
أعادت الحملة الدولية لحظر الأسلحة النووية "إيكان فرنسا"، ملف التفجيرات النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية إلى الواجهة، عندما طالبت أخيراً، بكشف النفايات المشعة المدفونة تحت الرمال منذ ما يربو على 54 عاماً.
وقالت الحملة المناهضة لأسلحة الدمار الشامل، على موقعها الإلكتروني في 26 أغسطس، إن "الماضي النووي لفرنسا، لا ينبغي أن يظل مدفوناً تحت الرمال".
وأضافت أنه "حان الوقت للكشف عن النفايات الناتجة عن التجارب النووية التي أجرتها فرنسا خلال الفترة الممتدة بين العامين 1960 و1966، في الصحراء، لضمان الأمن والسلامة الصحية للأجيال الحالية والمستقبلية".
تجدر الإشارة إلى أن الحملة الدولية لحظر الأسلحة النووية، منظمة فرنسية غير حكومية، وتسمى اختصاراً "إيكان فرنسا"، وتضم في صفوفها 570 منظمة من 105 دول.
وأثارت المنظمة موضوع مخلفات التفجيرات النووية في الجزائر، قبل 3 أيام من "اليوم العالمي لمناهضة التجارب النووية" الذي يصادف في 29 أغسطس من كل عام.
كشف أسرار فرنسا
وتعني مطالبة المنظمة غير الحكومية، الحائزة على "جائزة نوبل للسلام" في عام 2017، فرنسا باستخراج نفاياتها النووية من تحت رمال الصحراء الجزائرية، كشف الكثير من الأسرار التي تخفيها باريس منذ ستينات القرن الماضي.
وتصنّف باريس تفجيراتها النووية التي أجرتها في الجزائر خلال الفترة بين العامين 1960 و1966، ضمن "الملفات العسكرية السرية"، والتي "لا يمكن الاطلاع عليها إلا بعد مرور 60 عاماً".
وقالت منظمة "إيكان فرنسا" إن "باريس، صاحبة الـ210 تجارب نووية منها 17 في الجزائر، لم تبح بكل أسرارها".
واستندت المنظمة على دراسة جديدة أنجزتها مؤسسة "هاينريش بيل"، وأعدها مدير "مرصد التسلّح"، باتريس بوفيريه، والمتحدث المشترك باسم منظمة "إيكان فرنسا"، جون ماري كولين.
وحملت الدراسة عنوان: "تحت الرمال، نشاط إشعاعي! نفايات التجارب النووية الفرنسية في الجزائر: تحليل بالنظر إلى معاهدة حظر الأسلحة النووية".
وبحسب وثيقة بحثية أعدها "المركز الوطني للدراسات والبحث" في تاريخ "الحركة الوطنية" و"ثورة الأول من نوفمبر" 1954، التابع لوزارة المجاهدين (قدامى المحاربين) الجزائرية، قامت فرنسا بدفن "آلات ومعدات ونفايات ومواد كيمياوية وبيولوجية وبكتيرية، وأخرى مشعة تحت الرمال".
وتقول الوثيقة التي أطلعت عليها "الشرق"، إن "فرنسا الاستعمارية وبعد رحيل قواتها من المواقع، وضعت حفراً عميقة وكدست بها البقايا والنفايات النووية التي يستمر أثرها في الإنسان والبيئة لملايين السنين".
تفجيرات سطحية وباطنية
وتحيي الجزائر سنوياً ذكرى أول تفجير نووي أجرته فرنسا على أراضيها، بتاريخ 13 فبراير 1960، بموقع حمودية الذي يبعد 65 كلم عن منطقة رقان في محافظة أدرار أقصى جنوب البلاد.
وفجرت فرنسا في العملية التي أطلقت عليها اسم "اليربوع الأزرق"، قنبلة من البلوتونيوم بوزن 70 كيلو طن، أي بقوة تفوق قنبلة هيروشيما بـ4 مرات.
وخلفت القنبلة سحابة نووية امتدت إلى شبه الجزيرة الإيبرية (إسبانيا والبرتغال) ودول غرب إفريقيا.
وذكرت شهادات أنه بتاريخ 16 فبراير 1960 (بعد 3 أيام)، تساقطت أمطار سوداء تحمل إشعاعات نووية، في منطقة "فاغو" جنوب البرتغال خلفت رعباً في قلوب السكان.
وفنّدت هذه الوقائع وشهادات أخرى لجزائريين وجنود فرنسيين، مزاعم فرنسا التي صرحت يومها بزوال الإشعاع النووي بعد 90 ثانية من الانفجار.
واستمرت التفجيرات النووية الفرنسية في صحراء الجزائر حتى عام 1966، أي بعد استقلال الجزائر الذي تم في عام 1962، وأجرت في المجمل 17 عملية، 4 منها سطحية و13 باطنية داخل أنفاق.
فئران تجارب
وقال علماء جزائريون متخصصون في الفيزياء النووية، في مذكرة بحثية إن "فرنسا عرضت المواطنين الجزائريين عمداً لإشعاع أول تفجير نووي في منطقة رقان، وقامت قبل يوم من العملية، بإحصاء السكان وأمرتهم بالخروج من منازلهم والاحتماء بغطاء فقط".
وأشار العلماء إلى أن فرنسا، لم تتردد في استعمال الجزائريين من سكان المنطقة وأسرى المجاهدين (المحاربين القدامى)، وحتى الجنود الفرنسيين، كفئران تجارب لرصد حجم الإشعاعات النووية.
وأفادوا بأن السلطات الفرنسية، قامت بوضع قلادات للسكان، لقياس شدة الإشعاعات بعد التفجيرات النووية التي أجرتها في المنطقة.
ونقل الجيش الفرنسي في ساعة الصفر للتفجير، دبابات وأسلحة وعتاد وفئران ومواشي (أغنام وماعز)، كما حلقت طائرة وسط السحابة النووية، ومعادن من أجل رصد الأضرار التي تحدثها القنبلة.
وكشف فليم وثائقي جزائري تم بثه في عام 1985، بعنوان: "كم أحبكم"، أن عسكرياً فرنسياً برتبة عقيد يدعى "بيكاردا"، عرض 200 مجاهد مسجون للأشعة النووية، لإجراء اختبارات عليهم.
وبحسب الفيلم قامت فرنسا بعد هذه العملية، بدفن ما تبقى من وسائل ومعدات وبقايا التجارب تحت الرمال، غير أن آثارها وإشعاعاتها ما زلت مستمرة حتى اليوم.
ومنذ سن باريس لقانون موران في عام 2010، لتعويض ضحايا التجارب النووية، تلقت وزارة الدفاع الفرنسية أكثر من 40 ألف ملف كطلب تعويض، أغلبهم لجنود فرنسيين سابقين عملوا في مواقع التفجيرات ومحيطها.
وتقول جمعية قدماء الجنود المشاركين في التجارب النووية في صحراء الجزائر، إن "ما لا يقل عن 5 آلاف شخص بمن فيهم مدنيون وعسكريون، وسكان رقان، ذهبوا ضحية هذه التجارب التي أودت بحياة الكثير من الأشخاص".
تعاون وتعويض
وذكر المؤرخ الجزائري محمد الأمين بلغيث، أن ألف كلم مربع من الصحراء الجزائرية، لا تزال منطقة محرمة على المدنيين، بسبب الإشعاعات النووية التي "لا تزال مستمرة حتى اليوم".
وقال بلغيث لـ"الشرق"، إن التجارب النووية الفرنسية "ليست جريمة حرب فقط، وإنما جريمة ضد الإنسانية، وضد البيئة لا يزال خطرها قائماً إلى اليوم، وسيستمر ملايين السنين".
واعتبر المؤرخ أن "ليس مطلوباً من فرنسا تنظيف السموم النووية وإزالتها من مساحة التفجيرات، لأنها قد تستغل الأمر في التجسس ولأغراض عسكرية لصالحها".
وأضاف: "على السلطات الفرنسية تسليم خرائط ووثائق التفجيرات التي قامت بها إلى الجزائر، لتتكفل الأخيرة بإزالة المخلفات بنفسها"، لأن الأمر لا يتطلب سوى "أموال وتكنولوجيا عالية".
ويرى المؤرخ أن باريس مطالبة بتعويض ضحايا التفجيرات النووية، التي تسبب في تشوهات خلقية، وأمراض خطيرة كسرطان الجلد.
وكان الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، قال في حوار مع صحيفة "لوبينيون" الفرنسية خلال يوليو الماضي، إن التعويض الوحيد الذي يمكن أن تقدمه فرنسا عن فترة استعمارها للجزائر خلال الفترة بين عامي 1830-1962، هو الكشف عن التجارب النووية التي لا تزال عواقبها حادة بالنسبة لبعض السكان، ولا سيما أولئك الذين يعانون تشوهات، وبعض المواقع التي لم يتم معالجتها بعد.
وأضاف تبون: "الجزائريون مهتمون أكثر باعتراف الدولة الفرنسية بأفعالها خلال فترة الاستعمار أكثر من التعويض المادي".
سياق خاص
وطرحت الحملة الدولية لحظر الأسلحة النووية، مسألة النفايات النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية، بعد شهر من تعيين الرئيس الجزائري ونظيره الفرنسي لخبيرين، سيعملان على معالجة ملف الذاكرة.
وعين الرئيس عبد المجيد تبون، مستشاره الخاص والمدير العام لـ"المركز الوطني للأرشيف" عبد المجيد شيخي، بينما اختار إيمانويل ماكرون المؤرخ بن جامان ستورا الذي ولد في محافظة قسنطينة الجزائرية قبل الاستقلال.
وتضع الجزائر ملف التفجيرات النووية، إلى جانب استعادة ما تبقى من رفات أبطال المقاومة الشعبية والأرشيف والمفقودين، على طاولة المفاوضات مع فرنسا.
وأكدت الجزائر على لسان وزير خارجيتها صبري بوقادوم، أن بلوغ "مستوى طبيعي من العلاقات الثنائية مع فرنسا"، مرهون "بمعالجة نهائية ومقبولة لملف الذاكرة".