
ظلّت الأزمة في السودان بين المكونين المدني والعسكري في الحكومة الانتقالية، مكتومة منذ أشهر، قبل أن تتفجر في سبتمبر الماضي، علماً بأنها بدأت بالتحديد عقب رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
لكن الخلافات طفت إلى السطح عقب إعلان القوات المسلحة السودانية إحباط المحاولة الانقلابية الفاشلة، والتي اعترف 30 ضابطاً بالتورط فيها.
عقب ذلك زار رئيس المجلس السيادي الانتقالي الفريق أول عبد الفتاح البرهان، سلاح المدرعات جنوب الخرطوم وهاجم المكون المدني، ليتبعه على النهج ذاته نائبه عضو مجلس السيادة، الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، في خطاب منفصل جنوبي أم درمان.
تفجر الأزمة
وفي تطور يشير إلى عمق الأزمة، سارع المكون المدني بالرد، من خلال حوار تلفزيوني شارك فيه عضو مجلس السيادة محمد الفكي، وقوى الحرية والتغيير، حيث وصفوا تصريحات البرهان بأنها "انقلاب وتراجع عن الانتقال والتحول الديمقراطي".
بعد أن عصفت الأزمة بشركاء الحكومة الانتقالية في السودان، بدأ رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك تحركات حثيثة للوساطة بين الجميع لإنهاء الأزمة بين شركاء الحكومة الانتقالية.
وخلال الأيام الماضية عقد اجتماع رباعي ضم رئيس المجلس السيادي الانتقالي، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وعضوي المجلس الفريق أول حميدتي، والفريق أول ركن شمس الدين كباشي، بالإضافة إلى رئيس الوزراء حمدوك لبحث أزمة شركاء الحكومة الانتقالية.
وعقب ذلك كشفت مصادر سودانية لـ"الشرق"، عن عقد اجتماع بين حمدوك وممثلي قوى الحرية والتغيير لبحث أزمة شركاء الحكومة الانتقالية، وهو الأمر الذي تبعه أول اجتماع بين حمدوك والمكون العسكري، لبحث أزمة شركاء الحكومة الانتقالية.
وكان البرهان قد انتقد "سيطرة قوى الحرية والتغيير على إدارة البلاد"، وأطلق عليها "مجموعة الأربعة"، إذ تتشكل قوى إعلان الحرية والتغيير من عدة أحزاب وتحالفات سياسية، قادت ونسقت مجتمعة الاحتجاجات التي أطاحت بحكم الرئيس المعزول عمر البشير في أبريل 2019.
ويضم ائتلاف الحرية والتغيير أكثر من 40 حزباً، أبرزها "حزب الأمة القومي"، "التجمع الاتحادي"، "المؤتمر السوداني"، و"حزب البعث العربي الاشتراكي"، فضلاً عن حركات منضوية تحت لواء "الجبهة الثورية".
لكن التحالف تعرض لانشقاقات خلال الفترة الماضية، إذ وقّعت عدة أحزاب وحركات السبت الماضي على "الميثاق الوطني لوحدة قوى الحرية والتغيير"، على رأسها حزب "البعث السوداني"، وحركتا "جيش تحرير السودان" و"العدل والمساواة"، وسط اتهامات بالسعي لخلق أزمة قانونية ودستورية.
وفي ما يلي عرض لأبرز القضايا التي أدت إلى تفاقم الأزمة السياسية:
انتقال الرئاسة إلى المكون المدني
قال عضو مجلس السيادة الانتقالي محمد الفكي سليمان، في تصريحات إعلامية، إن أحد أبرز محركات "تململ العسكر الأخير، تعود إلى وجوب انتقال رئاسة المجلس السيادي من العسكر إلى المدنيين في نوفمبر"، وذلك تنفيذاً للوثيقة الدستورية الخاصة بإدارة المرحلة الانتقالية.
لكن مصادر عسكرية قالت لـ"الشرق"، إن موعد تسليم رئاسة المجلس السيادي من المكون العسكري إلى المدني "سيكون في الثالث من يوليو 2022".
وتحكم السودان فترة انتقالية من 4 سنوات مناصفة بين العسكر والمدنيين والحركات المسلحة الموقعة على السلام، وينتظر أن يترأس المدنيون النصف الثاني من الفترة الانتقالية.
وكان تقاسم رئاسة المجلس السيادي محكوماً بالوثيقة الدستورية، التي حددت الفترة الانتقالية في 39 شهراً تبدأ من أغسطس 2019، لكن اتفاق جوبا الذي وقع في أكتوبر 2020 أضاف عاماً إلى الفترة الانتقالية وخلط الأوراق.
الإعلان السياسي والاصطفاف
في السابع من سبتمبر وقّعت "قوى إعلان الحرية والتغيير" على إعلان سياسي جديد من أجل التوحد، شارك فيه رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وأكثر من 20 حزباً سياسياً، ما أثار حفيظة المكون العسكري، الذي اعتبر المبادرة "اصطفافاً ضده".
وبحسب مصادر حكومية تحدثت لـ"الشرق"، فإن "الحرية والتغيير لم تقدم دعوة للمكون العسكري الذي غاب عن حفل التوقيع".
هيكلة الأجهزة الأمنية
ظلت قضية إصلاح المؤسسات الأمنية من أبرز القضايا الشائكة بين المكونين المدني والعسكري في السودان، إذ يشدد المدنيون على ضرورة إصلاح الأجهزة الأمنية، خصوصاً عقب المحاولة الانقلابية الأخيرة. فيما يرفض العسكريون تدخل المدنيين، مؤكدين أن الأمر اختصاص لهم.
وأفادت مصادر "الشرق" بأن رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان، تحدث إلى قائد قوات الدعم السريع بشأن دمج قواته في الجيش، على خلفية دعوات من الإدارة الأميركية والقوى الإقليمية، وهي القضية التي أثارت جدلاً واسعاً.
و"الدعم السريع" قوة مقاتلة جرى تشكيلها لمحاربة المتمردين في دارفور، ثم لحماية الحدود لاحقاً، تأسست كقوة تابعة لجهاز الأمن والمخابرات، وظلت محل اتهام بارتكاب انتهاكات.
وفي أكتوبر من عام 2019 أصدر رئيس المجلس السيادي الانتقالي الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قرارات بإعادة هيكلة الجيش السوداني، قضت بإلغاء نظام رئاسة الأركان المشتركة الذي اتبعه حكم الرئيس المعزول عمر البشير، والعودة للعمل بالنظام القديم "هيئة الأركان".
وأصبحت وحدات الجيش السوداني تشمل القوات البرية والبحرية والجوية والدفاع الجوي، وأسندت رئاسة هيئة الأركان إلى الفريق أول ركن محمد عثمان الحسين.
ونصّت الوثيقة الدستورية الموقعة بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير في 17 أغسطس، على إسناد مهمة إصلاح الأجهزة العسكرية لمؤسسات الجيش وفق القانون. لكن برز إلى السطح عقب ذلك ملف دمج قوات الحركات المسلحة في القوات المسلحة السودانية، مما زاد الأمر تعقيداً.
وبموجب اتفاقية السلام الموقعة بجوبا في الثالث من أكتوبر 2020، فإنه يجب دمج قوات الحركات في الجيش الحكومي عبر ترتيبات أمنية.
المجلس التشريعي
ظلت الاتهامات تتبادل بين المكونين العسكري والمدني، بشأن تعطيل قيام بعض المفوضيات والمجلس التشريعي، منها مفوضية السلام ومحاربة الفساد إلى جانب مفوضية القضاة والمحكمة الدستورية.
وطالب القيادي في حزب الأمة الواثق البرير، بحل مجلس السيادة بكل مكوناته عسكرية ومدنية، بما فيها أطراف عملية السلام، وإعادة تشكيله من عسكريين غير مسيسين ومدنيين مستقلين.
ودعا البرير إلى حل مجلس الوزراء وتكوين حكومة تكنوقراط من كفاءات وطنية، ذات ثلاث مهام فقط هي تحقيق الأمن والاستقرار، تحسين الوضع الاقتصادي، وتهيئة البلاد لانتخابات حرة ونزيهة في يناير 2024.
وقال مقرر اللجنة القانونية في "الحرية والتغيير" طلب الختيم، لـ"الشرق"، إن الأزمة بين جميع شركاء الحكومة الانتقالية "يجب أن تحل بشكل عاجل في اجتماع لمجلس الشركاء، الذي أنيطت به مهمة حل الخلافات والتباين بين شركاء الوثيقة الدستورية".
من جانبه يقول الخبير العسكري أمين إسماعيل مجذوب لـ"الشرق"، إن الخلاف بين المكونين المدني والعسكري في السودان "وصل مداه في أزمة بالغة الخطورة، لم تحدث في تاريخ السودان الحديث من قبل"، مشيراً إلى أن "انعدام الثقة وعدم انتظام سير العمل بالدولة وغياب الاجتماعات المشتركة أضر بعملية الانتقال".
واعتبر إسماعيل أن الخيارات المتاحة لحل الأزمة تتمثل في "معالجة جذور الأزمة من خلال حسم مسألة انتقال السلطة من العسكريين إلى المدنيين، وتوسيع المشاركة داخل قوى الحرية والتغيير، فضلاً عن تشكيل حكومة مصغرة لإدارة الأزمة، وتنفيذ اتفاق السلام وتشكيل المجلس التشريعي".