
كشفت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، الجمعة، في مقال لمحلل الشؤون الاستخباراتية في الصحيفة، رونن برغمان، تفاصيل ما أسمته "ملف فخري زاده" وبداية التخطيط الإسرائيلي لشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية، في أعقاب حصولها على تسجيلات لرئيس المشروع النووي العسكري الإيراني محسن فخري زاده الذي اغتيل في إيران الأسبوع الماضي.
وأشارت الصحيفة إلى أنه "لا يوجد أي اعتراف رسمي إسرائيلي بالقيام بالعملية"، إلا أنها كشفت أن "اسم محسن فخري زاده بدأ بالورود في تقارير أجهزتها الاستخباراتية منذ ما يقارب ثلاثة عقود".
أول ظهور
وقالت الصحيفة إن اسم فخري زاده ظهر لأول مرة على رادار الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية في عام 1993. وعمل حينها في "الموساد" شخص يُجنّد العملاء، أطلق على نفسه لقب "كالان" الذي نجح في تجنيد عميل نقل إلى إسرائيل رسومات أولية لأجهزة الطرد المركزي في إيران.
وكانت هذه بدايات منظومات التخصيب الإيرانية التي زُودت بمعلومات كثيرة وأجهزة من أب المشروع النووي، الباكستاني عبد القادر خان. وفي خضم كمية المعلومات الهائلة التي كانت تصل حينها إلى إسرائيل، تكرر اسم عالم صغير هو محسن فخري زاده.
ولبى مُجنِّد العملاء "كالان" تطلعات مرؤوسيه حينها، واليوم هو رئيس الموساد يوسي كوهين.
في البداية، أقامت إيران مجمعاً صغيراً لأجهزة الطرد المركزي في محافظة دماوند، ليس بعيداً عن المكان الذي حصلت فيه عملية اغتيال فخري زاده.
بعد وقت قصير فهم الإيرانيون أن الولايات المتحدة وإسرائيل اكتشفتا المكان، فنقلوا المشروع إلى مكان آخر سرّي وضخم، أقاموا بناءه في نطنز وقاموا هناك بمشروع سرّي أطلقوا عليه اسم "آماد".
بالنسبة للإيرانيين، كان من المهم أن يتم تعيين عالم موهوب إلى أبعد درجة، وصاحب علم ومعرفة جمة، ويدين في الوقت نفسه بالولاء للنظام الإيراني، ويؤمن إيماناً غير محدود بالهدف النهائي للمشروع، وذلك وفق المصدر نفسه.
وكان محسن فخري زاده الذي انضم إلى صفوف "الحرس الثوري" الإيراني عام 1979، هو "الرجل الصحيح في المكان الصحيح"، على حد تعبير الصحيفة.
ملف مفصل
وقال محلل الشؤون الاستخباراتية رونن برغمان في مقاله إن "الاستخبارات الإسرائيلية بنت على مدار ثلاثة عقود ملفاً مفصلاً عن رئيس المشروع النووي الإيراني محسن فخري زاده"، مؤكداً أن "المواد شملت تسجيلات سرية تم عرضها على الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، تشمل معلومات بصوت فخري زاده تتحدث عن بناء خمسة رؤوس تفجيرية نووية".
وأشار إلى أن وثائق نووية في غاية السرية بخط يده تم الحصول عليها، بعد اقتحام الأرشيف النووي في طهران.
ووفق الصحيفة، تشمل هذه الوثائق "كل الطرق التي حاولوا فيها إخفاء المعلومات والكذب على العالم بخصوص القنبلة التي خُطط لبنائها، والمعلومات التي نقلها صديقه الذي تحوّل إلى جاسوس، وتم إعدامه تلبية لطلب فخري زاده".
وكشفت "يديعوت أحرونوت" عن تفاصيل لقاء تم في القدس في أبريل 2008 بين رئيس الحكومة الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت والرئيس الأميركي حينها جورج بوش الابن، عندها قام أولمرت بإخراج المرافقين كافة من مكتبه، وكشف تسجيلاً صوتياً لمحسن فخري زاده حصلت عليه إسرائيل، بعدما استطاعت تجنيد عميل مقرّب منه.
وتحدث فخري زاده في التسجيل بتفاصيل دقيقة عن مشروع حياته "تطوير سلاح نووي إيراني"، ولكنه اشتكى من عدم تحويل ميزانيات كافية لدفع هذا المشروع.
التسجيل شمل مقاطع يشكو فيها رئيس المشروع النووي الإيراني السابق من المسؤولين الإيرانيين، قائلاً: "من جهة يريدون خمسة رؤوس (المقصود خمس قنابل نووية)، ومن جهة أخرى لا يعطوننا إمكانية العمل"، وفي نهاية حديثه انهال فخري زاده على بعض زملائه وقادة في الحرس الثوري بكلمات حادة.
وفق الصحيفة، رفض الرئيس الأميركي جورج بوش الابن في تلك الزيارة طلباً من وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك تزويد إسرائيل بمقاتلات تحلّق عامودياً وبقنابل معدة لاختراق تحصينات تحت الأرض.
بعد سماع الرئيس الأميركي تسجيل فخري زاده وافق على زيادة التعاون الاستخباراتي بين إسرائيل والولايات المتحدة، وأصيب بحالة من الذهول للمعلومات التفصيلية التي وردت فيه حول طبيعة وأهداف المشروع النووي الإيراني العسكري.
التسجيل الصوتي كان جزءاً من الملف الاستخباراتي الذي تم تجميعه عبر سنوات في إسرائيل لمحسن فخري زاده، بعضه وصل من مصادر إسرائيلية، والبعض الآخر من أجهزة استخبارات أجنبية، وبعضه من مصادر غير سرّية، إذ قام فخري زاده بتشغيل صفحة على الإنترنت، نشر فيها نقاشات في مواضيع دينية.
وبعدها بعامين، تم إطلاق عملية "سايبر" التي حملت اسم "الألعاب الأولمبية"، وذلك أضر بصورة حادة بالمشروع وأخّره لسنوات. ووفق مصادر أجنبية، على حد تعبير برغمان، فالحديث يدور عن فيروس حواسيب ذكي، تم تطويره وإدخاله في أجهزة مراقبة أنظمة الطرد المركزي الإيرانية، في عملية أميركية إسرائيلية مشتركة.
أهمية فخري زاده
وكتبت الصحيفة أنه "بخلاف بقية نجوم الثورة الإيرانية مثل قاسم سليماني، كان محسن فخري زاده حتى يوم الجمعة الماضي مجهولاً تقريباً، حتى للمواطن الإيراني العادي، وملفه الاستخباراتي يدل على أن أسباب ذلك لا تنبع من عدم أهميته، على العكس فالسلطات الإيرانية ترى في المشروع النووي المشروع الأهم منذ وصول الخميني إلى الحكم".
وأشارت إلى أن فخري زاده الذي رأس المشروع في العقود الأخيرة، كان أحد أكثر المسؤولين الكبار أهمية في القيادة الإيرانية، ولكن طهران فهمت أنه بات هدفاً ووضعت حوله حماية محكمة، وحرصت على ألا يعرف الكثير من الأشخاص أماكن وجوده وما هي المهمات التي يقوم بها، خصوصاً أنه كان مطلوباً للوكالة الدولية للطاقة النووية".
وشرح برغمان في مقاله أن "هناك نقطة يتحوّل فيها أي مشروع نووي لأي دولة إلى حقيقة، وهذه النقطة أو المرحلة تبدأ عندما تشرع الدولة في بناء ما يسمى مجموعة سلاح"، مشيراً إلى أن "الحديث يدور هنا عن مجموعة من المعاهد والمصانع المتعددة التي تعمل على بناء جهاز يؤدي إلى انفجار نووي".
وأضاف أن "مجموعة السلاح الإيرانية، هي الجزء الأكثر سرية في المشروع النووي العسكري الإيراني (آماد)"، مؤكداً أن "التجارب لبناء هذا الجهاز هي في غاية التعقيد، وتشمل إجراء تفجيرات كثيرة".
وأماكن هذه التجارب، كما يظهرها الملف الاستخباراتي، تحوّلت إلى مركز اهتمام فخري زاده، والحديث يدور عن "لفائف ضخمة جداً" تمت إقامتها في تحصينات تحت الأرض، يجري تنفيذ الانفجارات داخلها.
وأظهرت المعلومات في الملف الاستخباراتي أن فخري زاده تردد كثيراً على أحد هذه المواقع في بارتشن مع مساعديه المقربين ناصيري وديواني. وبناء على وصف العميل، الذي جنّدته إسرائيل، قامت الاستخبارات الإسرائيلية بوضع رسومات لهذه اللفائف، وتبين أنها كانت في غاية الدقة.
وكشفت الوثائق الأرشيفية مدى مركزية فخري زاده في المشروع النووي الإيراني، إذ تم العثور على وثائق كثيرة كتبت ووضعت الرسومات فيها بخط اليد، وقام فخري زاده بالتوقيع أو الموافقة عليها. والسبب في كتابة هذه الوثائق بخط اليد، وفق الصحيفة، يكمن في كونها مصنفة "سرّية للغاية"، ولم يتم إدخالها بتاتاً إلى أجهزة الحاسوب.
أولمرت صادق على اغتياله
وأشار المحلل إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت صادق على عملية اغتيال فخري زاده، بعدما قام الموساد بوضع لائحة بأسماء علماء ذرة إيرانيين يعملون في المشروع العسكري النووي الإيراني.
وكان اسم فخري زاده على رأس اللائحة، إلا أن عملية الاغتيال لم تنفذ بعدما قام مسؤول في الموساد بإقناع أولمرت بإلغائها، خشية انكشاف خلية الاغتيال، بعدما أدرك الإيرانيون أن هناك نوايا إسرائيلية باغتياله.
وكان أولمرت صرح في مقابلة تلفزيونية سابقة: "إنني أعرف فخري زاده جيداً، وهو لا يعلم مدى معرفتي به، وعلى الأرجح أنه لو التقيت به في الشارع، لتعرفت عليه"، مضيفاً: "هو يرأس برنامجاً غايته تنفيذ أمور لا يمكن الموافقة عليها، ولا توجد حصانة له، ولم تكن له حصانة، ولا أعتقد أنه ستكون له حصانة".
وطُرح اغتيال فخري زاده مرة أخرى خلال فترة المفاوضات بين إيران والدول الأوروبية الخمس والولايات المتحدة، إبان ولاية الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في عام 2015، إلا أن "الموساد" حذّر من القيام بتنفيذ العملية، بسبب التوقيت الحساس المرافق للمفاوضات وتبعات العملية عليها وعلى علاقات الولايات المتحدة وإسرائيل.
وكشفت الصحيفة أنه وفق المعلومات المتوفرة في ملف فخري زاده، فإنه قد أصدر تعليمات إلى "الحرس الثوري" الإيراني بإعدام عالم نووي وصديق مقرّب له، عمل معه في المشروع، وكان اسمه ناصيري، بعدما تبين لفخري زاده أن جهاز الاستخبارات الألماني الخارجي "بي إن دي"، الموازي لـ"الموساد"، قام بتجنيده وأنه نقل معلومات في غاية الأهمية عن فخري زاده ومشروعه.
ونجح ناصيري في تهريب أفراد عائلته إلى أوروبا قبل أن يتم اعتقاله وإعدامه، نزولاً عند رغبة محسن فخري زاده، وفقاً للصحيفة.