانتقادات للمستشار تظهر من داخل ألمانيا ومن خارجها، في الداخل لم تقتصر الانتقادات على رئيس حزب المعارضة المسيحي الديمقراطي فريدريش ميرتس، بل وساهمت فيها شخصيات من داخل الائتلاف مثل أجنيس شتراك ــ تسيمرمان، رئيسة لجنة الدفاع في البرلمان وعضوة الحزب الليبرالي المشارك في الحكم وكذلك أنتون هوفرايتر، رئيس لجنة أوروبا بالبرلمان وأحد أبرز ممثلي الجناح اليساري في حزب الخضر المشارك في الائتلاف أيضاً. اتهم هؤلاء المستشار بالتردد والمماطلة، كما اتهموه بالعجز عن شرح سياسته أسباباً ومحتوى واتجاهاً.

إلى جانب هذه الأصوات تموضعت عدد من الصحف وفي مقدمتها تلك التي تصدرها دار نشر "شبرينجر"، مثل صحيفة "بيلد" واسعة الانتشار وكذلك صحيفة "فيلت"، على جبهة انتقاد المستشار، وكانت أدوارها متناغمة مع خطابات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي انتقد في خطابه عبر دائرة الفيديو أمام البرلمان الألماني يوم 17 مارس بشكل غير مباشر تردد المستشار شولتز.

وفي برلين كان سفير أوكرانيا أندريه ميلنيك لا يترك فرصة إلا وانتقد فيها الحكومة الألمانية. ووصل به الأمر إلى نشر تغريدة على تويتر علق فيها على مقابلة للمستشار مع أهم الدوريات الأسبوعية الألمانية "دير شبيغل"، وكان شولتز يبرر فيها عدم إرسال الأسلحة الثقيلة إلى أوكرانيا خوفاً من التصعيد ومن حرب نووية وبعدد آخر من الحجج من قبيل نفاد ما يمكن أن يقدمه الجيش الألماني أو حاجة الأوكرانيين إلى فترات تدريب طويلة على الأسلحة غربية الصنع، وكتب السفير بلهجة لا تمت إلى الدبلوماسية بشيء مشيراً إلى شولتز وحكومته: "إنهم جبناء!".

وكانت علاقة المستشار الألماني الأسبق غيرهارد شرودر بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وشغله لمناصب قيادية في مجالس أمناء شركات النفط والغاز الروسية وعدم تراجعه عنها بعد بدء الحرب في أوكرانيا موضع انتقاد شديد وهجوم، ليس فقط على شرودر نفسه، وإنما على المستشار شولتز باعتباره رفيق شرودر في نفس الحزب الاشتراكي الديمقراطي.

عقوبات بحق ألمانيا؟

أيضاً من خارج ألمانيا كتبت صحف أميركية وبريطانية عن تردد المستشار وألمانيا في دعم أوكرانيا بالسلاح أو عن تصديها لأي حظر أوروبي لاستيراد النفط والغاز الروسيين.

وطالب أحد معلقي "ديلي تيليغراف" البريطانية مثلاً بفرض عقوبات على الشركات الألمانية التي تتعامل مع روسيا باعتبار أنها تساهم في تمويل "حرب بوتين" وتستفيد على حساب أرواح الأبرياء في أوكرانيا.

وكانت التصريحات الرسمية من حلفاء ألمانيا شحيحة في هذا الخصوص واكتفى رئيس وزراء بولندا  ​ماتيوز موراوسكي بالقول إنه سيناقش إمكانية رفع ألمانيا لدعمها عبر اتصال هاتفي مع شولتز.

إلا أن رئيسة وزراء إيستونيا كايا كالاس والتي زارت برلين في 25 أبريل أعربت صراحة عن استغرابها من تقديم ألمانيا دعماً عسكرياً أقل مما تقدمه دولتها إستونيا وهي التي تصغر ألمانيا بأكثر من 60 مرة.

فعالية سياسة لتنفيس الضغط

اقتصر الدعم العسكري في بداية الحرب على الأسلحة الدفاعية. وكانت ألمانيا تصرح بأنها لن تتخذ أي خطوة إلا بمجاراة حلفائها والتنسيق معهم.

وعلى الرغم من مطالبة بعض هؤلاء الحلفاء كبولندا ودول البلطيق بتعزيز الدعم العسكري لأوكرانيا استرشدت ألمانيا بمواقف الولايات المتحدة وجارتها فرنسا التي كانت ترفض تسليم أسلحة هجومية ثقيلة.

ورفضت الولايات المتحدة في البداية عرضاً بولندياً بتسليم طائرات "ميج 29" سوفيتية الصنع لأوكرانيا. لكن الموقف تغير تدريجياً وأعلنت كل من الولايات المتحدة وكذلك بريطانيا ومؤخراً لحقتها هولندا وفرنسا عن رفع مستوى دعمها بشكل ملموس وعن تزويد أوكرانيا بأسلحة أثقل وأكثر فعالية في القتال، من قبيل المدافع وطائرات الدرون وغيرها.

وبهدوء كانت ألمانيا تدرس إمكانياتها، وعلى الرغم من التصريحات الرسمية التي لم تر إمكانية لتقديم الأسلحة الثقيلة، إلا أن ألمانيا كانت تحضر لحلقة التبادل التسليحية مع سلوفينيا لصالح أوكرانيا وأعلنت عن استعدادها لتدريب العساكر الأوكرانيين على مدافع "هاوتزر" بالتعاون مع الولايات المتحدة وهولندا، كما أعلنت عن تخصيص مبالغ مالية وصلت مؤخراً إلى ملياري يورو، تضعها تحت تصرف أوكرانيا لتشتري بها أسلحة من الصناعة الألمانية.

وأخيراً وعلى خلفية زيارة وزيري الخارجية والدفاع الأميركيين بلينكين وأوستن إلى كييف وقبيل انعقاد اجتماع الدعم العسكري لأوكرانيا في القاعدة العسكرية الأميركية الأكبر خارج ديارها "رامشتاين"، أعلنت ألمانيا عن خطتها لتزويد أوكرانيا بدبابات جيبارد الثقيلة والحاملة لأنظمة مضادة للطائرات في الدرجة الأولى.

وتقع قاعدة "رامشتاين" على الأرض الألمانية وحضر زيارة الوزيرين الأميركيين لها وزراء دفاع وقادة أركان جيوش لنحو 30 دولة وأكدوا على استمرارية الدعم العسكري لأوكرانيا على المدى القصير وكذلك على مدى متوسط وطويل الأجل.

ولو لم تعلن ألمانيا عن خطوات جديدة للمساهمة في دعم أوكرانيا لكان الانتقاد في الداخل سيزداد حدة تجعل موقف حكومة المستشار شولتز في الداخل والخارج أكثر صعوبة. 

وهكذا ساهمت حلقات التسليح التبادلية مع دول من شرق أوروبية وصفقة "جيبارد" في تنفيس الضغط وبفعالية.

ولربما كان الأبرز بالنسبة للمستشار أنه عزز من دعم أوكرانيا وحصل على دعم البرلمان الواسع وحافظ في نفس الوقت على صورته التي اتسمت بموازنة الأمور والرزانة والتأني وعلى كونه جديراً بثقة المواطن بقدرته على اتخاذ القرار الصحيح دون المغامرة بأمن ألمانيا.

وعلى جانب الحلفاء كان شولتز دوماً يكرر بأن صعود ألمانيا من جديد كقطب عسكري ليس الهدف منه تخويف أو تهديد الجيران والحلفاء، بل مساندتهم، ولتعزيز هذه الرؤية لربما أبقى نفسه على مسافة خطوة على الأقل متأخراً، لكنه لم يتأخر كثيراً إلى درجة تشعرهم بأنه يحجم عن المساندة والتصدي لحرب روسيا في أوكرانيا. وهنا لا بد من الإشارة إلى ما قاله وزير الدفاع الأميركي بعد اجتماع رامشتاين: "ألمانيا دولة صديقة وحليف هام".

اقرأ أيضاً:

تصنيفات