الشمال والجنوب. الجنوب والشمال. إنه نزاع قديم، يذكّر بالصراع بين الشرق والغرب. لكنه يدور على أرض واحدة، في إيطاليا تحديداً.
اعتاد سكان الشمال الغني التذمّر من العمال الوافدين من الجنوب الفقير. إلى أن حلّت مصيبة فيروس "كورونا" المستجد، إذ ضربت الشمال بقوة هائلة وكانت رحيمة مع الجنوب، فحدث "تبادل أدوارٍ" لم يتكهّن به أحد.
شهدت محطة القطارات في مدينة ميلانو شمال إيطاليا حدثاً غريباً الشهر الماضي، إذ اكتظّت، عند الساعة الثانية صباحاً، بمواطنين من مناطق جنوبية وهم يسحبون حقائب وُضِّبت على عجل، للفرار إلى الجنوب.
الصور التي التقطتها كاميرات مراقبة، شكّلت تحوّلاً غير متوقّع في تاريخ إيطاليا. فللمرة الأولى منذ توحيد البلاد عام 1861، ونموّ شركة "فيات" لصنع السيارات في مدينة تورينو وحدوث هجرة جماعية إلى الشمال، كان النزوح يتمّ في الاتجاه المعاكس.
مأساة لومبارديا
معدلات الوفيات نتيجة "كورونا" متفاوتة بشدة، إذ بلغت في مقاطعة لومبارديا الشمالية أكثر من نصف إجمالي الإصابات المسجلة في البلاد، بفارق شاسع عن العاصمة روما.
الوضع في لومبارديا ومناطق شمالية أخرى هو نتيجة لظروف عدة، بينها اقتطاعٌ من موازنة القطاع الصحي. لكن ثمة تشكيكاً بنموذج الرعاية الصحية وإدارة الأزمات، بعد ارتكاب أخطاء، مثل استخدام دور لرعاية المسنّين لاستقبال مرضى بالفيروس الذي أحيا "المسألة الجنوبية" في إيطاليا، كما سمّاها النائب الراديكالي اللومباردي أنطونيو بيليا عام 1873، واستخدمها المفكّر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي، في نصّ نشرته مجلة باريسية عام 1930.
بات فينشنزو دي لوكا، وهو حاكم لمنطقة كامبانيا في نابولي، صوتاً للجنوب، بشخصيته الكاريزمية وخطابه الساخر، إذ كان أحد أبرز الداعين إلى إغلاق البلاد، وعارض بشدة فكرة لومبارديا لتخفيف القيود التي فرضتها الحكومة، قبل مناطق أخرى. وقال: "إذا كان هناك سباق لإعادة فتح مناطق، لا تزال العدوى فيها قوية جداً، فستغلق كامبانيا حدودها وسنصدر مرسوماً يمنع دخول سكان تلك المناطق".
اختبار قاس
تخضع إيطاليا لأقسى اختبار منذ الحرب العالمية الثانية، إذ أن عدد الوفيات بالفيروس يبلغ أكثر من 27 ألفاً، وهو الأعلى في أوروبا والثاني عالمياً بعد الولايات المتحدة، إضافة إلى أكثر من 200 ألف مصاب.
لكن مسؤولين صحيّين أعلنوا نصراً على "كورونا" في جنوب البلاد، الذي كان أقلّ استعداداً وتجهيزاً لمكافحة الفيروس، مقارنة بالشمال، لا سيّما حول عاصمة المال ميلانو التي تضمّ أفضل الكوادر الطبية.
واعتبر رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي قبل ستة أسابيع، أن قدرة بلاده على كبح الجائحة تعتمد بشكل كبير على حصرها في بؤرة تفشّيها في ميلانو، عاصمة لومبارديا. وقال رئيس المجلس الصحي العام فرانكو لوكاتيللي: "منعنا انتشار العدوى في المناطق الجنوبية. هذه حقيقة مدعّمة بأرقام".
سجّلت إيطاليا أول إصابة بالفيروس، في 21 فبراير. وفي 7 مارس، أعلنت الحكومة إغلاق لومبارديا، التي يقطن فيها 10 ملايين شخص، قبل أن تفرض في اليوم التالي إغلاقاً تاماً في كل البلاد، التي تُعدّ 60 مليون فرد، لكبح "كورونا" إثر تفشّيه السريع. وقال كونتي آنذاك: "لم يعد هناك وقت. سأتحمّل المسؤولية عن هذه التدابير. مستقبلنا بين أيدينا".
انتقادات لكونتي
ودافع كونتي عن نفسه قبل أيام، بعد انتقادات واسعة لخططه شديدة الحذر، من أجل إنهاء بطيء وتدريجي لأطول إغلاق عام في أوروبا، كان الأول في الغرب، وتضمّن قيوداً صارمة لمواجهة الفيروس.
ويبدأ تخفيف القيود في 4 مايو، بفتح الحدائق والمصانع ومواقع البناء. لكن المتاجر ستبقى مغلقة حتى 18 مايو، والمطاعم والحانات وصالونات التزيين حتى 1 يونيو، كما أن الطلاب لن يعودوا إلى مدارسهم قبل سبتمبر.
وواجه نهج كونتي انتقادات من شركات، إضافة إلى المعارضة وأحزاب من الائتلاف الحكومي الهشّ، لقلقها من خسائر اقتصادية واجتماعية ضخمة. لكن رئيس الوزراء لا يتراجع، من أجل تجنّب موجة ثانية من الجائحة، وإنقاذ نظام الرعاية الصحية. وقال متحدياً: "لو تمكّنت من إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فسأفعل كل شيء مجدداً. لا يمكنني أن أسمح لنفسي بالتأثر بالرأي العام، ولو أنني أفهم تلك المشاعر جيداً".
ويتسلّح كونتي بـ "فائض" من القوة، إذ ارتفعت شعبيته إلى 66 في المئة، بزيادة 18 نقطة في غضون شهرين. كما أن قراره إغلاق المدارس حتى سبتمبر يحظى بدعم 78 في المئة من الإيطاليين.
تحذير من جوع
لكن الضغوط تتصاعد على رئيس الوزراء، لا سيّما بعد إعلان المصرف المركزي الإيطالي انخفاض الإنتاج الصناعي بنسبة 15 في المئة في مارس، وترجيح وزارة المال أن ينكمش الاقتصاد بنحو 8 في المئة هذا العام، ويرتفع العجز العام إلى 10.4 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، وأن يبلغ الدين العام نسبة 150 في المئة من هذا الناتج. كذلك توقّع صندوق النقد الدولي تراجع إجمالي الناتج المحلي في إيطاليا 9.1 في المئة هذا العام.
وطالب نيكولا زينغاريتي، رئيس "الحزب الديموقراطي" ليسار الوسط، المشارك في الحكومة، بمزيد من المرونة، قائلاً: "علينا مراجعة موعد 1 يونيو، والذي يبدو بعيد المنال". أما رئيس الوزراء السابق ماتيو رينزي، زعيم حزب "تحيا إيطاليا" الوسطي المشارك في الائتلاف الحكومي، فتحدث عن "خطأ سياسي واقتصادي ودستوري" ترتكبه السلطات، وزاد: "لا يمكن أن ننتظر أن ينتهي كل شيء. سيجوع الناس إذا استمر الإغلاق".
في السياق ذاته، نشر حوالى 150 من أساتذة الجامعات في إيطاليا رسالة في صحيفة "إل سولي-24 أوري" الاقتصادية، المملوكة لاتحاد "كونفيندوستريا" للأعمال، تطالب الحكومة بإعادة فتح المصانع، لتجنّب كارثة اقتصادية. وَوَرَد في الرسالة: "تنذر العواقب الاجتماعية والاقتصادية بضرر لا يمكن إصلاحه، ربما يكون أخطر ممّا سبّبه الفيروس".
7 "أخطاء" في التعامل مع "كورونا"
ووجّهت رابطة الأطباء في لومبارديا رسالة إلى السلطات الإقليمية، عدّدت فيها 7 "أخطاء" في تعاملها مع الأزمة، أهمها عدم إجراء اختبارات للطاقم الطبي، ونقص في المعدات الوقائية وفي البيانات حول "كورونا".
جاء ذلك بعد إصابة حوالى 20 ألفاً من الطاقم الطبي في إيطاليا بالفيروس، ووفاة 150 طبيباً. لكن الحكومة في لومبارديا رفضت الانتقادات ودافعت عن جهودها في هذا الصدد.
وكانت إيطاليا أول دولة أوروبية أوقفت كل حركة النقل الجوي مع الصين، في 31 يناير، ووضعت أجهزة مسح ضوئي في المطارات، لفحص حرارة المسافرين. لكن الوقت كان متأخراً، إذ ذكر علماء أوبئة أن "كورونا" كان ينتشر على نطاق واسع في لومبارديا منذ مطلع يناير، إن لم يكن قبل ذلك.
تكلفة اقتصادية "باهظة"
واتهم رؤساء بلديات مدنٍ كانت من الأكثر تضرراً في لومبارديا، ونقابات عمالية، اتحاد "كونفيندوستريا" بممارسة ضغط هائل لإحباط عمليات الإغلاق ووقف الإنتاج، معتبراً أن التكلفة الاقتصادية ستكون باهظة جداً، في منطقة تؤمّن 21 في المئة من إجمالي الناتج المحلي لإيطاليا.
وتجسّدت تلك الضغوط في حملات دعائية باللغة الإنكليزية على مواقع للتواصل الاجتماعي، لطمأنة الزبائن، منبّهة إلى "إحساس مضلّل" في شأن العدد المرتفع للإصابات بالفيروس، ومؤكدة أن الإنتاج في مصانع الصلب والصناعات الأخرى لم يتأثر بالقيود الحكومية.
