رئيس يغادر عاصمته على عجل بينما تدخلها قوات خصومه، حلفاؤه من خارج البلاد يسحبون جنودهم، وشركاؤه في الحكم يكيلون له الاتهامات. هكذا قضى أشرف غني آخر أيامه في حكم أفغانستان، لكن كيف كانت البداية؟
وُلد غني عام 1949، في كنف عائلة نافذة من عرقية البشتون، المهيمنة في أفغانستان. التحق بمدرسة "حبيبية" الثانوية المرموقة في كابول، قبل أن يذهب إلى لبنان، حيث نال عام 1973 درجة البكالوريوس في الأنثروبولوجيا من الجامعة الأميركية في بيروت، وحيث التقي اللبنانية رولا سعادة، التي تزوجها وأنجب منها ابنين.
في عام 1974، عاد غني إلى كابول لتدريس الدراسات الأفغانية والأنثروبولوجيا في جامعة العاصمة، ثم غادر بلاده عام 1977، بعد نيله منحة دراسية حكومية، كي يحصل على درجة الماجستير في الأنثروبولوجيا من جامعة كولومبيا بنيويورك، ثم حصل على درجة الدكتوراة في بناء الدول والتحوّل الاجتماعي، وبدأ التدريس في جامعة كاليفورنيا، بيركلي عام 1983، وكان عضواً في هيئة التدريس بجامعة آرهوس في الدنمارك 1977، ودرّس في جامعة جونز هوبكنز، بين عامَي 1983 و1991.
ونقلت شبكة "إن بي سي نيوز" عن ريتشارد بوليت، الأستاذ الفخري للتاريخ في جامعة كولومبيا، والذي كان عضواً في لجنة أطروحة الدكتوراة لغني، قوله: "كان عادة الطالب الأفضل قراءة والأكثر وضوحاً".
وأضاف أن أطروحته كانت "رائعة"، علماً أنها درست عدم القدرة على حكم أفغانستان، إلى حد كبير من وجهة نظر اقتصادها السياسي.
وتابع بوليت، أن غني تمتع بفهم للهيكل العام للبلاد، في وقت تميل فيه الشخصيات السياسية والعسكرية الأفغانية إلى أن تكون إقليمية في مقاربتها.
غني يدير الجلسات الحاسمة وينتقد الفساد
بعد الغزو الأميركي عام 2001، عاد غني إلى أفغانستان، بعد غياب دام 24 سنة، وأحاط نفسه بأفغان درسوا وعملوا في الخارج، غالباً في الغرب.
وقال خليل رومان، الذي كان مستشاراً للرئيس الراحل محمد نجيب الله، ونائباً لأبرز مستشاري حامد كرزاي، في إشارة إلى غني: "كان في الخارج لسنوات، وكثيرون من الأفغان لا يعرفونه جيداً، ولم يكن على علم بالوضع في أفغانستان وشعبها".
وذكرت "هيئة الإذاعة البريطانية" (بي بي سي) أن غني برز للمرة الأولى في أفغانستان، بعدما أدار جلسات "اللويا جيرغا" إثر سقوط "طالبان".
وتعني "اللويا جيرغا" الاجتماع الموسع أو الكبير الذي يعقده رؤساء القبائل ووجهاؤها السياسيون والدينيون لحل مشكلاتهم السياسية والعامة، وكان يستمر الاجتماع لحين التوصل إلى قرار بالتفاهم والإجماع، ومن أبرز هذه الاجتماعات، الاجتماع الذي عقد في 13 يوليو 2002، وانتهى إلى اختيار حامد كرزاي، رئيساً للحكومة الانتقالية، واجتماع آخر عقد أوائل عام 2004 وانتهى إلى إقرار الدستور.
وكان غني، آنذاك حليفاً للرئيس حامد كرزاي، وعُيّن وزيراً للمال عام 2002، وعمِل إلى جانب عبد الله عبد الله، الذي كان وزيراً للخارجية، وبعد خلاف مع كرزاي عام 2004، عُيّن مسؤولاً في جامعة كابول.
وانتقد غني إهدار أموال المساعدات الدولية في أفغانستان، لا سيّما المقدمة من الولايات المتحدة، التي اعتبر أنها تشكّل "دولة موازية" وظّفت أفضل الأفغان لخدمة مكاتب أجنبية في البلاد.
وقال لـ"بي بي سي" عام 2007: "عندما يشيّد الأفغان مدرسة تبلغ التكلفة القصوى نحو 50 ألف دولار، ولكن عندما يشيّدها شركاؤنا الدوليون، يمكن أن تصل التكلفة إلى 250 ألف دولار".
انتخابات تلاحقها اتهامات التزوير
خاض غني انتخابات الرئاسة عام 2009، لكنه افتقر إلى الدعم السياسي آنذاك، وحلّ في المركز الرابع، ثم فاز في انتخابات 2014، في ظلّ نزاع مع عبد الله عبد الله، توسّطت الولايات المتحدة لتسويته، علماً بأن شبهات تزوير شابت فوزه.
واعتبرت "بي بي سي" أن غني شوّه سمعته الدولية، بوصفه تكنوقراطياً نظيف الكف، باختياره الجنرال عبد الرشيد دوستم لمنصب نائب الرئيس، وهو قائد عسكري سابق مثير للجدل، وكان غني نفسه قد وصفه، خلال حملته الانتخابية عام 2009، بأنه "قاتل معروف".
وفي 18 فبراير 2020، أُعلن فوز غني في الانتخابات الرئاسية، بنسبة 50.64% من الأصوات المحتسبة، بعد نحو 5 أشهر على الاقتراع الذي أجري في 28 سبتمبر 2019، وتأجل إعلان النتائج نتيجة مزاعم واسعة بحدوث تزوير.
وفي 9 مارس 2020، أدى غني اليمين الدستورية رئيساً، فيما نظم عبد الله عبد الله، مراسم تنصيب موازية في مكان قريب، إذ اعتبر أن نتائج الانتخابات مزورة.
وفي 17 مايو 2020، وقّع غني وعبد الله اتفاقاً لتقاسم السلطة، أبقى الأول رئيساً، فيما قاد الثاني محادثات السلام مع "طالبان".
"بلينكين يخاطبه كتلميذ"
كانت صحيفة "نيويورك تايمز" وصفت غني في أبريل الماضي، بأنه تكنوقراطي "مؤهل جيداً لوظيفته وذو مصداقية عميقة، إذ درس في جامعات جون هوبكنز وبيركلي وكولومبيا، وعمِل في البنك الدولي والأمم المتحدة".
وأضافت أنه في "عزلة تامة"، لأنه "يعتمد على مشورة حفنة من الأفراد، وليس راغباً حتى في متابعة الأخبار على التلفزيون، ويفقد حلفاءه بسرعة".
ونقلت الصحيفة عن رحمة الله نبيل، الرئيس السابق لأجهزة الاستخبارات في أفغانستان، قوله في إشارة إلى غني: "إنه في وضع يائس، أصبحنا أكثر ضعفاً، الأمن ضعيف، كل شيء يضعف، وطالبان تستفيد".
ولفتت الصحيفة إلى أن "الولايات المتحدة نأت بشكل مطرد" عن غني (71 عاماً)، مضيفة أن "زعماء القبائل الأفغان يدينونه أو يستهزئون به علناً".
وذكّرت "نيويورك تايمز" بالرسالة التي وجّهها وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى غني قبل شهور، معتبرة أنها "قاسية جداً لدرجة أن حتى الأفغان الذين ينتقدون الرئيس اعتبروها مهينة".
ووصفت الصحيفة اللغة المستخدمة بأنها تستخدم مع "تلميذ عنيد"، أكثر ممّا تستخدم مع رئيس دولة، إذ تضمّنت عبارة "أحضّك" 3 مرات.
ونقلت الصحيفة عن حكمت خليل كرزاي، وهو رئيس مركز أبحاث أفغاني وابن عم الرئيس السابق، حامد كرزاي، قوله: "بصفتك أفغانياً، ينتابك شعور بالإهانة. لكنني أشعر أيضاً بأن غني يستحق ذلك".
وتابعت الصحيفة أن مسؤولين سابقين ذكروا أن غني كان يتدخل في "تفاصيل مسائل عسكرية وقرارات تمسّ الموظفين، حتى على مستوى قائد الشرطة المحلية".
واعتبر حكمت كرزاي أن الرئيس "يحب ذلك، إذ يشعر بأنه الوحيد المؤهل لاتخاذ قرارات جدية".
"غادر تاركاً الشعب"
وشكلت علاقة غني التي شابها الصراع مع رئيس المجلس الأعلى للمصالحة الوطنية، عبد الله عبد الله، أحد أبرز ملامح عهده، في ما وصفته شبكة "إن بي سي نيوز" بـ "زواج غير مريح بين خصمين سابقين، شوّهته سنوات من تقاسم السلطة"، مشيرة إلى رجلين "يختلفان في الخلفية، والطبع، والخبرة والرؤية"، على الرغم من أن مصير البلد كان "معلّقاً جزئياً على علاقتهما".
وكان لافتاً أن عبد الله سارع إلى وصف غني، الأحد، بعد سقوط العاصمة بأنه "الرئيس الأفغاني السابق"، مشيراً إلى أنه "غادر البلاد تاركا الشعب في هذا الوضع. نترك الحكم لله والشعب".
"عار" و"لعنة"
ووجه وزير الدفاع الأفغاني، الجنرال بسم الله محمدي، انتقادات حادة إلى غني، بعد فراره من البلاد، إذ قال في تغريدة على "تويتر"، الأحد: "قيدوا أيدينا من وراء ظهورنا وباعوا الوطن.. اللعنة على غني وعصابته".
وقالت وزيرة التعليم الأفغانية رنجينا حميدي في تصريح لـ"بي بي سي" الأحد: "أنا مصدومة ولا أصدق.. لم أتوقع أن تجري الأمور على هذا النحو.. والمحزن أكثر أنني لم أتوقع هذا من رئيس عرفته ووثقت فيه بالكامل"، معتبرة أن فرار الرئيس وكبار مساعديه "عار" و"خيانة للأمة بكاملها".
"رحلت حقناً للدماء"
ولم يتأخر رد غني الذي قال في بيان إنه "قرر مغادرة البلاد حقناً للدماء ولمنع هجوم طالبان".
وأضاف: "كنت أمام مواجهة مسلحي طالبان أو مغادرة البلاد، طالبان كانت مستعدة لشن هجوم دموي على كابول للإطاحة بي".
وأبدى غني مخاوفه من أن "عدداً كبيراً من المواطنين كانوا سيقتلون وأن كابول كانت ستدمر" لو بقي في أفغانستان.
وأضاف في رسالة عبر فيسبوك "انتصرت طالبان (...) وهي مسؤولة الآن عن شرف الحفاظ على بلادها".
وتابع: "إنهم يواجهون حالياً تحدياً تاريخياً جديداً. إما أن يحافظوا على اسم وشرف أفغانستان وإما أن يعطوا الأولوية لأمكنة أخرى وشبكات أخرى".
اقرأ أيضاً: