مع تصاعد وتيرة انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19)، بات ما يمكن أن نطلق عليه "رقمنة التعاملات" أبرز الحلول للتعايش مع الفيروس والتحايل على إجراءات الحد من انتشاره، بعدما أصبحت بصمات الفيروس واضحة على كل مناحي الحياة اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً.
اللجوء إلى الرقمنة في مجالات التواصل الاجتماعي، كأحد حلول التعامل مع "التباعد الاجتماعي" الضروري للحد من انتشار المرض، أصبح القاسم المشترك الذي باتت تتمحور حوله كل الحلول في المجالات كافة. وفى مجال النشر وطباعة الكتب لا يختلف الأمر كثيراً، إذ تحولت منصات التسوق الإلكتروني للكتب المطبوعة إلى طوق نجاة وحيد بعد إلغاء كل المعارض الدولية للكتاب في أنحاء المنطقة العربية والعالم كافة، وصارت جميع الفعاليات الثقافية ممنوعة، كما أصبح التوسع في نشر الكتاب الإلكتروني، الذي تأخر انطلاقه في العالم العربي سنوات طويلة، أمراً لا مناص منه.
حلول "روبين هودية" مؤقتة
للوهلة الأولى بدت فترة العزلة حلماً يراود كل محبي القراءة ممن تراكمت لديهم عشرات العناوين التي تأجلت قراءتها بسبب مشاغل الحياة، والآن يسمح الوقت بالاستمتاع بها، وبالتالي فإن ذلك يعني بالضرورة انتعاشاً في سوق الكتاب.
عن ذلك تحكي الناشرة اللبنانية رشا الأمير من دار نشر الجديد، لـ"الشرق"، أنه خلال فترة العزل الاجتماعي المستمرّة حتى مطلع الشهر المقبل على أقل تقدير "أهداني الأحباب والأصدقاء كتباً جديدة صادرة في العالم الغربي عبر الشبكة وبالمجّان طبعاً".
واستقبلت معظم مؤسسات النشر العملاقة المعنية بإنتاج الكتب والإبداع الأدبي إعلان منظمة الصحة العالمية فيروس كورونا المستجد كجائحة عالمية، بإتاحة آلاف الكتب والمجلدات للاطلاع المجاني خلال فترة الحجر المنزلي، لتشجيع الأفراد على الجلوس في المنزل، وأبرزها موقع "أمازون" الذى أتاح جميع الكتب والقصص المسموعة لكل الأعمار مجاناً إلى حين إلغاء الحجر وإعادة فتح المدارس مرة أخرى، بالإضافة إلى دار النشر الأميركية Wiley التي عرضت آلاف الكتب للتحميل مجاناً، وتطبيق Google Play Books الذي أتاح للمستخدمين وبلغات عديدة، بما فيها العربية، خدمة الحصول على كتب مدفوعة بشكل مجاني بسبب الظروف الحالية الناتجة عن انتشار فيروس كورونا.
عربياً، عرضت مكتبة الشارقة 6 ملايين كتاب لمدة 3 أشهر بأكثر من 10 لغات، كذلك أتاحت مكتبة الإسكندرية إمكانية الاطلاع المجاني على نحو 200 ألف كتاب إلكتروني، وعرض مركز الإمارات للدراسات والبحوث بعض أبحاثه وكتبه مجاناً عبر الإنترنت.
وتتابع رشا الأمير لـ"الشرق"، "غمرتنا المتاحف ودور النشر والمكتبات ودور السينما بروابط من كل فجّ عميق لتتيح لنا ما لذّ وطاب افتراضياً ومجاناً شريطة أن يتاح الإنترنت في بلدي، وهو غير متاح بالسرعة المرجوّة، لبنان بلد منكوب. كرم العالم من جهة وروبين هوديته دفعاني للتفكير كثيراً في مهنتي كناشرة".
حالة الإتاحة المجانية "الروبين هودية" كما وصفتها رشا الأمير، نسبة إلى الأسطورة الإنجليزية روبين هود، وعرض الكتب للقراءة مجاناً على الإنترنت في أنحاء العالم كافة تختلف عنها في العالم العربي، إذ إن "صناعة النشر ليست قوية كما هو الوضع في أوروبا والدول المتقدمة"، حسب الأمين العام لاتحاد الناشرين العرب محمد رشاد، الذي اعتبر في تصريحات لـ"الشرق" أن "صناعة النشر في الوطن العربي متأخرة بأربعة قرون كاملة عنها في أوروبا، وكانت هذه الفترة كافية لوضع أسس وترسيخ هذه الصناعة، وتعزيز الصلة بين أطراف حلقة النشر من مؤلف وطباعة وموزع، ويربط بينهم جميعاً الناشر، وهي صلة مازالت هشة في عالمنا العربي".
من يدفع ثمن المجانية الإلكترونية؟
الأمين العام لاتحاد الناشرين العرب محمد رشاد أكد في حديثه لـ"الشرق"، أن الكتاب "هو درة صناعة النشر، ولكنه يأتي بكل أسف في ذيل اهتمامات المواطن العربي، بعد عشرات البنود، بينما هو في صدارة الأولويات بالنسبة للقارئ الغربي، مثله مثل الطعام والملبس والدواء".
مثل هذه العروض السخية للمكتبات ودور النشر في زمن الكورونا، قد لا تلقى رواجاً في بلادنا العربية على عكس المتوقع لها في الدول الأوروبية، حسبما تقر الناشرة المصرية فاطمة البودي، دار العين للنشر، بهذه الحقيقة المؤسفة، ولكنها في الوقت نفسه تلتمس للقارئ العذر نظراً إلى ضعف قدرته الشرائية، خاصة في ظل أزمة كونية كتلك التي نواجهها، فإذا كان على القارئ المفاضلة بين الكتاب والدواء والغذاء فإنه حتماً سيختار ما ينقذ حياته.
قالت البودي لـ"الشرق" إن "هذا الخيار المشروع لكل إنسان تحاصره موارده الاقتصادية المحدودة يضعنا نحن الناشرين في مأزق حقيقي". تتقاطع وجهة النظر تلك مع ما طرحته الأمير، قائلة: "أنا كناشرة مع تقديم الكتاب بالمجان بصيغة راقية وغير مقرصنة لقارئ وقارئة جدّي، شريطة أن نؤمّن مدخولًا للدار والكتّاب. نحن في دار الجديد مع نشر يحترم عقل وقلب ومدخول القارئ العربي".
أحمد رشاد المدير التنفيذي لدار نشر "المصرية اللبنانية"، أكد لـ"الشرق" أنه على الرغم من ارتفاع معدلات تسويق الإصدارات الإلكترونية وشراء الكتب الورقية عبر المنصات الإلكترونية، في زمن انتشار فيروس كورونا، إلا أن ذلك لن يقيل الصناعة من عثرتها بسبب عدم استعداد دور النشر لذلك.
قارب نجاة
كثيرا ما تخوفت دور النشر العربية من طرح كتبها على منصات إلكترونية خشية قرصنتها، وهو الأمر الذى جعل طرح الكتب الإلكترونية مقصوراً على دور النشر الكبرى التي تمتلك القدرة على التسويق بأكثر من طريقة وتسمح لها كثرة البيع بتحمل نفقات تقديم خدمة الكتاب الإلكتروني عبر منصات آمنة، وفريق تقني لحماية كتبها في حال تعرضت للقرصنة.
فاطمة البودي تؤكد أن "القرصنة تحدث على أي حال، سواء نشر الكتاب إلكترونياً أم لم ينشر، فهناك دائماً من يتطوع بتصوير الكتب pdf ومن يقوم بطباعتها طبعات مقرصنة، غير عابئ بحقوق كاتب أو ناشر ولا يتحمل ضريبة أو كلفة سوى طباعة بضع صفحات، لكن من المهم الآن أن يتجه الجميع إلى النشر الإلكتروني ورقمنة التعاملات، لأنه إذا طال أمد الأزمة ربما يدفع ذلك كماً كبيراً من الناشرين إلى الإفلاس، وهذه خسائر فادحة".
يتوقع محمد رشاد أن تتراوح نسبة دور النشر المتضررة بين 30 % إلى 40 % من دور النشر حول العالم العربي، وهو رقم كبير جداً وفق تقديرات الاتحاد، فسرعان ما سيعجز هؤلاء عن دفع رواتب وأجور العاملين لديهم وسداد المستحقات لكتاباتهم.
عند هذه النقطة يتفق الجميع على أهمية الإسراع في وتيرة الرقمنة التي بدأ الكثير من دور النشر التباحث حول تنفيذها بشكل جماعي عبر المنصات المعروفة عالمياً وعربياً، أو بشكل فردي حيث تؤسس كل دار نشر لنفسها موقعاً لتسويق كتبها المطبوعة وعرض كتبها الإلكترونية.
اتحاد الناشرين العرب، بحسب محمد رشاد، نظم مجموعة من ورش العمل عبر الإنترنت لتشجيع الناشرين على "النشر الرقمي أو الصوتي"، مضيفاً "جمعنا كل المنصات الآمنة، وعرضناها على زملائنا الناشرين، وأوضحنا لهم أن هذه المنصات المؤمنة والموثوق فيها، يمكن أن يضعوا كتبهم عليها"، ومع ذلك لا يعتبر رشاد الرقمنة حلًا نهائياً للأزمة فهي لا تغطي ربع نفقات دور النشر، ولا تغني عن المعارض والندوات الثقافية التي كانت دور النشر تعتمد عليها بشكل كبير في تسويق كتبها".
أوضح رشاد أن "النشر الإلكتروني له طبيعة خاصة، وأوجه قوة تختلف بشكل كامل عن النشر الورقي، فمن جهة يفضل القارئ النشر الإلكتروني في الموسوعات والكتب العلمية الضخمة والمعاجم، وفى الجهة المقابلة ما زالت الكتب الفكرية والإبداع والكتب السياسية والاقتصادية مرتبطة بالنسخة الورقية في ذهن القارئ"، بحسب وصفه.
مناشدات رسمية لا مجيب لها
فور اندلاع الأزمة سارعت معظم الحكومات العربية إلى وضع خطط تأمين وتعويض للصناعات الحيوية التي تضررت جراء الوباء، حتى لا ينهار الاقتصاد كلياً، لكن "الحكومات العربية لا تؤمن بأن أي خطط تنموية لابد أن يسبقها خطط ثقافية تخلق مواطناً صالحاً وبالتالي فآخر اهتماماتها الكتاب"، حسبما يصف رئيس اتحاد الناشرين العرب لـ"الشرق".
وتوجه اتحاد الناشرين العرب وعدد من اتحادات الناشرين المحلية، كلٌ في بلده، بالمناشدات للرؤساء والملوك والحكومات بأن يخصصوا جزءاً من أموال دعم تلافي آثار الجائحة للعقل العربي وصناعة الكتاب، وذلك بإعطاء الأمر لوزارات الثقافة والمكتبات العامة والمؤسسات الأكاديمية بشراء الكتب من الناشرين.
يضيف رشاد: "الناشر لا يحتاج معونة، يحتاج فقط من يشتري كتبه وإنتاجه ويشجع عجلة الفكر العربي على الدوران، حتى يستمر الناشر في عمله، ويسدد رواتب العمالة وبالتالي لا تتحول هذه العمالة إلى عبء على الدول"، ويتابع: "طالبنا بإلغاء الضرائب عن العام الحالي، وأن يتم تمديد العقود بين الناشرين والكتّاب".
فاطمة البودي قالت في ختام تصريحاتها لـ"الشرق"، "كنا قبل الجائحة نشكو ارتفاع الرسوم الجمركية وأسعار الورق وأحبار الطباعة التي دفعت بأسعار الكتب إلى الارتفاع الجنوني، ونطالب بالإعفاءات الضريبية نظراً لأن صناعة الكتاب لا تهدف إلى الربح فقط، بل هي عصب مهم في صناعة الفكر ورسم هوية المجتمع، ولكننا اليوم بلا حركة ولا نشاط، وقد توقفت حركة البيع تماماً في المكتبات التي تفتح أبوابها 4 ساعات فقط في اليوم. ألا يمكن أن تقارننا الدولة بأصحاب الفنادق والنوادي الصحية وتولينا بعض الدعم والرعاية".