وعلى رغم تجميد السلطات كل نشاط في لومبارديا، في 7 مارس، فقد سمحت للمصانع بمواصلة العمل، ما دفع عمالاً إلى الإضراب، احتجاجاً على "التضحية" بهم على مذبح القطاع الصناعي في المنطقة. وتحدث قيادي عمالي عن "خطأ فادح"، معتبراً أن "إبقاء المصانع مفتوحة لم يساعد الوضع، بل زاده سوءاً".
متاعب ماتيو سالفيني
صحيح أن "كورونا" سبّب عدداً هائلاً من الوفيات والإصابات، لكن تداعياته السياسية كانت واضحة أيضاً، وطاولت خصوصاً زعيم حزب "رابطة الشمال" ماتيو سالفيني، النائب السابق لرئيس الوزراء والوزير السابق للداخلية.
سالفيني الذي سيطر على المشهد السياسي في لومبارديا منذ سنوات، وحوّل "الرابطة" إلى أبرز حزب في إيطاليا، قبل استقالته من الحكومة العام الماضي، في محاولة فاشلة لتنظيم انتخابات مبكرة، تلقى ضربة شديدة، وواجه حزبه انتقادات عنيفة، لا سيّما من أنصار له، نتيجة كارثة "كورونا".
وشكا روبرتو فرانسيزي، وهو رئيس بلدية في المقاطعة، "فشلاً تنظيمياً"، فيما تعهد إيفان دالاغراسا، الذي يدير شركة بناء قرب مدينة بيرغامو، وتوفي عمّه نتيجة الفيروس، ألا يصوّت مجدداً لـ "الرابطة" في الانتخابات.
الحزب الذي يمزج بين نهج "قومي" وسياسات مناهضة للهجرة، ملوّحاً بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي، سجّل تراجعاً في نيات التصويت، من 31 إلى 25 في المئة، في استطلاع للرأي أعدّه معهد "إيبسوس" لصحيفة "كورييري ديلا سيرا".
ومثل ساسة كثيرين من كل الأحزاب، تبدّل موقف سالفيني خلال الأزمة، إذ حمّل الأجانب مسؤولية تفشي "كورونا"، مطالباً بإغلاق حدود إيطاليا، قبل أن ينضمّ إلى دعوات من أجل فرض إغلاق صارم في البلاد.
لكن أتيليو فونتانا، وهو حاكم إقليمي مقرّب من سالفيني، اعتبر أن "لا مبرر للهجمات" على "الرابطة"، مدرجاً غالبية الانتقادات في إطار "مزاعم سياسية".
إيطاليا "بلد للمسنّين"
قد يكون الجمود الاقتصادي في إيطاليا سابقاً على بروز سالفيني، إذ نبّه كارلو كوتاريلي، وهو اقتصادي إيطالي كان مديراً لصندوق النقد الدولي، إلى أن "الاقتصاد الإيطالي لا ينمو". وأضاف: "دخل الفرد الإيطالي ما زال كما كان قبل 20 سنة. من حيث النموّ الاقتصادي، كان العقد الماضي الأسوأ منذ عام 1861".
وعدّد لائحة طويلة من أسباب تعرقل الاقتصاد في إيطاليا، بينها تبنّيها اليورو عملة موحّدة، وتابع: "لم نتعامل مع الانتقال إلى اليورو بشكل جيد. بما أننا لم نتمكّن من خفض قيمة العملة، فقدنا قدرتنا على المنافسة". وأشار إلى بيروقراطية شديدة، وعدالة مدنية بطيئة، ومستوى مرتفع من التهرّب الضريبي، والفساد، وانقسام اقتصادي بين الشمال والجنوب، إضافة إلى أحد أدنى معدلات الخصوبة في العالم.
في السياق ذاته لفت نيكولا نوبيلي، وهو خبير اقتصادي في شركة "أكسفورد إيكونوميكس" الاستشارية للأبحاث والتحليلات، إلى أن "حوالى مليونَي شاب إيطالي - معظمهم من المتعلّمين والمهرة – غادروا إيطاليا منذ عام 2008". وأضاف: "البلد الذي لا يستطيع الحفاظ على شبابه، لا يتطلّع إلى المستقبل... (إيطاليا) بلد للمسنّين".
أما العالِم السياسي بييرو إغنازي فرجّج "انهيار أسطورة لومبارديا"، مشيراً إلى "كارثة في قطاعها الصحي ومسؤوليه الإداريين"، وفي سمعة المقاطعة. وتابع: "الغطرسة ونزعات التفوّق، التي جسّدتها تاريخياً رابطة الشمال و(رئيس الوزراء السابق) سيلفيو بيرلوسكوني، تتيح الآن محاسبة بعضهم. كما أن هناك مشكلة سياسية خطرة جداً بالنسبة إلى سالفيني: الدفاع عن إدارة لومبارديا (للأزمة) قد يُحدِث ردّ فعل عكسي مرعب. سيفقد إجماعاً في الجنوب ويقسم ناخبيه في الشمال".