
تبدو محطة فوكوشيما دايتشي اليابانية للطاقة النووية، بعد 11 عاماً من تدميرها، نتيجة انهيار بسبب زلزال تلته أمواج "تسونامي"، كموقع بناء مترامي الأطراف، حيث أُزيل معظم الحطام المشع الذي تسبّبت به انفجارات للهيدروجين.
خلال زيارة أجراها أخيراً، صحافيون من وكالة "أسوشيتد برس"، لمعاينة عملية تنظيف واحدة من أسوأ الانهيارات النووية في العالم، ارتدى رجال يضعون خوذات، ملابس عمل عادية وأقنعة طبية، بدلاً من معاطف وأقنعة واقية للوجه كانت مطلوبة سابقاً، فيما كانوا يحفرون قرب جدار بحري عُزّز أخيراً.
وكان العمال يُعدّون لتشييد حوض بحجم بركة سباحة أولمبية، لاستخدامها في خطة مثيرة للجدل يبدأ تنفيذها في ربيع عام 2023، للتخلّص تدريجاً من مياه مشعة مُعالَجة، تتجاوز الفترة الحالية 1.3 مليون طن موضوعة في 1000 خزان.
ورغم هذا التقدّم، تبقى كميات هائلة من الوقود المنصهر المشع داخل المفاعلات. وثمة قلق بشأن الوقود، نتيجة جهل موضعه، حتى بالنسبة إلى المسؤولين عن عملية التنظيف.
3 مفاعلات متضررة
ولا يزال هناك نحو 900 طنّ من الوقود النووي الذائب داخل المفاعلات الثلاثة المتضررة، يشكّل إزالتها تحدياً يُعتبر سابقة، إذ يشمل 10 أضعاف كمية الوقود التالف الذي أُزيل خلال عملية محطة "ثري مايل آيلاند" النووية في الولايات المتحدة، بعد ذوبانها الجزئي في عام 1979.
وأعدّت الحكومة اليابانية خريطة طريق لوقف تشغيل محطة فوكوشيما، تستهدف استكمالها في غضون 29 سنة. لكن التحدي المتمثل في إزالة الوقود المذاب من المفاعلات، شاق لدرجة أن خبراء يرون استحالة تحديد موعد لإنجاز ذلك، لا سيّما أن المسؤولين لا يزالون يجهلون مكان تخزين النفايات، بحسب "أسوشيتد برس".
وأشار رئيس "هيئة التنظيم النووي" تويوشي فوكيتا، إلى أن هناك حاجةٍ لمزيد من الوقت، لتحديد مكان وكيفية تخزين النفايات عالية الإشعاع التي تُزال من المفاعلات.
وليست لدى اليابان خطط تخزين نهائية، حتى بالنسبة إلى النفايات عالية النشاط الإشعاعي التي تخرج من المفاعلات العادية. وقرّرت السلطات وقف تشغيل 24 من 60 مفاعلاً في البلاد، غالباً نتيجة الكلفة العالية للالتزام بمعايير السلامة التي حُدّدت بعد كارثة "فوكوشيما".
إجلاء 160 ألف شخص
في 11 مارس 2011، أدى زلزال بقوة 9 درجات على مقياس ريختر، إلى حدوث تسونامي ارتفاعه 17 متراً، ضرب المحطة ودمّر إمدادات الطاقة وأنظمة التبريد، مسبّباً بذوبان المفاعلات الأول والثاني والثالث وقذف كميات هائلة من الإشعاع. فيما كانت 3 مفاعلات أخرى خارج الخدمة، ونجت من الكارثة، رغم تعرّض المبنى الرابع لانفجارات الهيدروجين.
وتسبّب انتشار الإشعاع بإجلاء حوالى 160 ألفاً من السكان، كما أن أجزاء من الحيّ المحيط بالمحطة، لا تزال غير صالحة للسكن.
وسقطت النوى المنصهرة في المفاعلات الثلاث الأولى، إلى حد كبير في قاع أوعية الاحتواء، مع قضبان تحكّم ومعدات أخرى، كما يُحتمل أن يخترق بعضها أو يختلط مع الأساس الخرساني، ممّا يجعل عملية التنظيف صعبة جداً.
ويجب أن تعتمد مجسّات الوقود المنصهر على روبوتات يتم التحكّم بها من بُعد، وتحمل معدات مثل كاميرات وجهاز قياس الإشعاع، لأن مستوياته في تلك المناطق لا تزال مميتة بالنسبة إلى البشر.
تنظيف يستمرّ عقوداً
في فبراير الماضي، دخل روبوت إلى وعاء الاحتواء للمفاعل الأول، في أول تحقيق داخلي منذ محاولة فاشلة جرت في عام 2017. والتقط الروبوت صوراً محدودة لما يُعتقد بأنه أكوام من الوقود المذاب تتصاعد من الأرضية الخرسانية. وتخطّط "شركة طوكيو للطاقة الكهربائية" (تيبكو) لإرسال ذراع آلية قابلة للتمديد هذا العام، لجمع عيّنات من الوقود المنصهر في المفاعل الثاني.
وقال رئيس قسم وقف التشغيل في الشركة أكيرا أونو، إن إدخال المجسّات الروبوتية في المفاعلين الأول والثاني هذا العام، يشكّل خطوة كبرى "إلى الأمام" في عملية تنظيف تستمرّ عقوداً. وأضاف: "كأننا وصلنا أخيراً إلى خط البداية. لم نكن ندرك سابقاً حتى الاتجاه الذي كان يُفترض أن نسلكه".
وأشار أونو إلى أن اختبار إزالة الوقود المنصهر في المفاعل الثاني سيبدأ، من حبيبة (الوقود) أو اثنتين، وستُخضَع لتحليل معملي، ممّا يعني أن منشأة التخزين لن تكون ضرورية حتى سحب كميات أكبر.
وأضاف أن كمية ضئيلة ستؤمّن بيانات قيّمة للبحث والتطوير، في مجال تكنولوجيا إزالة الوقود والحطام للمفاعلات الثلاثة.
تسرّب مياه ملوّثة
يقترح هيديوكي بأن، المؤسّس المشارك لـ"مركز المعلومات النووية للمواطنين"، وكان سابقاً عضواً في لجان حكومية للسلامة النووية، دفن المياه المعالجة المتجمّدة تحت الأرض من أجل تخزين مستقرّ بعيد المدى، مع دفن المفاعلات الثلاثة لعقود، مثل تشيرنوبيل في أوكرانيا، وانتظار تقلّص النشاط الإشعاعي من أجل تحسين السلامة ودخول العمال، بدلاً من الإسراع بعملية التنظيف.
ومنذ حدوث الكارثة، كانت مياه التبريد الملوّثة تتسرّب باستمرار من أوعية الاحتواء الأولية المتضرّرة إلى أقبية مبنى المفاعل، حيث تختلط بالمياه الجوفية ومياه الأمطار التي تتسرّب منها.
ويتمّ ضخ المياه ومعالجتها، وإعادة تدويرها جزئياً بوصفها مياه تبريد، فيما يُخزّن الباقي في 1000 خزان ضخم بالمحطة. وذكرت "تيبكو" أن الخزانات ستمتلئ بـ1.37 مليون طنّ، بحلول الربيع المقبل.
صيادون يعارضون
وأعلنت الحكومة اليابانية خططاً لإطلاق المياه بعد معالجتها وتخفيفها إلى ما دون المستويات المطلوبة قانوناً، من خلال نفق تحت البحر تسعى لتشييده في موقع يبعد نحو كيلومتر عن الشاطئ. لكن الخطة واجهت معارضة عنيفة من السكان المحليين، لا سيّما الصيادين القلقين من مزيد من الضرر لسمعة المنطقة.
وأشارت "تيبكو" ومسؤولون حكوميون، إلى أن التريتيوم، وهو مادة غير ضارّة إذا كانت بكميات ضئيلة، لا ينفصل عن الماء، ولكن يمكن تقليل كل النظائر المشعة الـ63 الأخرى المختارة للمعالجة، إلى مستويات آمنة، واختبارها وتخفيفها بمياه البحر قبل إطلاقها.
لكن علماء يلفتون إلى أن التأثير الصحي لاستهلاك التريتيوم عبر السلسلة الغذائية، قد يكون أكبر من شربه في الماء، معتبرين أن ثمة حاجة لمزيد من الدراسات في هذا الصدد.
"محو صورة سلبية"
في أحد مرافق معالجة المياه حيث تكون مستويات الإشعاع أعلى بكثير، تعامل عمال يرتدون معدات واقية كاملة مع حاوية مليئة بطين يحتوي نشاطاً إشعاعياً شديداً.
وتمّت تصفية المرفق من المياه الملوّثة التي كانت تتسرّب باستمرار من المفاعلات المتضرّرة، وضُخّت من المستودعات منذ حصول الكارثة. تتراكم في المحطة أيضاً، كميات ضخمة من الطين والنفايات المشعة الصلبة.
انخفضت مستويات الإشعاع بشكل كبير بعد إزالة التلوّث منذ حصول الكارثة، ومعدات الحماية الكاملة ليست لازمة سوى في مناطق محدودة، بما في ذلك داخل مباني المفاعل وحولها.
وكانت هناك حاجة إلى حماية إضافية، بما في ذلك معاطف واقية من المواد الخطرة وقفازات مطاطية مزدوجة، عندما دخل الصحافيون إلى حاوية الاحتواء الأولية للمفاعل الخامس، حيث شرح مسؤولون مفهوم استخدام المجسّات الآلية في المفاعلين الأول والثاني.
وأفرغت "تيبكو" الوقود المستهلك من برك المفاعلين الثالث والرابع، لكن إزالة ذلك في المفاعلين الأول والثاني تأخرت سنوات نتيجة إشعاع عالٍ وحطام ملوّث، ممّا يثير مخاوف من انهيار الوقود المستهلك إذا تسبّب زلزال ضخم آخر بفقدان المياه وارتفاع درجة الحرارة.
وشدد رئيس بلدية فوتابا، شيرو إيزاوا، على وجوب وقف تشغيل محطة فوكوشيما بشكل آمن وكامل، لـ"جعل مسقط رأسنا مكاناً آمناً وصالحاً للعيش مرة أخرى". وطالب الحكومة بـ"محو الصورة السلبية" الشائعة عن المنطقة، من خلال معالجة التنظيف الآمن، وهذا شرط أساسي لإعادة إعمار المدينة.
اقرأ أيضاً: