قبل عقد من الزمان كان الصياد التونسي أحمد شلي يسحب شباكه من البحر وقد امتلأت بالأسماك ليبيعها في السوق المحلية في جزر قرقنة، لكنه اليوم لا يجد في الشباك سوى "داعش".. وهو الاسم الذي أطلقه السكان على السلطعون الأزرق، الذي غزا مناطق الصيد الخاصة بهم في مياه البحر المتوسط التي ترتفع درجة حرارتها بوتيرة سريعة.
ويشكو شلي قائلاً: "داعش (السلطعون الأزرق) آفة.. الصياد الذي يرمي شباكه ليمسك السمك أو الأخطبوط، أصبح يجد السرطان الأزرق فقط، يعني بدل أن يجد السمك ليوفر به مدخولاً أصبح يجد شيئاً يقوم بتقطيع شباكه.. الشبكة كنت أعمل بها لمدة 3 أو 4 سنوات وكنت أربح بسببها، الآن يجب علي أن أغيرها بعد عام".
وارتفعت حرارة المياه غرب البحر المتوسط لأكثر من 70 يوماً هذا الصيف بسبب موجة حارة بحرية.
وقال يواكيم جارابو، خبير الأحياء البحرية في المعهد الإسباني للعلوم البحرية، الذي يراقب أجهزة قياس الحرارة في المياه القريبة من الساحل، إنها كانت أسوأ موجة حارة في الجزء الغربي من حوض البحر المتوسط خلال 4 عقود.
وأضاف جارابو أن درجات الحرارة ارتفعت أكثر، واستمرت الموجة الحارة لفترة أطول، مقارنة بأية موجة أخرى اجتاحت المياه غربي صقلية منذ بدء تسجيل البيانات في عام 1982، وذلك بناء على النتائج الأولية لتحليل أجراه وأطلع رويترز عليها بشكل حصري.
وقال جارابو، وهو أيضا منسق شبكة المراقبة البحرية تي-ميدنت: "شهدنا موجات حارة بحرية خلال العشرين عاماً الماضية".
وخلص هو وزملاؤه إلى أن ما يقرب من نصف أسوأ موجات الحر المسجلة في حوض البحر المتوسط بأكمله حدثت منذ عام 2015، وقال: "كل عام تقريباً، تعاني منطقة ما في البحر المتوسط".
التغيرات المناخية
وتظهر القياسات التي سجلتها الأقمار الصناعية التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية أنه في الفترة من يونيو إلى سبتمبر، ارتفعت حرارة المياه قبالة شمال إفريقيا وجنوب غرب أوروبا بدرجتين إلى 5 درجات مئوية أعلى من المتوسط اليومي في الفترة من 1985 إلى 2005. وبلغت حرارة المياه ذروتها عند ما يقرب من 31 درجة مئوية في بعض المناطق.
وبحلول سبتمبر، نفقت الكائنات البحرية من الإسفنج ونجوم البحر والأسماك والرخويات بشكل جماعي في المياه قبالة فرنسا وإسبانيا. كما تعرض المرجان للإبيضاض.
وقال حمدي حشاد، وهو مستشار في مجال البيئة في مؤسسة فريدريش ناومان للحرية، إن "ظاهرة التغيرات المناخية وارتفاع درجة مياه البحر ساهمت في وجود وتكاثر العديد من الأنواع الغازية والتي موطنها الأصلي ليس البحر المتوسط قدمت من أماكن أخرى مثل البحر الأحمر، المحيط الأطلسي أو المحيط الهندي ووجدت من خلال ارتفاع درجة مياه البحر هنا البيئة ملائمة للتكاثر".
وأضاف: "لذلك تواجدت هذه الأنواع هنا واستقرت وبدأت تزاحم الأنواع المحلية، وبسبب قدرتها على التأقلم بصفة أكبر من الأنواع المحلية فتدريجياً أزاحت الأنواع المحلية وتسببت في انقراض بعض الأنواع المحلية وأخذت مكانها".
ومن المحتمل أن يكون السلطعون قد وصل لأول مرة من المحيطين الهندي والهادي عن طريق مياه صابورة السفن (مياه الاتزان)، وتم توثيق وجود هذه الكائنات لأول مرة في البحر المتوسط عام 1898. ولكن مع ارتفاع درجات الحرارة في العقد الأخير تغذت على الأنواع المحلية القيمة وتفوقت عليها عدداً.
ولأن يرقات السلطعون الأزرق تحتاج لدرجات حرارة 30 درجة مئوية تقريباً في المياه لتنمو، لا تلوح في الأفق نهاية لهذا الأمر.
"داعش البحر"
وقال حشاد إن "الشراسة والقدرة على التدمير" التي تتمتع بها هذه القشريات هي السبب في أن يطلق عليها صيادو جزر قرقنة، التي تقع على بعد حوالي 20 كيلومتراً قبالة الساحل الشمالي لتونس، اسم "داعش".
ويضيف: "لديها شهية كبيرة جداً لأكل كل المخلوقات من حولها، لتصبح نقمة على الصيادين في المنطقة".
بينما تعد السياحة المحرك الرئيسي لمعظم النشاط الاقتصادي المرتبط بالبحر، بقيمة بلغت 450 مليار دولار في عام 2017 وفقاً للصندوق العالمي للطبيعة، هناك الملايين الذين يعتمدون على خيرات البحر في معيشتهم.
ولكن هذه الخيرات معرضة للخطر نظراً لأن تغير المناخ يجعل البحر المتوسط من بين أسرع البحار من حيث ارتفاع الحرارة في العالم، إذ ترتفع درجات الحرارة أسرع 20 بالمئة من المتوسط العالمي للمحيطات.
ويعود السبب جزئياً إلى أن البحر المتوسط هو حوض ضحل نسبياً ومغلق تقريباً. وتبلغ مساحته نحو 2.5 مليون كيلومتر مربع (970 ألف ميل مربع)، وقال جارابو "إنه بؤرة لتغير المناخ لأنه بحر صغير".
وأضاف أن اتصاله بالمحيط الأطلسي الواقع إلى الغرب محدود، لذلك "ليس هناك الكثير من الطرق لخروج المياه الدافئة". وتظهر البيانات أن درجة حرارة المياه بشكل عام أعلى 1.2 درجة مئوية في المتوسط عما كانت عليه قبل 30 عاماً.
ويمكن أن تتشكل موجات الحرارة البحرية الحادة حينما تتزامن درجات حرارة الهواء الدافئ مع استقرار مياه المحيط، وعندها يقل امتزاج طبقات المياه الأعمق الأكثر برودة مع الطبقة السطحية الأكثر دفئاً.
وعانت منطقة جنوب أوروبا هذا الصيف من درجات حرارة قائظة على اليابسة، وقال العلماء إنها توفر الظروف المثالية لظهور موجة الحرارة في مياه المحيط التي تمتص الحرارة الزائدة في الغلاف الجوي.
والبحر المتوسط ليس وحده بين البحار الذي يعاني من ارتفاع درجة حرارة المياه.
ارتفاع درجات الحرارة
وتقول الخبيرة كاثرين سميث، من الجمعية البيولوجية البحرية في المملكة المتحدة، إن موجة حر بحرية اجتاحت عام 2016 الساحل الجنوبي لتشيلي تسببت في تكاثر الطحالب الضخمة التي قضت على المزارع
السمكية وكلفت القطاع خسائر بلغت نحو 800 مليون دولار.
واستمرت موجة حر أخرى في بحر تسمانيا في أستراليا لأكثر من 250 يوماً في عامي 2015 و2016، مما أدى إلى تفشي الأمراض في مزارع المحار.
ومع ارتفاع درجة حرارة المعمورة، من المتوقع أن تصبح موجات الحر البحرية أكثر تواتراً، وفقاً للجنة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ التابعة للأمم المتحدة. وساعد تغير المناخ بالفعل في زيادة عدد أيام موجات الحر السنوية للمحيطات بنسبة 54 بالمئة في الفترة من عام 1925 إلى 2016، وفقا لما توصل إليه فريق من العلماء الدوليين في عام 2018.
ويقول العلماء إن البحر المتوسط يمكن أن يعاني من موجة حر شديدة واحدة طويلة الأمد على الأقل كل عام من الآن وحتى عام 2100، وفقاً لبحث أجري في 2019 ونشر في مجلة ديناميكيات المناخ.
والسلطعون الأزرق ليس النوع الوحيد الذي يغزو المياه الدافئة للبحر المتوسط. فقد أفاد تقرير الصندوق العالمي للطبيعة لعام 2021 بأن ما يقرب من ألف نوع غريب دخلوا إلى البحر، غالباً عن طريق الالتصاق بالسفن. لكن درجات الحرارة الأكثر دفئاً جعلت من السهل على بعض هذه الأنواع التي دخلت خلسة تكوين تجمعات لها.
ويعتبر نحو عشرة بالمئة من هذه الأنواع غازية، مما يعني أنها من المحتمل أن تسبب ضرراً بيئياً أو اقتصادياً.
فعلى سبيل المثال، تفرط سمكة الأرنب ذات اللون الأصفر الزاهي في التهام الأعشاب البحرية لتتغذى عليها، مما يؤدي إلى تدمير النباتات التي توفر موطناً رئيسياً للأنواع المحلية وتحبس الكربون.
وعلى الرغم من أن الاقتصاديين لم يقيموا بعد التداعيات الكاملة لموجات الحرارة البحرية، تمثل التأثيرات الحديثة مبعث قلق لكثيرين.
وفي المياه قبالة اليونان، حيث تمثل المنطقة الساحلية نحو 69 بالمئة من الاقتصاد، دمرت موجة الحر البحرية العام الماضي إنتاج بلح البحر مما أدى إلى تراجعه إلى النصف وتدمير 80 بالمئة من زريعة بلح البحر هذا العام.
تضرر قطاع الصيد
وتزيد قيمة مصايد الأسماك في البحر المتوسط على 3.4 مليار دولار، وفقاً لتقرير اللجنة الحكومية الدولية لعام 2022، إذ جابت أكثر من 76 ألف سفينة صيد مياه البحر بحثاً عن أسماك الأنشوجة والتونة ذات الزعانف الزرقاء والبوري الأحمر في عام 2019.
وقال ماورو راندوني، مدير برنامج البحر المتوسط في الصندوق العالمي للطبيعة، وهو برنامج يركز على الاقتصاد الإقليمي، إن تأثير مثل هذه الموجات الحارة شديد بشكل خاص في شمال إفريقيا، حيث يوجد
الكثير من "المجتمعات التي تعمل في مصايد صغيرة.. إنه أحد القطاعات الأشد تضرراً".
وقال نجيب أمين، الذي يقود مجموعة (كليما-ميد) للعمل المناخي التي يمولها الاتحاد الأوروبي والتي تم إطلاقها في عام 2018، إن دول شمال إفريقيا بدأت في وضع استراتيجيات للتكيف مع تغير المناخ.
وقال أمين، خلال مؤتمر المناخ COP 27 المنعقد حالياً في مصر، لرويترز إن المجموعة تعمل على تطوير استراتيجيات العمل المناخي للمدن الواقعة على الساحل الجنوبي للبحر المتوسط.
وأضاف أن البلدان الساحلية في أوروبا تواجه تأثيرات مماثلة لارتفاع درجات الحرارة لكن "الاختلاف هو القدرة المالية لهذه الدول".
وأوضح أن الدول الإفريقية تأمل في أن يؤدي COP27 إلى مزيد من التمويل للمشاريع التي ستساعد مجتمعاتها المحلية على التكيف مع ارتفاع درجة حرارة البحار.
وأعلنت بنوك أوروبية ، في وقت سابق، خلال COP 27 عن شراكة مع الاتحاد من أجل المتوسط، الذي يضم 42 دولة، لتقديم منح وإنفاق رأسمالي على مدى 8 أعوام للمساعدة في سد فجوة استثمارية تبلغ 6 مليارات يورو (6.21 مليار دولار) لدعم الدول الواقعة على الساحل الجنوبي للبحر.
لكن هذا الجهد سيستغرق وقتاً لبناء الزخم.
واضطر الصيادون التونسيون حالياً لإيجاد حلول لفقدان الكثير من الأنواع التي اعتادوا على صيدها مثل الصيد التجاري للسلطعون الأزرق.
وفي مايو 2021، بلغت قيمة صادرات السلطعون الأزرق من البلاد 7.2 مليون دولار أكثر من مثلي القيمة في الفترة نفسها عام 2020، وفقا لمنظمة الأغذية والزراعة (فاو).
ويوجد الآن أكثر من 30 مصنعاً لتجهيز السلطعون اثنان منهم في جزر قرقنة.
وقال حبيب زريدا، صاحب شركة لتصدير الأسماك تصدر السلطعون حالياً "بدأنا الإنتاج في يوليو 2018، عندما تكاثر سلطعون البحر بكثرة بدأنا في العمل عليه، صار مصدر رزق بعد أن كان نقمة.. أصبحنا نصدر السلطعون الأزرق إلى تايلاند في البداية ثم هولندا ثم الخليج العربي".
اقرأ أيضاً: