
بعد مطالبات امتدت نحو 11 عاماً، أوشك الرئيس المعزول عمر البشير و51 من مساعديه على المثول رسمياً أمام المحكمة الجنائية الدولية، لا سيما بعد قدوم المدعية العامة للمحكمة، فاتو بنسودا، إلى العاصمة السودانية الخرطوم، على رأس وفد في زيارة بدأت مساء السبت وتمتد نحو 3 أيام. تناولت خلالها في اجتماعات مع كبار المسؤولين سبل التعاون بين المحكمة الجنائية الدولية والسودان بشأن المتهمين الذين أصدرت المحكمة أوامر اعتقال بحقهم.
وخاضت بنسودا 3 جولات منفصلة مع رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق أول محمد حمدان دقلو الشهير بـ"حميدتي"، ورئيس مجلس الوزراء عبدالله حمدوك، وعضو مجلس السيادة، محمد حسن التعايشي، وحصلت خلالها على تأكيدات باستعداد حكومة الفترة الانتقالية للتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية بشأن القضية التي تنظر فيها الآن، في إشارة إلى طلب توقيف البشير، وأيضاً التعاون بخصوص أوامر التوقيف الأخرى التي أصدرتها المحكمة فيما يتعلق بضرورة تحقيق العدالة لضحايا إقليم دارفور.
الرئيس السوداني السابق المسجون في الخرطوم، والذي تمت الإطاحة به في أعقاب احتجاجات شعبية حاشدة العام الماضي، مطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية بسبب اتهامات بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور غرب السودان.
ويمثل مع عدد من أفراد نظامه في محاكم داخل السودان في قضية انقلاب عام 1989، وجرائم تتعلق بالفساد وخيانة الأمانة.
وفي عامي 2009 و2010، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية، ومقرها لاهاي، مذكرتي اعتقال بحق البشير واتهمته بأنه العقل المدبر لفظائع ارتكبت لسحق تمرد في منطقة دارفور بين عامي 2003 و2008.
مباحثات محاكمة البشير
وأكد نائب رئيس المجلس السيادي "دقلو"، خلال استقبال بنسودا في القصر الجمهوري، استقلالية القضاء السوداني، مشدداً على أن الحكومة لا تتدخل مطلقاً في أعماله. فيما قال "حمدوك" إن حكومته ملتزمة بتحقيق العدالة كأحد شعارات ثورة ديسمبر المجيدة، مشيراً إلى أن "التزام السودان بتحقيق العدالة ليس من الالتزامات الدولية فحسب، وإنما يأتي استجابة للمطالبات الشعبية بإقامة العدالة وتنفيذ شعارات الثورة المجيدة التي طالبت من بين أشياء أخرى بالعدالة".
وأوضح رئيس الوزراء السوداني أن زيارة وفد المحكمة الجنائية تعتبر شهادة على التغيير الذي تُحدثه عمليات الإصلاح الشامل في السودان الجديد.
زيارة تاريخية
من جانبها، أعربت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية عن سعادتها بزيارة السودان ووصفتها بـ"التاريخية"، مؤكدة أنها تهدف للتباحث مع السلطات السودانية حول قضايا المحكمة الجنائية الدولية المتعلقة بدارفور.
وأضافت بنسودا في تصريحات صحافية أن اللقاء مع "التعايشي" بحث سبل تعاون السلطات السودانية بشأن قضية المتهم علي عبد الرحمن «كوشيب»، للحصول على المزيد من المعلومات والأدلة فى أقرب وقت، وكيفية تنسيق التكامل بين عمل المحكمة ودور الجهاز القضائي السوداني حول دارفور.
محكمة خاصة
مصادر في وزارة العدل السودانية، قالت في تصريحات خاصة لـ"الشرق"، إن بنسودا ناقشت إمكانية تشكيل "محكمة هجين" مختلطة، من قضاة سودانيين وآخرين دوليين لمحاكمة مجرمي الحرب في دارفور وعلى رأسهم البشير، إلى جانب إمكانية انضمام وفد من المحكمة الجنائية إلى القضاءالسوداني لمحاكمتهم داخلياً.
وأوضحت المصادر ذاتها أن المحكمة الدولية لا تمانع تشكيل "محكمة خاصة" لمحاكمة المتورطين.
"كوشيب" يسبق رئيسه
تضم قائمة المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، والذين صدر بحقهم مذكرات توقيف بتهم جرائم ضد الإنسانية في دارفور، إلى جانب البشير، 51 متهماً أبرزهم مساعده السابق أحمد هارون، ووزير الدفاع عبد الرحيم محمد حسين، ومحمد علي عبد الرحمن المُلقب بـ"كوشيب"، وهو أحد قادة ميليشيات (الجنجويد) المتهمة بالقيام بعمليات تطهير عرقي في دارفور، والقيادي عبد الله بندة.
وسبق "كوشيب"رئيسه المعزول بالامتثال للمحاكمة، ففي منتصف يونيو الماضي شهدت "الجنائية الدولية" أولى جلسات محاكمة "كوشيب" بتهمة ارتكاب جرائم حرب خلال الصراع المسلح في دارفور، بعد أن سلّم نفسه إلى قوات الأمم المتحدة في جمهورية إفريقيا الوسطى، أوائل الشهر نفسه، وتم نقله إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، بعد صدور مذكرة توقيف بحقه في 27 أبريل 2007.
وقالت المحكمة إن "كوشيب" مثل أول مرة أمام القاضي لدى الدائرة التمهيدية الثانية، روزاريو سلفاتوري آيتالا، وأن الجلسة عُقدت في حضور المدعي العام والدفاع، ومثل كوشيب محامي الدفاع سيريل لاوتشي، وتثبت القاضي من هويته، وأبلغه بوضوح بالجرائم التي يدعى بمسؤوليته عنها وبحقوقه وفقاً لنظام روما الأساسي بلغة يفهمها تماماً، وتقرر عقد جلسة اعتماد التهم بصورة مبدئية في 7 ديسمبر القادم.
"الهارب من العدالة"
في مارس 2005، كلّف مجلس الأمن الدولي، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق في جرائم يُحتمل أن تكون ارتكبت في دارفور غرب السودان. وفي 2009 و2010، أصدرت المحكمة مذكرتي توقيف بحق الرئيس السوداني المعزول.
وصدرت مذكرة التوقيف على خلفية الحرب التي شهدها الإقليم بين الحكومة وحركات مسلحة من أقليات عرقية، وخلّف أكثر من 300 ألف قتيل و2.5 مليون لاجئ ونازح وفقاً لإحصاءات الأمم المتحدة.
وخلص التحقيق الذي أجرته المحكمة إلى أن البشير ومعه قادة كبار اعتمدوا خطة مشتركة لشن حملة لمكافحة التمرد الذي خاضته ضد الخرطوم جماعات مسلحة عديدة في دارفور.
الذراع اليمنى
يعد وزير الدفاع السابق، عبد الرحيم أحمد حسين، من أكثر المسؤولين المقربين للبشير، ويصفه كثيرون بأنه "ذراعه اليمنى"، وظل الرئيس المعزول متمسكاً به في أي تشكيل حكومي.
وفي مارس 2012، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق حسين، وكان يشغل منصب وزير الدفاع السوداني وقتها، وذلك بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور.
وقالت "الجنائية الدولية" إنها تملك أدلة تتعلق بارتكابه 20 جريمة ضد الإنسانية، تشمل القتل والاغتصاب في إقليم دارفور.
الرجل الحديدي
القيادي البازر في نظام البشير، هو أحمد هارون، أحد المقربين من الرئيس المعزول، والذي شغل منصب وزير دولة للشؤون الإنسانية، ووزير الداخلية، وكان حاكماً على ولايتي جنوب وشمال كردفان. ومع اندلاع الثورة الشعبية، أجرى البشير تعديلاً وزارياً عيّن بموجبه هارون مساعداً له في القصر الرئاسي وفوّضه سلطاته وصلاحياته في حزب المؤتمر الوطني الحاكم وقتها.
ويُتهم هارون بأنه الأكثر دموية في النظام البائد، كما تُوجه له تهم بامتلاك كتائب وميليشيات مسلحة سرية قامت بقتل المتظاهرين إبان الاحتجاجات الشعبية.
مطالب اتفاقية السلام
ويمثل تسليم المطلوبين إلى المحكمة الجنائية الدولية أحد أبرز مطالب النازحين واللاجئين في دارفور والحركات المسلحة، والتي وضعت هذا المطلب على رأس أجندتها التفاوضية خلال محادثات السلام مع الحكومة في عاصمة جنوب السودان جوبا.
ونصت الوثيقة الدستورية على مبدأ العدالة الانتقالية التي تقضي باستشارة الضحايا للتقرير بشأن المتهمين بارتكاب جرائم، إما بالتسوية أو القصاص.
وأبرمت الحكومة المدنية في السودان، والتي تتقاسم السلطة مع المجلس العسكري خلال فترة انتقالية تستمر 39 شهراً، اتفاق سلام مع متمردين سابقين في دارفور ومناطق أخرى بعدما حاربوا لسنوات حكومة البشير .