الأمن والاقتصاد والعلاقات الدولية.. مستقبل السياسات الصينية

time reading iconدقائق القراءة - 16

هذا المقال جزء من سلسلة "2023.. عام الأسئلة الصعبة".  

بقلم البروفيسور وانغ غوانغدا

  • أستاذ بجامعة شنغهاي للدراسات الدولية، ومدير مركز الدراسات الصيني العربي للإصلاح والتنمية.
  • شارك في أبحاث حول الإصلاح والتنمية في الصين ودول عربية ودراسات بشأن العلاقات الدولية. درس في جامعة الكويت 1998-1999 وجامعة دمشق 2001-2002، وعمل في جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء في 2012-2015.

يرتقب أن تركز الصين على تحقيق هدف المئوية الثانية بأن تبني بلداً اشتراكياً حديثاً وعظيماً في كل المجالات، وتهتم بإحياء الأمة الصينية على كل الجبهات من خلال مسار تحديثي. ومن أجل هذا تم تبني خطة من مستويين:  

  • تحقيق التحديث الاشتراكي بين 2020 و2035.
  • بناء الصين كبلد اشتراكي حداثي عظيم يتمتع بالرخاء، والقوة، والديمقراطية، والتقدم الثقافي، والانسجام والجمال بين 2035 وأواسط القرن الحالي.  

السياسات المحلية

سيكون من أهم أولويات الصين الأخذ بالتطوير ذي المستوى العالي، والاستمرار في الإصلاح لتطوير اقتصاد سوق اشتراكي، ودعم الانفتاح ذي المستوى المتقدم، والإسراع في جهود تبني نمط جديد من التطوير يرتكز على الاقتصاد المحلي، ويُرسي تبادلاً إيجابياً بين آليات الاقتصاد المحلي والعالمي.  

وبانتهاج التطوير العالي المستوى كمهمة شاملة، تركز الصين على أن تنفيذ استراتيجية توسيع الطلب المحلي يجب أن يترافق ويتناغم مع جهود إصلاح هيكل سلاسل الإمداد، مما يزيد مناعة ومرونة الاقتصاد المحلي، وفي الوقت نفسه تستمر الصين في التفاعل على مستوى عالٍ مع الاقتصاد العالمي.

 

في المستقبل ستوسع الصين الانفتاح المدروس بطريقتين: بالاستمرار في تقليل العناصر السلبية الناشئة عن فتح الأسواق، وبتطبيق مبدأ حياد التنافس، وإجراءات أخرى. وستواصل توسيع بيئة العمل والانسجام مع القواعد الدولية المتقدمة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ففي مجال التعاون التجاري والاقتصادي ستعمل الصين على ترويج أساليب الإدارة الصينية، ومستويات الجودة الصينية التي أثبتت فعاليتها من خلال التجربة.  

لقد وقعت الصين 19 اتفاقية تجارة حرة مع 26 دولة وإقليم. وتقوم بتعزيز دورها داخل "الاتفاق الشامل والتقدمي للشراكة العابرة للمحيط الهادئ" (CPTPP)، وضمن "اتفاقية شراكة الاقتصاد الرقمي" (DEPA). ويتوقع أن توقع الصين اتفاقيات تجارة حرة مع المزيد من الشركاء التجاريين في المستقبل، وأن توسع نطاق إلغاء التعرفة الجمركية، مما سيجعل اتفاقيات التجارة الحرة أكثر نفعاً لتجارة الصين مع الخارج.    

ستشجع الصين تدويل عملتها بشكل منظم، والانخراط بعمق في تكامل العمل الصناعي الدولي والتعاون، وسوف تسعى إلى الحفاظ على التنوع واستقرار الاقتصاد الدولي، وإلى تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية، وهذا يعني أن الصين مستقبلاً ستولي مزيداً من الاهتمام لترسيخ نفسها في سلاسل الإنتاج والإمداد الصناعية العالمية والحرص على عدم "فك الارتباط" معها، هذا مع زيادة التعاون الاقتصادي والتجاري مع الدول المتطورة. وستولي الصين اهتماماً أكبر للتجارة والتبادل الاستثماري مع الدول النامية.

علاوة على ذلك تَعتبر الصين العلم والتكنولوجيا قوة أساسية في العملية الإنتاجية، وتنظر إلى الطاقات الخلاقة بوصفها مورداً اقتصادياً أساسياً، وتعتبر الابتكار محفزاً رئيسياً للنمو. وستطبق بالكامل إستراتيجية نهوض الصين عبر العلم والتعليم، ومن خلال إستراتيجية تطوير قوة العمل، واستراتيجية التطوير المستند إلى الابتكار.  

العلاقة مع الولايات المتحدة  

خلال اجتماعهما في بالي بإندونيسيا نوفمبر الماضي، أعرب الرئيسان الصيني شي جين بينج، والأميركي جو بايدن، عن استعدادهما لإدارة الخلاف بينهما، ومواصلة الحوار، والأمل في عودة العلاقات الصينية الأميركية إلى الطريق الصحيح.

وقد أطلق هذا الاجتماع إشارات إيجابية في وقت تشهد فيه العلاقات بين البلدين تحديات غير مسبوقة.  

ورغم ذلك، فإنَّ عودة العلاقات إلى الطريق الصحيح مرهونة بأن يقوم الجانب الأميركي بما تعهد به من العودة إلى سياسة براجماتية (عملية) تجاه الصين في أقرب وقت ممكن. وقد كان الرئيس شي جين بينج واضحاً في الاجتماع عندما قال إنَّ "العلاقات الصينية الأميركية لا يجوز أن تكون معادلة صفرية يزدهر بمقتضاها طرف على حساب الطرف الآخر".  

وقد تحدَّث الطرفان بصراحة عن الخلافات والتحديات على أمل "كبح التنافس" في العلاقات الصينية الأميركية، وهو الأمر الضروري لتجنب الصدام في المستقبل.  

بايدن قال أيضاً، صراحة إن الولايات المتحدة والصين سوف تواصلان التنافس بقوة، مردداً أنَّ هذا التنافس لا يجوز أن يتحول إلى صدام. ومن الواضح أن التنافس بين الطرفين سيجد طريقه نحو التطبيع في المستقبل. لكن المشكلات العميقة والهيكلية بين الصين والولايات المتحدة لن تحل في المدى القصير أو في أعقاب زيارة واجتماع.  

وعلينا الإشارة إلى أنه في اجتماع بالي، كررت الولايات المتحدة موقفها من سياسة (الصين الواحدة). الولايات المتحدة تتفهم أنه لحظة أن تتوقف عن دعم سياسة الصين الواحدة، فإن هذا سيقود إلى التوتر في العلاقات.

الاجتماع بين بايدن، وشي عُقِد بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان، والتي أدَّت إلى توتر في العلاقات الصينية الأميركية، ما يُعطي تجديد بايدن موقفه من سياسة "الصين واحدة" أهمية كبيرة، ومن شأن ذلك أنْ يشجع مزيداً من الحوارات الثنائية بين بكين وواشنطن. 

إنَّ التحكم في الخلافات الصينية الأميركية عملية لا بد أن تتم وفق عملية تدريجية، وكل خطوة صغيرة هي تمهيد لكل خطوة كبيرة. ولهذا فإنَّ اجتماع بالي، أزال بعض العقبات، وحدَّ من المزيد من التدهور في العلاقات الصينية الأميركية.  

والصين بطبيعة الحال لا تريد للعلاقات مع الولايات المتحدة أن تتدهور، والولايات المتحدة مستعدة للالتقاء والحوار، وهي أيضاً مستعدة للسعي نحو إيجاد قاسم مشترك للعلاقات الثنائية. وهذا يعني أنَّ البلدين قد توصَّلا في الحقيقة إلى تفاهم ضمني، وبلغا الحد الأدنى من التفاهم المقبول للطرفين، والمتمثل في أنَّه مهما بلغت حدة المنافسة الموجودة، وحتى برغم الاختلافات، يجب ألا تؤول الأمور إلى درجة نزاع.. وما زلنا بحاجة إلى التوصُّل إلى نتيجة عملية تخدم العلاقات الثنائية على المدى البعيد عقب الاجتماع بين الرئيسين. 

إذا استمرَّت اللعبة الإستراتيجية بين الصين والولايات المتحدة، فأميركا لن تتخلى عن ورقة تايوان كوسيلة لاحتواء الصين، ولن ترفع الحظر العلمي والتكنولوجي الذي تقيمه في وجه الصين. وما دامت تايوان لا تسير نحو الاستقلال ولا تعلنه بأي شكل، سيكون هناك سلام وتهدئة بين الجانبين في مضيق تايوان.  

 

التحشيد العسكري

تقوم الصين برفع كفاءة قواتها لتصل إلى المستويات الأعلى عالمياً، وذلك لتأمين السيادة الصينية، والحفاظ على وحدة الأرض  الصينية، ولتوفير الدعم الإستراتيجي اللازم لبث الحيوية في الأمة الصينية؛ وللمساهمة بشكل أكبر في السلام العالمي والتنمية. ويستند تطوير الصين للسفن العابرة للمحيطات، ومن ضمنها حاملات الطائرات، إلى حاجة الصين لتأمين حقوقها الملاحية ومصالحها في مناطق الجوار وتأمين خطوط النقل البحري للقرن الحادي والعشرين. ولا نية للصين، ولا حاجة أيضاً، للانغماس في سباق تسلح في البحر مع أي دولة أخرى.

لقد دخلت حاملات الطائرات الأميركية المياه المتاخمة لبحر الصين الجنوبي، مما سبب قلقاً كبيراً في أوساط المجتمع الدولي. وفي الواقع فإنَّ الولايات المتحدة بلغت الآن مرحلة من فائض القوة العسكرية، وهي تحاول في مناطق شتى في العالم استخدام هذا الفائض في قوتها العسكرية.

وبوصفها دولة نامية ذات موارد محدودة، يجب على الصين ألا تقع في شراك الدخول في سباق تسلح في منطقة بحر الصين الجنوبي، فلعبة القط والفأر هذه سوف تستنزف قسطاً كبيراً من موارد الصين العسكرية. لذا فإنَّ الصين لن تبدأ سباق تسلح مع الولايات المتحدة في بحر الصين الجنوبي، وهي لا تستطيع ذلك.  

وبشأن القواعد العسكرية، فإن أول قاعدة للصين في الخارج كانت في جيبوتي، وهي دولة عربية لها علاقات صداقة تقليدية مع الصين. وتوخياً للدقة، فإنَّ القاعدة العسكرية في جيبوتي ينبغي أن تسمى "موقع دعم خارجي"، فمهمتها الأساسية تزويد الصين بعمليات المرافَقة (لسفنها) في خليج عدن والمياه الإقليمية للصومال، بالإضافة إلى الدعم اللوجيستي لقوات حفظ السلام الدولية في إفريقيا. أما فيما يتعلق بما إذا كانت الصين ستنشئ مزيداً من القواعد العسكرية الخارجية في المستقبل فهذا يعتمد أولاً على وجود حاجة متعلقة بتنفيذ المهام التي تعهد بها الأمم المتحدة للصين، وثانياً على توفر الإمكانية لإنشاء قاعدة عسكرية في بلد معين وذلك بعد موافقة هذا البلد.  

وبشكل موضوعي، فإنَّ الصين لن تنشئ قواعد عسكرية على النمط الغربي، بيد أنها لا تستبعد إنشاء عدد من مواقع الدعم الإستراتيجي بما يتوافق مع الأصول المعمول بها دولياً. ومع تنامي قوة الصين تأمل المزيد من الدول في أن تأخذ الصين على عاتقها واجبات دولية من قبيل تقديم مساعدات الإغاثة ومكافحة القرصنة. وعلى ذلك فمن المعقول أن تقيم الصين في بلد ما موقعاً إستراتيجياً لتزويد السفن والطائرات، على أساس من التكافؤ والمنفعة المشتركة والتفاوض الودي مع هذا البلد. 

العلاقات مع روسيا

يقوم سلاحا الجو الصيني والروسي بدوريات إستراتيجية مشتركة سنوياً، ولكن الجانبين يلتزمان تماماً بما تنص عليه القوانين الدولية، ولا يخترقان المجال الجوي لأي دولة أخرى. والغرض من هذه الدوريات تعزيز الإستراتيجية التشاركية والتنسيق بين البلدين، ورفع مستوى التعاون الإستراتيجي والقدرات. وهذا يقع ضمن خطة تعاون سنوية بين الجانبين وليس مقصوداً منه أن يكون موجهاً ضد أي دولة أخرى.  

وتلتزم الصين في سياق العلاقات مع روسيا مبدأ عدم الانحياز، وعدم المواجهة، وعدم استهداف أي طرف ثالث، في علاقاتها مع روسيا. وبذلك تهدف إلى إضعاف النظريات التي يرددها الغرب بشأن ما يسمى "المحور الصيني الروسي".

ورغم ذلك، تقف الصين وروسيا موقفاً واضحاً ضد التوسع المستمر للناتو، وهما تدعوان الحلف إلى التخلي عن أيديولوجية الحرب الباردة.

يقول زعيما الصين وروسيا إنه لا يوجد سقف للتعاون بين البلدين، ما يعني أن البلدين يتعاونان دون حدود في سبيل السلام، والحفاظ على الأمن، ومعارضة الهيمنة. ولم يغير النزاع الروسي الأوكراني من طبيعة الشراكة الإستراتيجية بين الصين وروسيا. وفي الوقت نفسه، وقفت الصين دوماً إلى جانب السلام، وعارضت فرض العقوبات من جانب واحد. وهذا أمر مهم جداً لفهم العمل المشترك الحالي والمستقبلي بين الصين وروسيا.

ورغم أنَّ للصين وروسيا نمطين متمايزين من السلطة واستخدام النفوذ في حل المشكلات الإقليمية والدولية، فعليهما تنسيق المواقف والتعاون الوثيق. ولهذا فإنَّ عدم الانحياز لا يعني غياب التعاون الوثيق إزاء المسائل المختلفة. فعلى خلفية عدم الانحياز تبحث الصين وروسيا بعمق تنسيق مواقفهما في التعامل مع النزاع بين روسيا وأوكرانيا والوضع الدولي، وتوسيع نطاق التعاون بين البلدين في شتى المجالات، والبحث عن حلول مقبولة في البلدان المجاورة كاليابان، وتوفير الرادع المناسب والرد اللائق على البلدان التي تحاول فرض عقوبات من طرف واحد.

بالنسبة إلى الصين، فإنَّ السعي للسلام، ومعارضة العقوبات، وتقوية التعاون لا تتم عبر التحالف، بل عبر طرق براجماتية لحماية المصالح الوطنية، والحفاظ على الحياد والوفاء بالمسؤوليات التي يجب أن تضطلع بها الدول الكبرى.

لقد حافظت الصين وروسيا على مستوى عالٍ من العلاقات المتبادلة وعمقتا شراكتهما الإستراتيجية والتنسيقية.  

واقتصادا البلدين متكاملان إلى حد بعيد، لذا فالطرفان يقومان بانتظام بتعزيز المشاريع المشتركة في مجالات أساسية، ويعززان مستوى التعاون الاقتصادي والتجاري، وينظمان عمل الموانئ، ويحافظان على الاستقرار والمرونة في سلسلة الإمداد الصناعي. وتلتزم الصين بالسعي إلى مستقبل مشترك للمجتمع الإنساني، وسوف تستمر في تطوير مبادرة الحزام والطريق مع الحفاظ على مستوى الأداء العالي.   

لقراءة المزيد من المقالات ضمن هذه السلسلة:

تصنيفات