استعاد عدد من غاليريات بيروت نشاطه بعد إغلاق دام عاماً بسبب تداعيات جائحة كورونا، وكذلك حادث انفجار مرفأ بيروت الذي دمّر صالات عرض الفن التشكيلي، خاصة أن أغلبها ينتشر في المناطق المحيطة بالمرفأ.
وقرر أصحاب صالات العرض، ترميمها وإعادة بنائها بعد الضرر الذي لحق بها، على نفقتهم الخاصة، بعد فقد الأمل في "تعويضات شركات التأمين أو الحكومة"، وفق ما قالته نايلة كتانة كونيغ، صاحبة "غاليري تانيت" لـ"الشرق".
نايلة، قررت العودة ثانية بمعرض جماعي لـ28 فناناً مقيماً في لبنان بعنوان "معاً"، والذي يستمر حتى 7 أغسطس، ليحاكي مفهوم التعاون والشعور بالآخر ومساندته، موضحة: "هذا أكثر ما نحتاجه اليوم كشعب في وجه الفاسدين، لنحيا من جديد، ونستعيد دور بيروت الثقافي عقب أزمة المرفأ".
واعتبرت أن "إعادة افتتاح الغاليري مع 28 فناناً لبنانياً، دعوة لإحياء صناعة وسوق الفن التشكيلي في لبنان، وتشجيعاً للشباب على أن إنتاج أعمال تعبّر عن همومهم والناس من حولهم، والعزلة التي نتجت عن كورونا، وكيفية المساعدة في وجه الأزمات".
ترفض نايلة الهجرة وترك لبنان لمن وصفتهم بـ"أعداء الثقافة والحوار"، وتفسّر موقفها: "قرار إعادة بناء الغاليري وافتتاح المعرض في هذا التوقيت بالذات، يهدف إلى إعادة الحياة إلى شارع مار مخايل السياحي والثقافي والتراثي، الذي كان قبل الانفجار يعجّ بالسكان والزوار من مختلف الجنسيات والفئات العمرية والأديان، فهو شارع كوزموبوليتي ويمثّل روح بيروت الحقيقية".
استمرارية تبعد شبهة الموت
خسرت "غاليري صالح بركات" واحداً من أنشط العاملين فيها وأقدمهم، فراس الدحويش، الذي بدأ العمل فيها منذ افتتاحها عام 2016، وقبل ذلك عمل لـ16 عاماً في "غاليري أجيال" في الحمرا التي تعود ملكيتها إلى بركات. كما لحق الضرر بالغاليري الواقعة في منطقة كليمنصو القريبة من المرفأ.
ردّة الفعل الأولية للخبير الفني الدولي وصاحب الغاليري صالح بركات الذي يعمل في هذا القطاع منذ 30 عاماً، "كانت متشائمة جداً وبائسة، خصوصاً أن خسارة فراس كانت مؤلمة لي وللزملاء ولكل الفنانين، وكان مشهد بيروت المدمّر والسريالي مُفجعاً، فلماذا سنعيد البناء والترميم طالما سيهدمون كل ما بنيناه في لحظة؟".
لكن عندما هدأت النفوس، استعاد بركات مباشرة نشاطه وقرر "العودة والاستمرارية بأي ثمن ولو على حسابي الخاص، فالحيّ أبقى من الميت، وهناك عائلات وفنانون يعتاشون من هذه المساحة الفنية التي نقلت الفن اللبناني إلى معارض عالمية، خصوصاً أن هناك فنانين كانوا مستعدين وحاضرين للعرض"، بحسب تعبيره.
عشق الضحية لجلادها
"غاليري صفير زملر" المتاخمة للمرفأ والتي طاولها دمار شامل، اختارت العودة مع معرض مفاهيمي يحمل أبعاداً سياسية ومعمارية وطوبوغرافية لمدينة بيروت وجغرافيتها الاجتماعية وأهوالها وتحولاتها المدينية، بعنوان "واستمرت الأشجار في التصويت للفأس" للفنان الفلسطيني اللبناني مروان رشماوي المسكون بالعاصمة اللبنانية وتحوّلاتها.
وربما يكون هذا المعرض الأقسى بين ما يقدَّم اليوم، لكونه يرثي بيروت من خلال منحوتاته الإسمنتية الهندسية والرياضية. ويحاكي رشماوي اتحاد الموت بالحياة وعشق الضحية لجلادها والعابثين فساداً فيها والتماهي مع ألاعيبهم وسياساتهم الفوضوية.
عندما وقع انفجار المرفأ، كان رشماوي يستعد لإقامة معرضه هذا في الغاليري نفسها، لكن تجهيزاته لم تُصب بأذى إذ كانت في المستوعبات مغلقة، لكنه بعد الحادثة الأبوكاليبسية، غيّر عنوان المعرض وأضاف إليه منحوتات تحاكي تداعيات المواد المتفجرة على عمارة المدينة وتمزّقها، مستخدماً إضافة إلى مواده المفضلة من الحديد والإسمنت والشمع، مواد الردم (معدن وحجارة وباطون وألومينيوم وزجاج) التي أُخرجتْ من الغاليري بعد ترميمها، محاولاً إبراز توتر المدينة وتصوير اللحظة السريالية التي حلّت قبالة الشاطئ.
عودة المياه إلى مجاريها؟
لم يكن سهلاً على جومانا عسلي، صاحبة "غاليري مرفأ" الواقع عند بوابة ميناء بيروت التاريخي الذي دمّرته أطنان الأمونيوم، أن تعود وفريق عملها إلى المكان بعد هول الكارثة ورائحة الموت والدمار الشامل المحيط بها كأنها في فيلم من الخيال العلمي، كما قالت.
وروت أنها "اختارت منذ 6 سنوات افتتاح هذه الغاليري في حي شعبي صناعي يعجّ بالعمال لأن المنطقة تشبه نبض بيروت القديمة بصور الأبيض والأسود، واختارت فضاء صغيراً في مكان غير سكني عند مدخل المدينة من جهة البحر، لأن الفن والثقافة هما مدخل بيروت إلى التاريخ".
تحمد عسلي الله أن فريق العمل كان غادر المنطقة قبل وقوع الانفجار، لكنها مصرّة اليوم أكثر من أي وقت مضى على الاستمرار وإعادة فتح الغاليري التي أعادت بناءها وترميمها "لتشجيع المجتمع الفني في لبنان على البقاء هنا والعمل والإنتاج والتلاقي والنقاش". وأضافت: "هذه مهنتنا، صناعة الفن، وهذا المكان مكاننا ولن أستبدله بمكان آخر داخل بيروت أو خارجها، الفن هو هوية لبنان".
تعرض "غاليري مرفأ" حتى 13 أغسطس المقبل، أعمالاً مفاهيمية معاصرة (فوتوغرافيا، نحت، تجهيزات فنية، أفلام، رسم) لـ12 فناناً لبنانياً تتمحور حول "المياه" في أُطرها الفلسفية والشاعرية والسياسية والجغرافية.
وعلى الرغم من أن بعض الأعمال يتناول تجهيزات تتعلق بقياس الحدود الجغرافية البحرية والمياه الإقليمية وأفلاماً حول مرفأ بيروت، إلا أنها "أعمال قديمة عمل مبتكروها، مثل الفنان أحمد غصين وفارتان أفاكيان وتمارا السمرائي وباولا يعقوب، لسنوات على البحث في مكنوناتها وتنفيذها، لكن شاءت الصدف أن تُعرض في أول معرض يُفتتح بعد انفجار المرفأ"، تقول عسيلي.
مساحة أمل
وعن حركة السوق والقوة الشرائية لأعمال فنية تُعتبر رفاهية في بلد يزرح تحت انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار، وأزمات النفط والخبز والخدمات العامة، أجمع أصحاب الغاليريات الذين التقتهم "الشرق" على أنهم لا يزالون يبيعون رغم كل شيء، سواء عبر عمليات افتراضية أو عبر سوق محلية.
وأكد أصحاب غاليريات أن هناك كثير من جامعي القطع الفنية تريد إخراج أموالها من المصارف، وهناك من يريد تجديد بيته بعدما طاوله الانفجار أو من لا يزال يعتبر أن اقتناء اللوحات هو استثمار جيّد، خصوصاً من المغتربين أو الزبائن العرب والأجانب.
أما عن حركة الزوار، فصرّحت جومانا رزق المستشارة في التواصل والعلاقات العامة لأكثر من غاليري ومهرجان فني، بأن "هناك إقبالاً لافتاً على زيارة الغاليريات، بفضل الحرية في اختيار توقيت الزيارة بعدما بقيت لوقت طويل بناء على موعد مسبق وفي أوقات محددة لا تتعدى 4 ساعات".
وأضافت: "الناس من كل الفئات العمرية متحمّسة وشغوفة للمعرفة وترى في الثقافة ما يعوّض عن الاكتئاب واليأس من الحالة السياسية، وهناك من يحاول أن يرى في هذه الفضاءات الفنية مساحة أمل لقاء بعد غياب طويل وحجر صحي".
وأكدت رزق أن "هناك معركة للبقاء يخوضها القطاع الثقافي اليوم، وهذا التحدي والصعوبات التي يواجهها المواطن اللبناني، تخلق نوعاً جديداً من الفن والأسئلة والهواجس المتعلقة بالمدينة والحياة والهوية والثورة والأرض والتفاعل مع المحيط، وهي كلها مواضيع تسيطر على أعمال الفنانين في الغاليريات اليوم".