حملت الشاعرة والمترجمة والأكاديمية الفلسطينية، سلمى الخضراء الجيوسي، رؤيا معاصرة حول التغيير الشعري والفني، وحاولت أن ترسم خريطة واضحة لتجارب الوزن والصورة في الشعر العربي. أصدرت عشرات الموسوعات والكتب والدراسات بالعربية والإنجليزية حول ثقافة العرب، وتاريخهم، وحضارتهم القديمة والحديثة، وأصبحت كتبها مراجع دائمة لدراسة الشعر العربي في الجامعات.
قبل أيام خسرت الثقافة العربية الشاعرة والناقدة سلمى الجيوسي (1928–2023)، التي أرهقها العمر بعد أن منحت ثيمة الإرهاق معنى مختلفاً، فهي صاحبة "فكرة الإرهاق الجمالي" الذي تشرح فيه نظريتها العميقة حول الحداثة الشعرية.
ترى الجيوسي أن "التغيير لا يحدث إلا عند حاجة الشعر العضوية إليه، فالشعر ومعه الفن ذو حياة عضوية، يتقبّل التغيير عند حاجته لذلك، أي عندما تكون أساليبه ولغته قد أصابها الإرهاق، والإرهاق يفسّر التغيير في حياتنا الشخصية، وعلاقاتنا اليومية. كل شيء يصيبه الإرهاق، لكن الذي يحدث للشعر هو "إرهاق جمالي"، وفي تاريخ شعرنا الحديث دلالات عدّة عن ذلك".
أعداء ثقافتنا
آمنت الجيوسي بأن "أعـداء ثقافتنا أقدم وأقـوى من أعدائـنا العسكريين، الذين ركّـزوا علـى تهميش حقيقتنا الثقافيـة المتميّـزة، مستغلين استسلامنــا". ناضلت الجيوسي على المستويات كافة، وهي جاءت من بيئة مناضلة أصلاً، فوالدها صبحي الخضراء أحد مؤسسي حزب الاستقلال في فلسطين، كرّس حياته للدفاع عن الحق العربي، كما استشهد شقيقها فؤاد سليم خلال الثورة السورية الكبرى عام 1925.
ولدت الجيوسي في عكا وانتقلت بعد النكبة عام 1948 إلى الأردن، تزوّجت الدبلوماسي برهان الجيوسي عام 1946، زميلها في الجامعة في قسم العلوم السياسية، وهو أردني من أصل فلسطيني، وكانت أولى مهامه في القنصلية الأردنية بالقدس حتى العام 1947.
استقرّت الأسرة في مطلع الستينيات في بيروت، حيث درست الجيوسي الأدبين العربي والإنجليزي في الجامعة الأمريكية في لبنان، ثم حصلت على درجة الدكتوراه في دراسة الشعر ونقده من معهد الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة لندن. درّست الأدب العربي في جامعات الخرطوم والجزائر، ثم سافرت إلى أميركا وعلّمت في عدد من جامعاتها.
عملت كاتبة في الصحافة والإذاعة، وعُينت أديبة زائرة في جامعة ميشيجان آن أربور لعامين. أسست عام 1963 التنظيم الإنساني الفلسطيني في الكويت، وفي عام 1980 أسست مشروع "بروتا" لنقل الأدب والثقافة العربية إلى العالم الأنجلوسكسوني، وقد أنتجت "بروتا" الموسوعات، وكتباً في الحضارة العربية الإسلامية، وروايات ومسرحيات وسيراً شعبية وغيرها.
أطلقت عام 1990 مشروعها الثاني "رابطة الشرق والغرب" (East- West Nexus)، بهدف عرض الحضارة العربية والإسلامية قديماً وحديثاً بالإنجليزية، وإزالة المفاهيم الخاطئة والآراء النمطية لثقافات العالم العربي والإسلامي.
الحداثة الشعرية
المجتمع الثقافي العربي والغربي نعى الأكاديمية الراحلة، التي أمضت عمراً طويلاً في تعريف العالم بالثقافة العربية، وتركت نحو مائة كتاب وبحث، انتصرت فيه للحداثة الشعرية العربية، والتراث الإسلامي والعربي.
من أبرز أعمالها كتاب عن صقلية العربية الإسلامية باللغة الإنجليزية، وتعيد فيه دراسة منجزاتنا العربية وتقييمها علمياً وفنياً، وتقديمها إلى العالم بما في ذلك العالم العربي نفسه بدقّة وموضوعية.
ودراسة عن "الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث"، وهي عبارة عن موسوعة حول الحضارة الأندلسية، التي تعدّ "أيقونة متفردة بين الدراسات والأعمال التي جعلت من الأندلس موضوعاً لها".
وتعتبر دراستها عن الأدب الفلسطيني مساهمة كبرى في التعريف بالثقافة الفلسطينية، بما هي عنوان الهوية الفلسطينية. جمعت فيه بين الأعمال والأعلام والدراسات، ودمجت بين التأريخ والتوثيق والتحليل.
ومن دراساتها المهمة، الشعر العربي الحديث، أدب الجزيرة العربية، الأدب الفلسطيني الحديث، المسرح العربي الحديث، اتجاهات الشعر العربي الحديث. وكلها باللغة الإنجليزية.
"على ماذا نندم"
صاحبة كتاب "على ماذا نندم" تقول: أندم؟ أبـداً، ولكن إلى حدّ ما، أشعـر بالأسـى لأني ظلمت نفسي كثيراً لإبـراز أهمية الحضارة والثقافة العربية وقوّة الإبـداع العربي، ولم أستطع أن أوطّـن هـذا العمـل الناجح، بشكل يضمن لـه استمرارية أكيـدة في العالم العربي، لأمـدٍ طـويل يحمل عبئه آخرون بعدي".
تضيف: "أشعر بحرقة قوية لأن الـزمن أمـامي لم يعـد فيه متّسـع كبيـر، للإقنــاع ولتغييـر عقـول لم تـدرك بعـد أوّليـات الأمــور، وحتميات وضعنـا في العــالــم".
آخر الجوائز التي نالتها الجيوسي كانت جائزة محمود درويش للإبداع 2023، وشخصية العام الثقافية لجائزة الشيخ زايد (2020)، وسام القدس للثقافة عام 1990، وجائزة الإنجاز الثقافي لمؤسسة العويس عام 2007.
وزارة الثقافة
من جهتها نعت وزارة الثقافة الفلسطينية الراحلة، وقال وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، "برحيل الجيوسي خسر الوسط الثقافي الفلسطيني ايقونة فكرية، نثرت الشعر والأدب، وكرّست حياتها لنشر الفكر والثقافة الفلسطينية والعربية، وكان للراحلة دور بارز ومساهمة فاعلة في إثراء المخزون الأدبي الفلسطيني والأردني والعربي".
إصدارات وترجمات
أبرز إصداراتها الشعرية ديوان "العودة من النبع الحالم" بيروت، دار الآداب (1960)، "اتجاهات الشعر العربي الحديث (بالإنجليزية) داتربريل، هولندا (1970).
ترجمت إلى الإنجليزية عدداً من دواوين الشعر لأبي القاسم الشابي، فدوى طوقان، محمد الماغوط، نزار قباني، وآخرين. كما ترجمت "الصبار" لسحر خليفة، "الحرب في بر مصر" ليوسف القعيد، "براري الحمى" لإبراهيم نصر الله".
ومن أبرز ترجماتها إلى العربية، "إنسانية الإنسان"، "جوشين"، "الشعر الأميركي"، "والت ويتمان"، "الشعر والتجربة".
اقرأ أيضاً: