
وقفت الشقيقتان الشابتان، مجد وهديل البابا، على سطح بيتهما في مخيم الأمعري، قرب رام الله، مساء الـ 29 من أغسطس الماضي، تشاهدان "زفة عرس" في شارع ضيق أمام البيت، وفجأة ظهر مسلحون، وأخذوا يطلقون النار في الهواء احتفالاً بالزفاف الذي سرعان ما تحول إلى دار عزاء، بعد أن انحرفت رصاصاتهم لتستقر إحداها في رقبة "مجد" التي فارقت الحياة مباشرة، بينما تستقر أخرى في يد أختها.
"في لحظة واحدة حدث كل شيء، فقدت ابنتي، وانقلب الفرح إلى عزاء"، هكذا لخصت سامية البابا، والدة الشابتين لـ"الشرق"، الحادث المأساوي الذي تعرضت له أسرتها، ووقع بلمح بالبصر.
تعديل قانوني
عقب الحادث، أجرى الرئيس الفلسطيني محمود عباس، تعديلاً على "قانون الأسلحة والذخائر" تضمن تشديداً لعقوبة حيازة الأسلحة والذخائر والاتجار بها، لتصل إلى الحبس الفعلي بين 5 و15 عاماً، بدلاً من السجن بين عام و3 أعوام، كما كان معمولاً به في القانون القديم.
وشهدت الضفة الغربية في الآونة الأخيرة حوادث مأساوية ناجمة عن استخدام السلاح في المناسبات والشجارات، منها مصرع شقيقين بالرصاص أثناء شجار في بلدة قرب نابلس شمالي الضفة الغربية.
وقال الناطق باسم الشرطة، العقيد لؤي أرزيقات لـ"الشرق": إن "عدد ضحايا السلاح في الضفة الغربية ارتفع هذا العام بنسبة كبيرة، إذ سقط 33 ضحية بالسلاح، مقارنة بـ25 في العام الماضي، جراء إطلاق نار عشوائي، أو في شجارات شخصية وعشائرية".
سوق سلاح مفتوح
وقال مسؤولون أمنيون: إن "الضفة الغربية تحولت في الآونة الأخيرة إلى سوق مفتوحة للسلاح الإسرائيلي"، مشيرين إلى وجود دوافع سياسية وراء ذلك، منها محاولة إضعاف السلطة الفلسطينية، والضغط عليها من أجل إلغاء قرارها بوقف التنسيق والتعاون الأمني مع إسرائيل.
وقال الناطق باسم المؤسسة الأمنية، اللواء عدنان الضميري: "هناك كميات كبيرة من السلاح الإسرائيلي تتدفق إلى الضفة الغربية، من المنطقة التي تسيطر عليها إسرائيل، والتي تشكل 60% من مساحتها".
وأضاف في تصريحات لـ"الشرق": "الظاهرة بدأت تأخذ بُعداً جديداً في الآونة الأخيرة، بعد وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل، وهي المصدر الوحيد للسلاح المنتشر في الضفة الغربية، حيث تسيطر على كل الحدود والمعابر".
أسباب الظاهرة
ويتزايد الطلب على السلاح الفردي بصورة لافتة في الضفة الغربية، جراء عدم استقرار النظام السياسي، وأثار ميل عدد من المسؤولين إلى تسليح المقربين منهم قلقاً في أوساط واسعة من المجتمع الفلسطيني، خصوصاً العشائر وقطاعات الأعمال التي يلجأ العديد من أبنائها إلى الحصول على السلاح من أجل حماية مصالحهم في حالة حدوث انفلات أمني، بينما يحقق تجار إسرائيليون وفلسطينيون أرباحاً طائلة من ترويج السلاح هناك.
وقال اللواء عدنان الضميري: إن "تحقيقات أجهزة الأمن أظهرت أن سعر بندقية (M16) بلغ نحو 30 ألف دولار، وأن ثمن الرصاصة الواحدة يبلغ 3 دولارات، فيما يبلغ ثمن رصاصة الرشاش من طراز كلاشنكوف 10 دولارات"، لافتاً إلى أن "الأغلبية العظمى من السلاح المنتشر في البلاد هو من النوع المستخدم في الجيش الإسرائيلي".
ونشرت وسائل إعلام إسرائيلية، مؤخراً، معلومات بشأن كميات كبيرة من البنادق والذخائر فقدت من أحد معسكرات الجيش الإسرائيلي.
من جانبه، تساءل الرئيس محمود عباس، في خطاب خلال اجتماع قادة الفصائل الأسبوع الماضي: "هل يقوم الجنود الإسرائيليون ببيع سلاحهم؟" مشيراً إلى وجود أهداف سياسية وراء ذلك.
فوضى متعمدة
وأكد اللواء الضميري، أن إسرائيل تسعى من وراء نشر السلاح في الأراضي الفلسطينية إلى نشر الفوضى والانفلات وإضعاف السلطة الفلسطينية، وإجبارها على العودة للتنسيق معها.
وتنتقد مؤسسات حقوق الإنسان السلطة الفلسطينية لما تسميه "غض الطرف" عن المخالفين من أصحاب النفوذ، وحصر تطبيق القانون على بقية الفلسطينيين.
وقال مدير عام "الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان"، الدكتور عمار الدويك، لـ"الشرق": إن التعديلات الأخيرة التي أدخلت على القانون مهمة، لكن الأهم هو تطبيق القانون، وبصورة عادلة على الجميع دون تمييز.
وأضاف الدويك: "هناك الكثير ممن يحملون السلاح من ذوي النفوذ ومن محيطهم بلا مساءلة ولا ملاحقة. الظاهرة خطيرة ومقلقة وفي ازدياد دائم". وأشار إلى ارتفاع نسب انتشار السلاح هذا العام بنحو 40% عن العام السابق، مؤكداً أن ذلك يتطلب إجراءات حازمة لا تمييز فيها بين شخص وآخر.
وأكد "الدويك"، أن "الهيئة تتفهم حقيقة أن السلطة لا تسيطر على جميع المناطق، وإن إسرائيل تسيطر على أكثر من 60% من مساحة الضفة، وأن هذه المناطق تشكل بؤر انتشار السلاح"، لكن أشار في الوقت ذاته أن "التطبيق الجاد بلا تمييز بين المواطنين يسهل محاربة الظاهرة".
إسرائيل مسؤولة
ووفقاً لمسؤولين، فإن كميات الأسلحة المنتشرة في البلاد زادت بشكل لافت في الأشهر الأخيرة بعد قرار السلطة وقف العلاقة مع الجانب الإسرائيلي في مايو الماضي.
وقال عضو اللجنة التنفيذية، لمنظمة التحرير الفلسطينية، ووزير التنمية الاجتماعية، الدكتور أحمد مجدلاني: "عمدت إسرائيل إلى إغراق الضفة الغربية بالسلاح والمخدرات، بعد وقف التنسيق الأمني لإجبار السلطة على إعادة التنسيق والتعاون معها لمحاربة هذه الظواهر".
وأضاف "مجدلاني" في تصريحات لـ"الشرق": "سنحارب الجريمة بشدّة، ولن نتراجع عن قرارنا بوقف العلاقة مع الجانب الإسرائيلي. فالرئيس محمود عباس مصمم على قطع العلاقة مع الجانب الإسرائيلي حتى يعاد النظر في كل الاتفاقات الموقعة، وتغييرها بما يخدم شعبنا".
ملاحقة قانونية
وفي السياق ذاته، أكد مسؤولون في السلطة الفلسطينية لـ"الشرق"، أنهم بدأوا تطبيق القانون المعدل، وملاحقة مسلحين ومصادرة سلاحهم واعتقالهم. ومن بين المعتقلين المشتبه فيه في إطلاق النار الذي أدّى إلى مقتل الشابة مجد البابا، وإصابة شقيقتها.
وقال اللواء عدنان الضميري: إن السلطة بدأت في تطبيق القانون الجديد من اليوم الأول لإقراره، وصادرت كميات كبيرة من السلاح، وهي عازمة على مواصلة حملتها.