الأدباء في زمن كورونا.. كتابة ورسم وتأمل في مواجهة الفيروس

time reading iconدقائق القراءة - 12
عزلة كورونا كانت فرصة للكتابة والإبداع - Getty Images
عزلة كورونا كانت فرصة للكتابة والإبداع - Getty Images
بيروت-رنا نجار

فرض وباء كورونا منذ ظهوره نهاية 2019، حالة من العزلة الجبرية سرعان ما سيطرت على كل دول العالم، وأصبح الوقت متوفراً للجميع بمدد طويلة، وبمشتتات أقل، وخاصة مع التوقف عن الانغماس في دوّامة نظام السرعة القاسية، وحلقات العمل المتواصلة من أجل توفير المال ولقمة العيش.

وقبل كورونا كانت هناك ندرة في الأوقات المخصصة للإصغاء إلى الذات، أو التأمل، أو الكتابة بآلية مختلفة، لكن ما إن بدأت عزلة كورونا، حتى بدأت لحظات من الإبداع تولد في ظلام الخوف من الإصابة.

في الشعر والأدب عامة، ظهرت العديد من الكتابات حول العالم، وخاصة في العالم العربي عن الحجر، والانزواء، والوباء، وفي السينما أيضاً، كما في الموسيقى وحتى في أدب الأطفال، ولذا ليس جديداً أن تحرّض الأوبئة المبدعين على الإنتاج، كما حرّضت وليم شكسبير في عام 1606 أثناء انتشار الطاعون في إنجلترا، على كتابة أروع مسرحياته، وهي عزلة الطاعون نفسها التي حرّضت إسحق نيوتن على التوصل إلى نظرية الجاذبية، فهل حرضت عزلة كورونا الأدباء العرب على الإبداع وفتحت باباً جديداً للتأمل؟

عباس بيضون: 15 قصيدة عن الحجر

الشاعر والروائي اللبناني عباس بيضون أكد أنه "ليس لديه رغبة في امتداح كورونا"، وتابع قائلاً: "لست رومانسياً من هذه الناحية ولا أريد أن أمتدح المرض أو الألم أو القلق، هذه الثلاثية تؤذيني حقاً، وهي تجتمع على نحو ما في معاناة كورونا، فمنذ ظهورها في لبنان وأنا متعجب من نفسي كل يوم، أمارس من جديد عزلتي وحجري في البيت، ولا أصدق أن المساء أتى وأنني أستطيع أن أفعل ذلك، وأنا أجتازه في الوحدة".

 وأضاف بيضون: "كل يوم بالنسبة لي مفاجأة جديدة، يتكلمون عن العزلة وعن الوحدة، يتراءى لنا أن الوحدة غذاء الشعراء والأدباء، لكن عزلة كورونا خانقة، ووحدتها ثقيلة، والحياة معهما أصبحت لا تُطاق، لا أعرف ما الذي جعلني أكتب شعراً هو من أصداء الحَجر، ونشرت 15 قصيدة بعنوان "قصائد الحجر"، وسوف تصدر في ديوان "الحياة تحت الصفر"، ولا أعرف كيف وافاني الشعر، كنت يائساً منه ولا أظن وما زلت لا أظنّ أنه الوقت المناسب للشعر، لكن بعد ذلك بدأ الشعر يتململ في داخلي، لم أفهم ولا أريد أن أفهم أن هذا كان بفضل العزلة أو الوحدة، فهمت فقط منه أنني مجرد كاتب وأن الكتابة هي عملي وأنني أتكلم وأتصرف وأحيا كتابة".

وتابع الشاعر والروائي اللبناني: "لا أشعر بأن العزلة الخانقة يمكن أن تكون محرّضاً على الشعر، ما أفعله الآن هو أن شيئاً ما ليس العزلة وليس الوحدة، إنما ربما الفراغ أو ربما القراءة التي تجبرني عليها العزلة ويجبرني عليها الحجر، أظن أنني في العزلة لا يبقى لي سوى الكلمات، أريد أن أتكلم ولكن لا أحد يُصغي لي، فأتكلم كتابةً، يُفاجئني مثلاً أن تكون الكتابة ممكنة لي كما يُفاجئني أن أجد كلاماً عن الحجر، إذ لا أظن أن بوسع الحجر أن يتحوّل إلى كلام، أو أن نجد كلاماً له، لكن كورونا التي هي لغز الألغاز والتي بقيت إلى الآن لغزاً حتى حين نتكلم عن سلالة جديدة، يظهر أننا لا نعرف عمّا نتكلم، كورونا قد تكون على نحو ما، أعجوبة والكتابة من أعاجيبها".

عبده وازن: قصيدة "ذئب كورونا"

أما الكاتب والمترجم اللبناني عبده وازن فقال: "في المرحلة الأولى من العزلة شعرت بالعجز عن الكتابة الإبداعية، كنت قبلها أعمل على رواية شارفت على إنهائها، لكن عندما حل الوباء انقطعت عنها ربما بسبب الخوف الذي اعتراني والقلق والمستقبل الغامض الذي ينتظر البشرية جمعاء، وبعد فترة من العزلة عاودني شعور ملحّ بالعودة إلى الكتابة".

وأضاف وازن: "بعد هذا الشعور رحت أكتب قصائد منها قصيدة طويلة جداً عنوانها "ذئب كورونا"، إضافة إلى نصوص نثرية، وشعرت فعلاً بأن الكتابة قادرة على مصالحتي مع الواقع وعلى مواجهته، إضافة إلى هاجس إضاعة الوقت في الفراغ القاتل واللامجدي، لكنني لم أعد إلى كتابة روايتي التي تحتاج إلى الكثير من التركيز، ووجدت في الشعر أداة للمواجهة، والآن أكتب ديواناً جديداً يتضمن قصيدة عن مأساة بيروت".

 عبد الله ثابت: عمل عن "ليالي الملل"

كذلك أكد الشاعر والروائي السعودي عبد الله ثابت، أنه استفاد من عزلة كورونا، وقال: "بالطبع استفدت كثيراً من هذه السنة، ولا سيما في أشهر الحظر، قطعت شوطاً كبيراً في كتابة عمل لا علاقة مباشرة له بالجائحة، لكنه يتناول السأم بلياليه وأيامه، بالضجر الوجودي المُمضّ، من جهة، ومن جهة أخرى يحمل ذاكرة خلاصٍ جمالية مزدوجة، ما بين الشخصي والعام".

وتابع ثابت: "في النصف الثاني من السنة أيضاً، خضت مغامرة تجربة جديدة، وهي كتابة محتوى لبرنامج وثائقي، يحفر في الحكايات والأساطير الشعبية، في مناطق عدة بالمملكة العربية السعودية، على أمل أن يبدأ عرضه مطلع 2021 عبر قناتي SBC ، والقناة الأولى السعوديتين".

 خالد خليفة: رسم 100 لوحة ورواية "لم يُصلّ عليهم أحد"

وقال الروائي السوري خالد خليفة، إنه لم يستطع في البداية تخيل زمن كورونا، ولا حتى شكله، لكنه اعتبر أن فكرة الحبس وعدم الخروج من المنزل وامتلاك كل هذا الوقت نعمة يجب استثمارها، لأنه لن تأتي فرصة ثانية لتشارك الجماعة والعالم هذا الحدث رغم ألمه.

وأضاف خليفة: "في الأيام الأولى للحجر تذكرت أنني منذ زمن طويل أردت تجريب الرسم واللعب مع الألوان، ولم أنتظر طويلاً، في أول فرصة بدأت أرسم، غرقت في ذلك العالم السحري، وشغفي وأسئلتي لم تتوقف، أسأل أصدقائي عن كيفية غسل الريش، وأنواع الألوان وماركاتها، أتابع الفيديوهات التي تعلّم الرسم وتقدم دروساً للهواة أو المحترفين الجدد، حتى الآن رسمت قرابة 100 لوحة من الأكريليك إلى الفحم والشمع، وأشعر برضا حين أتأمل ما فعلت، كان وقتاً مفيداً، فكرت فيه أيضاً في كيفية خلق كتابة جديدة، أو محاولة كتابة جديدة".

 وزاد: "طبعاً لم أتوقف عن كتابة روايتي الجديدة التي أعمل عليها منذ سنتين، لكن بقيت موضوعاتي نفسها ولم أفكر حالياً في الكتابة عن الوباء، وأعتبر أن روايتي "لم يصل عليهم أحد"، قالت الكثير من الأشياء عن زمن كورونا، وأفكر اليوم في موضوعات مختلفة، أو كيف نكتب بشكل مختلف".

سامر أبو هواش: ديوان "أطلال" العالم المتلاشي

وروى الكاتب والمترجم الفلسطيني سامر أبو هواش تجربته قائلاً: "جلست كثيراً إلى منضدة الكتابة في عام كورونا، ونشرت ترجمات عدة، إضافة إلى ديوان شعري بعنوان (أطلال)، لكن للحق لم أفعل ذلك مدفوعاً بأي شعور بقهرية اللحظة، أو بأن العالم يحتاج رأيي وشعوري تجاه أي شيء.

وبشأن الديوان الشعري الجديد يقول أبو هواش: "أتحدث في الديوان عن عالم متلاش، هو عالم الطفولة، مرئية من لحظة راهنة تفلت من يديّ باستمرار، وهو استكمال لديوانين سابقين، (تخيط ثوباً لتذكر) و(سيلفي أخيرة مع عالم يحتضر)، وجميعها تدور بشكل أو بآخر حول الذاكرة في طغيانها وتبددها معاً".

وتابع: "بالنسبة لكورونا بهذا المعنى هو جزء أيضاً من سلسلة كوارث من الحروب الكونية، والقنابل النووية، والهجرات العالمية، والمجازر الكبرى، والأوبئة المدمرة، والسؤال يظل مطروحاً كيف سنخرج من هذه الكارثة الأخيرة؟ هل سنكون أكثر قدرة على التذكر، أم أننا سنفضل كعادتنا أن نداوي الأسى بالنسيان؟".

 نزار عبد الستار: الكتابة علاج

وأشار الروائي العراقي نزار عبد الستار إلى أنه "في زمن كورونا لم يكن الموت هو السؤال الملحّ بالنسبة لي، وإنما مصير الجمال والفن، الأسى الأعمق من خسارة يومياتنا الحياتية هو توقّف إنتاج الفن، وخسارة الحافز المعيشي واختفاء الأزمات المصاحبة للمواطنة التي كانت تورّطنا في المزيد من الرفض، وتجعلنا نرتكب أفعال التعبير الفني".

وأردف عبد الستار: "في البداية، شعرت بصعوبة بالغة لأن الخوف كان يتنامى ولكنني سرعان ما وجدت في الكتابة وسيلة علاج، فهي تشبه غلق باب البيت وإسدال الستائر، احتجت إلى وقت كي أقنع نفسي أنني اخترت العزل وأنني أرغب في التباعد وهكذا استطعت أن أكتب رواية (شاي الماركيزة إيلينا)، أعتقد أن هذه هي الطريقة المناسبة لي للتعايش الأبدي مع الفيروسات".

ليانة بدر: تأملات في مرحلة لم تكتمل

وأما بالنسبة للروائية الفلسطينية ليانة بدر، ففي البداية "هيئ لها أن العزلة الإجبارية الكاملة التي فرضتها كورونا ستفسح المجال للمزيد من العمل وتكملة الكتابات التي تنتظر نهايات بحاجة إلى شغل دؤوب، ثم اكتشفت أن الملل صار هو المهيمن على كل ما تفعله".

وأضافت بدر: "وهكذا تجمدت الحلقات وصار لي أن أجلس ضعف الوقت المخصص للكتابة، ثم لا أنتج ما يوازي الجهد والتحضير الذي كنت قدمته، صرت أفتقد أصوات الضحكات وازدحام البشر الخالي من الفزع، ورائحة الأمكنة مهما كانت حامضة وقديمة مثل صالات السينما، بدأت أتمنى لو كانت لي وجهة أذهب إليها لمجرد تغيير المكان وتكراره المشبع مللاً، تغيرت علاقتي الوجودية بالأشياء، وبدأت أمحص أفكاراً وعادات وأضعها تحت المجهر، ندمت على كل سفر كان في طريقي وأهملته بسبب ضرورة الجلوس للكتابة".

 وتابعت: "بدأت أكتشف هشاشة عالمنا الذي كان مبنياً بشكل منطقي بعد أن تفلطح العالم القديم الذي ظنناه مستوياً، فإذا به في لحظة يميل على جانب واحد ويسلبنا حس التوازن الوهمي الذي آمنا به قبل الجائحة".

ولفتت الروائية الفلسطينية إلى أن كورونا وحده غيّر علاقة الإنسان بالعالم كله، غيّر العلاقة مع الجسد لنكتشف هشاشتنا التي لم نرها من قبل، مشيرة إلى أنه كشف مساوئ الليبرالية الجديدة المتوحشة، وجعلنا نرى كيف تقلص البحث العلمي وكم صار الطب عاجزاً عن إنقاذ الإنسان.

وزادت بدر: "قبل كورونا كان كل منا يتعامل مع الجسد كظله العابر بثقة مطلقة في الحكمة الطبية، الآن صار الواحد منا يستجوب جسده ويبحث عن صفاته وألوانه ونقاط الحساسية فيه سلباً أو إيجاباً، وقلبه يخفق بين الضلوع خوفاً على من يحبهم وعلى البشرية بأكملها مما يحدث فيها".

وكشفت عن أنها كتبت نصوصاً عدّة عن المرحلة، لكن المرحلة ذاتها لم تكتمل لتجد ما يمكن أن يبلور صياغتها، وتكمل رواية بخطى أبطأها هذا الحَجْر، وتفتش عن كلمات جديدة لصياغة أفكار لم يخطر ببال أي منا أنه سيكون بحاجة إلى مواجهتها قبل الوباء.