
ما يُميز إضراب سائقي الحافلات في بريطانيا، هو أنهم باتوا يواجهون في حراكهم كلاً من الحكومة، والاتحاد الذي يُمثلهم، والشركة التي يعملون فيها.
ويصف بعض هؤلاء الأمر بالحرب على 3 جبهات، لأن النقابة اتفقت مع الحكومة والمُشِغل على عرض لتحسين أجورهم، ولكن يبدو أنه لم يكن مقنعاً بالنسبة للكثيرين.
وشارك نحو 2000 سائق في الجولة الأخيرة من الإضراب التي استمرت 3 أيام متواصلة مع بداية فبراير الجاري. وكان حراكهم مفاجئاً لاتحاد النقل الذي ظن أنه أنجز اتفاقاً جيداً مع شركة "Abellio" المشغلة للحافلات.
ولكن الأمر جاء عكس ما توقع، وانقلب السائقون على الاتحاد حتى أن البعض اتهمه بـ"خيانة" مطالب الأعضاء.
وعلى الرغم من خصوصيته يبقى حراك سائقي الحافلات جزءاً من احتجاج موظفي قطاع النقل العام على تآكل قيمة رواتبهم مع ارتفاع كلفة الحياة، وارتفاع التضخم. وإضراب هذا القطاع يعتبر الأكثر تأثيراً على حياة سكان المملكة المتحدة واقتصادهم. كما أنه أحرج الحكومة وأربك حساباتها في أول 100 يوم من عمرها.
إضراب حافلات لندن
تشير الإحصائيات الرسمية إلى أن ما يزيد على 3 مليارات رحلة قامت بها حافلات النقل العام في إنجلترا بين منتصف 2021 و2022 الماضيين، بنسبة نمو تفوق 55% مقارنة بالعام الذي سبقه.
وأكثر من نصف هذه الرحلات كانت من نصيب العاصمة لندن التي نمت حركة المركبات الحمراء فيها بنسبة 36% وفق المقارنة ذاتها.
ووافقت الشركة المشغلة للحافلات في لندن، والمسماة "Abellio" بعد مفاوضات مع اتحاد النقل، على زيادة رواتب السائقين.
ولكن الزيادة ستطال فقط من يمضون عامين في العمل. وبالتالي سيبقى "المستجدون" مدة 24 شهراً برواتب أقل من نظرائهم دون مبرر مقبول من وجهة نظر أكثر من ألفي سائق قرروا مواصلة الإضراب.
اتحاد النقل كان قد وافق على العرض، فأثار غضباً شديداً من السائقين الجدد. وعندما ثار السائقون مرة ثانية، خرج السكرتير العام للاتحاد شارون جراهام، ليؤيد مطالبهم ويقول إن شركة "Abellio" ثرية بما فيه الكفاية لتساوي بين الجميع في زيادة الأجور، منوها بأن "المساواة في هذا الشأن مطلب عادل، ولا بد من تلبيته".
لن ينتهي الإضراب بالأيام الثلاثة التي مرت مطلع فبراير، وسائقو المركبات الحمراء تعهدوا بمواصلة حراكهم حتى تحقيق مطالبهم.
والكرة الآن في ملعب الشركة وما يدور بينها وبين الحكومة بشأن سبل احتواء موجة الاحتجاجات في البلاد.
ولكن حكومة رئيس الوزراء ريشي سوناك تصر على موقفها برفض أي زيادة تعيق حربها على التضخم.
كلفة باهظة للحراك
يقول "مركز الأبحاث الاقتصادية والتجارية" إن كل يوم في الإضراب الذي يجمع قطاعات الصحة والنقل والتعليم والخدمة المدنية، يكلف اقتصاد المملكة المتحدة نحو 100 مليون جنيه استرليني.
وهذا المبلغ ينقسم بين ما يقرب من 70 مليون جنيه كقيمة ليوم العمل الضائع، ونحو 30 مليوناً لعجز الأفراد عن الوصول لأعمالهم.
ويشدد المركز على أن هذه الكلفة لا تأخذ بعين الاعتبار خسارة العائلات التي يضطر فيها الأب أو الأم أو الاثنين معاً إلى عدم الذهاب للعمل والجلوس مع الأطفال في المنزل عندما تغلق المدارس نتيجة إضراب المعلمين.
ولا تحسب أيضاً نسبة التراجع في تجارة التجزئة وقطاع المطاعم والضيافة عموماً في ذلك اليوم فقط.
ويقدر المركز خسارة اقتصاد المملكة المتحدة منذ بداية موجة الإضرابات قبل أشهر وحتى اليوم بنحو ملياري جنيه إسترليني، متضمنة كلفة أيام تعطل العمل، وفواتير عجز الموظفين عن الوصول إلى أعمالهم.
كما نوّه بأن الإضرابات تؤثر على جميع قطاعات الصناعة والإنتاج والخدمات والتجارة في البلاد، دون استثناء.
وفي صورة أشد قتامة إن جاز التعبير، تقول الرئيسة التنفيذية لهيئة الضيافة في المملكة المتحدة كات نيكولاس، إن إضراب قطاع النقل كلف المطاعم والبارات والفنادق ما يقرب من 2.5 مليار جنيه منذ الصيف الماضي.
ولفتت نيكولاس إلى أن هذه المنشآت التجارية تحاول الإبقاء على موظفيها لأطول وقت ممكن، ولكن إن تواصلت خسارتها بفعل موجة الإضراب، فقد يتغير الموقف وتذهب نحو قرارات صعبة.
وتمثل "هيئة الضيافة" أكثر من 740 شركة تعمل في القطاع، وتدير ما يزيد على 100 ألف منشأة على امتداد إنجلترا وويلز واسكتلندا.
وتوضح الرئيسة التنفيذية لهيئة الضيافة في حديث مع صحيفة "inews"، أن تداعيات الإضرابات قيد الاحتواء بالنسبة لمؤسسات القطاع إلى الآن، ولكن بسبب التضخم وارتفاع أسعار الطاقة، يزداد الأمر تعقيداً.
مؤشرات محلية وخارجية
إضافة إلى الحافلات، يستخدم أكثر من مليوني شخص يومياً قطارات الأنفاق للوصول إلى عملهم أو تعليمهم في لندن وحدها.
ومع هذه الأرقام الضخمة لمستخدمي وسائل النقل العام تتضح صورة الإرباك الذي يطال البلاد، شعباً وحكومة، جراء إضراب هذا القطاع، بالإضافة للأوضاع الاقتصادية السيئة.
ثمة مؤشرات محلية وخارجية، يستقرأ من خلالها موظفو القطاع العام في المملكة المتحدة حجم تردي اقتصادهم. فيزيدون إصراراً على الإضرابات، ويضغطون بشدة على الحكومة من أجل زيادة رواتبهم، ومحاولة تقويم السياسات الرسمية التي وصلت بالاقتصاد إلى هذا المستوى من التردي في ظل حكم حزب المحافظين.
ويتوقع التقرير الأخير لصندوق النقد الدولي، انكماش اقتصاد المملكة المتحدة بأكثر من المتوقع هذا العام. ليكون أداؤه الأسوأ من بين دول مجموعة السبع المتقدمة.
وتضع توقعات الصندوق بريطانيا خلف أميركا وألمانيا وحتى روسيا التي تتعرض لأشد عقوبات اقتصادية غربية، والتي أنفقت مليارات الدولارات على حرب أوكرانيا.
ويتوقع "صندوق النقد" فشل حكومة المحافظين في تجنب الانكماش. وبرأي أستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة شيفلد مايكل جاكوب، لا توجد خيارات كثيرة أمام الحكومة لمعالجة الأزمة الراهنة، كما يجب عليها الإنفاق من مواردها ومدخراتها لزيادة أجور القطاع العام، واحتواء موجة الإضرابات التي تضرب البلاد منذ أشهر الآن.
وأوضح جاكوب لـ"الشرق"، أن الخروج من الاتحاد الأوروبي "بريكست" كان سبباً في الأزمة التي تعيشها المملكة المتحدة اليوم، لأنه تسبب بخسارة كبيرة لقطاع التجارة لم تستطع الحكومة تعويضها بعد 3 سنوات، كما خلق نقصاً واضحاً في اليد العاملة، لم تتمكن الحكومة من سده لأسباب قانونية وإجرائية.
نهج طويل من التقشف
ومن المؤشرات ذات الدلالة في قراءة الواقع الاقتصادي السيء أيضاً، تأتي الإحصاءات التي تتحدث عن 14 مليون فقير وتحت خط الفقر، من نحو 70 مليوناً يسكنون المملكة المتحدة.
وبرأي عضو حزب "العمال" المعارض إيفان جاش، جاءت هذه الأرقام نتيجة لنهج طويل من التقشف مارسته حكومات حزب المحافظين منذ عام 2010.
وقال جاش لـ"الشرق"، إن المحافظين اتبعوا سياسات اقتصادية خاطئة منذ عهد رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون وحتى الآن، فحكوماتهم مارست تقليص الإنفاق على القطاع العام، حتى وصل الحال بالموظفين إلى الإضراب والاحتجاج على تآكل الرواتب أمام كلفة الحياة المرتفعة، وخاصة بعد صعود معدل التضخم وأسعار الطاقة.
وتوقع عضو حزب "العمال"، أن الإضرابات لن تتوقف وستتسع رقعتها طوال العام الجاري، لأن الحكومة لن تتنازل وترفع الرواتب. وإنما ستواظب على المماطلة بانتظار تحقيق أمرين أساسيين، الأول هو إصدار القوانين الملزمة للنقابات بالحدود الدنيا من العمل خلال الإضرابات، والثاني تخفيض معدل التضخم إلى النصف.
أوليات "حكومة الأثرياء"
من جهته، شدد الباحث في الشأن البريطاني رياض مطر، على أن حكومة المحافظين لن تتخلى عن تخفيض معدل التضخم، لأنه يضر بمصالح الأغنياء قبل الفقراء. فحكومة سوناك برأيه، هي "حكومة أغنياء" تدافع عن مصالح الطبقة التي تمثلها، وتوفر لها التمويل والدعم سواء في حملاتها الانتخابية، أو استراتيجياتها الخارجية.
وأشار مطر لـ"الشرق"، إلى أن معدل التضخم يرتبط بالشركات أكثر بكثير من الأفراد، والشركات الكبرى كشركات الطاقة، هي التي تحرص حكومة المحافظين على كبح جماح التضخم من أجلها. وربما في المقابل، تطلب منها مزيداً من الدعم في أسعار الطاقة للأفراد، "لعل ذلك يخفف من الاحتقان الشعبي ضدها".
ونوّه مطر إلى أن إضرابات القطاع العام أضرت حقيقة بأجندة ريشي سوناك للمائة يوم الأولى من عمر حكومته.
ولكن رغم ذلك لا يتوقع مطر من سوناك تقديم تنازلات لموظفي القطاع العام بسرعة، أو طوال عام 2023، مبرراً ذلك بأن الانتخابات العامة لا تزال بعيدة نوعاً ما، ولا تشكل هاجساً ضاغطاً بوضوح على المحافظين اليوم.
وتوقع الباحث في الشأن البريطاني، حدوث انفراجه في مطالبات القطاع العام في 2024. بعدما تنتهي الحكومة من خفض معدل التضخم، وتقدم دفعات بسيطة للتجارة والصناعة عبر اتفاقات خارجية مع العالم، و"تسوية سلمية" للمشكلات مع الاتحاد الأوروبي، لافتاً إلى أنه في "العام المقبل تصبح التنازلات للموظفين ذات جدوى انتخابية".
اقرأ أيضاً: