شهدت مواقع التواصل الاجتماعي في مصر جدلاً واسعاً إثر انتشار صور وفيديوهات لعمليات هدم مبانٍ ومقابر يعتقد أنها أثرية، في المنطقة المعروفة باسم "جبانة المماليك" شرقي القاهرة، التي يعود تاريخها لأكثر من 5 قرون، وتضم رفات شخصيات بارزة في تاريخ البلاد، وذلك بعد انطلاق أشغال مشروع "محور الفردوس" المروري.
وأثارت أشغال الهدم استياء وغضباً واسعاً وسط عائلات المدفونين بتلك المقابر، والمهتمين بالتاريخ والتراث المصري، في الوقت الذى أكدت فيه وزارة السياحة والآثار أن "المحور" بعيد عن الآثار المسجلة في جبّانة المماليك.
وأعلنت محافظة القاهرة عن بدء تنفيذ محور مروري جديد أطلقت علية "محور الفردوس". وقالت إنه سيمتد من ميدان الفردوس بشارع صلاح سالم، إلى محور المشير طنطاوي، على امتداد 17 كيلمتراً ونصف.
كان قبر الكاتب الصحافي الكبير الراحل محمد التابعي (1869 - 1976) صاحب لقب أمير الصحافة، ومؤسس مجلة "آخر ساعة"، ضمن ضحايا حملة الهدم، ما أثار غضباً كبيراً وسط عائلته، عبّرت عنه ابنته شريفة، التي كتبت في تدوينة على فيسوك: "في ذهول و صدمة شديدة، لم أتصور ولو للحظة وأنا أقرأ عن هدم مقابر أثرية، أن أفاجأ بخبر هدم المقبرة التي تضم رفات والدي".
وزارة الآثار: مقابر خاصة
سارعت وزارة الآثار والسياحة المصرية إلى نفي المساس بالمنطقة الأثرية في جبانة المماليك، وأصدرت بياناً أكد أن "هذا الادعاء عار تماماً عن الصحة، وأن محور الفردوس بعيد عن الآثار الإسلامية المسجلة بقرافة (مقابر) المماليك".
ونقل البيان عن رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية، أسامة طلعت، القول إنه "لم يتم هدم أي أثر، وإن المقابر الواردة في الصور المتداولة هي مبانٍ غير مسجلة كآثار إسلامية أو قبطية"، مشيراً إلى أنها "مقابر حديثة خاصة بأفراد".
وأوضح طلعت أنه على الرغم من كونها مقابر غير مسجلة كآثار، فإن الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، "وجّه بتشكيل لجنة علمية فنية لمعاينة الشواهد والأحجار التي تشتمل على نقوش زخرفية أو كتابية، ليتم دراستها وبحث إمكانية عرض جزء منها في بعض المتاحف، كجزء من تراث مصر المتميز".
تهديدٌ للآثار
ورفض قطاع من الخبراء تبرير وزارة الآثار، مؤكدين القيمة التراثية والثقافية للمنطقة، إذ تضم رفات عدد من القامات الثقافية والفكرية والتاريخية لمصر، أبرزها مقبرة أم كلثوم والفنان فؤاد المهندس، وعدد من مقابر الأسرة العلوية.
ويقول الباحث في الآثار الإسلامية، يوسف أسامة، لـ"الشرق"، إن المنطقة التي تتعرض للهدم تنتمي للعصر الحديث، "لكن عمرها يصل إلى 90 عاماً، تحتاج إلى 10 أعوام فقط كي يتم تسجيلها كآثار، لما تضمه من مقابر لشخصيات مهمة في تاريخ مصر، منها حسن باشا صبري رئيس وزراء مصر الأسبق، وأحمد لطفي السيد المفكر والفيلسوف".
وأشار الباحث في الآثار، إلى أن عملية الهدم "لا تمس بالفعل جبانات المماليك التي تعود إلى عام 735 للهجرة، لكن مرور المحور يهدد بشكل واضح بعض الآثار التي سيمر بجوارها، كقبة السلطان أبو سعيد قانصوه، التي يفوق عمرها 541 عاماً".
بين التراث والآثار..
وقال الرئيس الأسبق لجهاز التنسيق الحضاري، سمير غريب، وقد شارك في إعداد قوائم الأبنية ذات الطراز المعماري المتميز والخاضعة لحماية الجهاز في تصريح لـ"الشرق"، إن المنطقة تضم نوعين من المقابر، "أولاها المقابر الأثرية التي تخضع بلا نقاش لحماية قانون الآثار، أما الثانية فهي مقابر تراثية تم تصويرها وحصرها، وينطبق عليها القانون 144 لـ2006".
وينص القانون، على أنه "يحظر الترخيص بالهدم أو الإضافة للمبانى و المنشآت ذات الطراز المعماري المتميز، المرتبطة بالتاريخ القومي أو بشخصية تاريخية أو تعتبر مزاراً سياحياً".
وأوضح غريب أنه وفقاً للحصر المفصل لدى جهاز التنسيق الحضاري "الذي يجب العودة إليه للفصل في هذه القضية، فإن المنطقة تضم عدة قطاعات من الأبنية ذات القيمة المعمارية، جزء منها يضم بنايات ذات عمر أكبر من 100 عام وتعتبر من الآثار".
أما الجزء الثاني فيضم بحسب المسؤول السابق في جهاز التنسيق الحضاري، مناطق لم يمر على إنشائها 100 عام، ولكنها "ذات طراز معماري متميز أو قيمة ثقافية مرتبطة بشخصيات أو أحداث مهمة، وتقع تحت طائلة قانون التنسيق الحضاري، الذي يحظر أيضاً هدمها أو تغيير النسق العمراني لها".
تراثٌ عالمي
بدورها أوضحت أستاذة العمارة والتصميم العمراني بكلية الهندسة في جامعة القاهرة، سهير زكي حواس، أن هناك فرقاً بين المنطقة الأثرية والمناطق التراثية التي تحوي مباني ذات طابع معماري مميز، وهو ما ينطبق على المنطقة التي يتم فيها هدم مقابر ذات طابع معماري مميز منذ عشرات السنين.
وتشير الرئيسة السابقة لإدارة الدراسات والبحوث في الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، وقد أشرفت على حصر الأبنية التراثية بمنطقة القاهرة الخديوية والقاهرة التاريخية، في تصريح لـ"الشرق"، إلى أن هذة المنطقة تدخل في نطاق "القاهرة التاريخية"، التي تم إدراجها سنة 1979 في قوائم التراث العالمي من طرف منظمة اليونسكو.
وأضافت حواس: "كان لا بد من إيجاد حلول بديلة عما يحدث في منطقة الجبانات، كي لا تخسر مصر جزءًا مهماً من تراثها المعماري المتميز".
صحراء المماليك
وتقع منطقة "صحراء المماليك" شرقي القاهرة، وتشمل المنطقة الممتدة من قلعة الجبل إلى العباسية، حيث بدأ مماليك مصر وأمراؤها بإنشاء المساجد والمدافن في النصف الأول من القرن الثامن الهجري.
ويتراوح عمر المنطقة بين 600 و700 عام، وهي منطقة نادرة، نظراً لاحتوائها على كم هائل من الآثار الإسلامية المتنوعة.
وتضم صحراء المماليك حالياً مجموعة من المساجد الأثرية النادرة تتجاوز الـ30، معظمها من الطراز الضخم، أشهرها "مسجد السلطان قايتباي، والمسجد الكبير، ومسجد قرقماس، وقبة الإمام الشافعي".