بعد 10 سنوات على الإطاحة بحكم الزعيم الراحل معمر القذافي، لا تزال ليبيا غارقة في فوضى سياسية وأمنية تُفاقمها التدخلات الخارجية، وتحرم الليبيين المنهكين من ثروات بلادهم الهائلة.
وبعد سنوات من الحروب والأزمات، تحقّق في الأشهر الماضية تقدم سياسي "ملموس"، بحسب الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، تمثل في إجراء حوار ليبي-ليبي في سويسرا والمغرب وتونس ومصر، أثمر أخيراً عن اختيار رئيس حكومة ومجلس رئاسي جديد، وترافق مع انتعاش إنتاج قطاع النفط الحيوي للاقتصاد الليبي.
لكن، على الرغم مما تقدّم، لا تزال ليبيا تواجه تحديات كبيرة، ونزاعات عنيفة معقدة منذ التدخل العسكري الدولي الذي قاده حلف شمال الأطلسي (ناتو) في مارس 2011 حتى أكتوبر من العام ذاته، ما خلّف بنى تحتية مدمرة في بلد تتحكم به الميليشيات، وينتشر فيه المرتزقة ويسوده الفساد.
استقرار ظاهري
يرى الخبير في منظمة "المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية"، عماد الدين بادي، أن الوضع في ليبيا "استقر ظاهرياً، لكن الزخم الدبلوماسي، جاء نتيجة تحفظ مؤقت عن القتال وليس نتاج رغبة صادقة في التوصل إلى حلّ".
وقال بادي لوكالة الصحافة الفرنسية، إنه "بعد 10 سنوات على الثورة، تبدو ليبيا دولة مشوهة أكثر مما كانت عليه في عهد القذافي".
تجدر الإشارة إلى أنه يوجد في ليبيا اليوم عشرات آلاف النازحين، بينما غادر البلاد عدد كبير من المهاجرين الذين سبق أن عادوا إليها للمشاركة في إعادة الإعمار.
تنافس بين معسكرين
يعيش نحو 7 ملايين شخص في البلد الشاسع الذي يشهد بعد 10 أعوام من انطلاق انتفاضته من بنغازي، تنافساً بين معسكرين، هما: حكومة المجلس الرئاسي، التي تشكلت إثر حوار برعاية الأمم المتحدة عام 2016، ومقرها طرابلس، والحكومة المؤقتة برئاسة عبد الله الثني، المنبثقة عن مجلس النواب المنعقد في طبرق (شرق).
وبعد أشهر طويلة من القتال على أطراف العاصمة، تسارعت مبادرات الوساطة لتسوية النزاع، فوُقّع اتفاق لوقف النار برعاية الأمم المتحدة في الخريف الماضي، لا يزال سارياً على عكس اتفاقات سابقة اُنتهكت سريعاً.
وعلى الرغم من أن الاتفاق نصّ على ضرورة مغادرتهم بحلول 23 يناير، لا يزال آلاف من المرتزقة والمقاتلين الأجانب موجودين في البلاد.
حكومة مؤقتة جديدة
بعد وصولها إلى البيت الأبيض في يناير الماضي، طالبت الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة الرئيس جو بايدن، القوات الروسية والتركية بـ"مغادرة ليبيا فوراً".
المحادثات بين الليبيين، أثمرت اتفاقاً على إجراء انتخابات في ديسمبر المقبل، فيما تم تعيين يان كوبيش، مبعوثاً جديداً للأمم المتحدة إلى ليبيا.
ويفترض أن تشرف الهيئة التنفيذية التي انتخبت أخيراً، والتي يعد من أبرز أركانها رئيس الحكومة المكلف عبد الحميد محمد الدبيبة، ومحمد يونس المنفي (رئيس المجلس الرئاسي)، على المرحلة الانتقالية التي يفترض أن تقود إلى إنتخابات ديمقراطية.
"مكاسب هشّة".. وفقر تدريجي
ترى "مجموعة الأزمات الدولية" أن ما تحقق لا يعدو كونه عبارة عن "مكاسب هشّة"، لأنه "لا يزال هناك العديد من الخطوات التي يتعين اتخاذها قبل تشكيل حكومة الوحدة المؤقتة".
وفي السياق، أكد الباحث جلال حرشاوي، أن الوضع يبقى "هشّاً"، ويقول: "تراجع عدد القتلى الليبيين، لكن هل تحقق تقدم على المستوى السياسي؟ هل زال الخطر؟ على الإطلاق".
يؤكد حرشاوي أن الليبيين "مستاؤون للغاية ويعانون كثيراً جراء كورونا، في حين أن النخب لا تبالي بمعاناة الشعب".
وفي طرابلس، ما زال الليبيون يعانون نقصاً في السيولة النقدية وضعف الإمداد بالوقود والكهرباء والتضخم المالي. وفي هذا الصدد، يعتبر عماد الدين بادي أن الليبيين "يفتقرون تدريجياً".
انحسار التهديد الأمني
حتى وقت قريب مضى، كانت العاصمة الليبية تحت هيمنة عشرات المجموعات المسلحة المحلية التي تغيّر ولاءها باستمرار، لكنها صارت أقل بروزاً مع تكثيف حضور قوات الأمن.
وكانت المجموعات المسلحة ومنها تنظيم "داعش"، حاضرة أيضاً في المشهد لبعض الوقت، وأسهمت في دوامة الفوضى، قبل أن ينحسر التهديد.
وطال العنف كذلك، قطاع النفط في بلد يحوي أكبر احتياطي من الذهب الأسود في إفريقيا، ووصل الأمر إلى استعماله كورقة مقايضة في أحيانٍ كثيرة.
ويقول جلال حرشاوي، إن "ما جرى أشبه بوضع ضمادات على الجراح بدلاً من علاجها، إذ تعاني البنى التحتية في قطاع الطاقة من ضعف الصيانة".
من الوفرة إلى الانهيار الاقتصادي
وعلى الصعيد الاقتصادي، حوّلت 10 سنوات من الحرب ليبيا التي تملك أكبر احتياطات نفطية في إفريقيا، من بلد ينعم بالوفرة إلى اقتصاد منهار تحول سكانه إلى فقراء ومعدومين.
هكذا، بات النشاط الاقتصادي في ليبيا اليوم، رهينة الانقسامات السياسية العميقة بين سلطتين متنافستين تتنازعان السيطرة على "الهلال النفطي".
ويلخص مهندس النفط، المهدي عمر، الوضع بقوله إن "كل ما يخص ليبيا له علاقة بالنفط دون أدنى شك".
انتعاش نفطي
في ديسمبر الماضي، انتعش الإنتاج النفطي ليبلغ 1.3 مليون برميل يومياً، أي 10 أضعاف ما كان عليه في الربع الثالث من عام 2020، لكنه ظل أقل من 1.6 مليون برميل كما كان قبل 10 سنوات.
كل شيء توقف في عام 2011، هجر المستثمرون البلاد التي احتلت المرتبة 186 من أصل 190 في تصنيف "ممارسة الأعمال التجارية"، وخسرت الشركات مبالغ طائلة وكذلك الدولة التي كان عليها تعويض المجموعات المتضررة بعد أن لجأت إلى مقاضاتها.
عام صعب
كان عام 2020 صعباً إلى حد كبير، إذ تسبب الهجوم على طرابلس والحصار النفطي "بأخطر الأزمات السياسية والاقتصادية والإنسانية في ليبيا منذ عام 2011"، وفقاً للبنك الدولي.
وفي ذات السياق، قال الباحث في الشؤون الاقتصادية، كمال المنصوري، إن "ليبيا تمر بتراجع اقتصادي غير مسبوق، خاصة مع الأضرار التي لحقت ولا تزال بقطاع النفط وهو المورد الوحيد للبلاد، جراء الإغلاقات المتكررة التي أثرت سلباً على إيرادات الحكومة من النفط".
مصرفان مركزيان
تُضاف إلى كل ذلك، أزمة نقدية كبيرة بوجود مصرفين مركزيين، هما: مصرف ليبيا المركزي في طرابلس، ومصرف آخر موازٍ له في الشرق، الأمر الذي يعوق السيطرة على سياسة البلد النقدية بينما ينهار الدينار. وهكذا يعجز الليبيون عن تصريف أمورهم الحياتية اليومية في ظل نقص حاد في السيولة والبنزين والكهرباء والتضخم المتسارع.
وزارة الاقتصاد في حكومة المجلس الرئاسي، أقرّت أخيراً بأن غالبية الضروريات الأساسية ارتفعت أسعارها بأكثر من 50% في عام 2020.
ويُعزى الأمر إلى القيود التي فرضها المصرف المركزي في طرابلس وكذلك جائحة كوفيد-19 التي أدت إلى تفاقم الأزمة.
وفي السياق، حذر الخبير الاقتصادي، نوري الحامي، من أنه "في ظل استمرار التراجع الاقتصادي الحاد، ستتجه ليبيا في نهاية المطاف للاقتراض الدولي". ورأى أنه "في حال الوصول إلى هذه المرحلة، ستواجه البلاد أزمات مضاعفة وربما نشهد أرقاماً مفزعة لليبيين الذين يعيشون تحت خط الفقر للمرة الأولى في تاريخ البلاد الحديث".
تشتت شمل أسرة القذافي
بعد الإطاحة بالقذافي، تشتت شمل عائلته التي لعبت أدواراً مهمة خلال حكمه، وقتل أبناؤه الثلاثة معتصم، وسيف العرب، وخميس خلال الثورة.
لجأ محمد، الابن الوحيد من زواج معمر القذافي الأول، إلى الجزائر المجاورة في عام 2011، قبل أن يحصل على اللجوء في سلطنة عمان إلى جانب أخته عائشة، والتي تعمل محامية وشاركت في هيئة الدفاع عن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.
أما هنيبعل، وهو شخصية غريبة الأطوار وكانت لديه نزاعات قانونية في فرنسا وسويسرا في بداية الألفية، فلجأ إلى الجزائر قبل أن يذهب إلى لبنان ليلتحق بزوجته، وهي عارضة أزياء لبنانية. وأوقف في لبنان في عام 2015 ولا يزال مسجوناً، أما زوجته، فذكرت تقارير إعلامية أنها لجات إلى سوريا.
مصير غامض لسيف الإسلام
يظل مصير سيف الإسلام غامضاً، وقد كان لوقت طويل يعتبر خليفة لوالده، إذ قبضت عليه مجموعة مسلحة في مدينة الزنتان (جنوب غربي طرابلس) في نوفمبر 2011، وحكم عليه بالإعدام في محاكمة قصيرة، لكن المجموعة المسلحة رفضت تسليمه إلى سلطات طرابلس أو المحكمة الجنائية الدولية التي تتهمه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية خلال الثورة.
واختفى ابن القذافي، الذي كان الأكثر ظهوراً خلال حكم والده بعد أن أعلنت المجموعة التي تحتجزه الإفراج عنه في يونيو 2017، وقالت المحكمة الجنائية الدولية نهاية 2019 إنه لا يزال في الزنتان.
أما شقيقه الساعدي، وهو لاعب كرة قدم سابق خاض مسيرة احترافية فاشلة في إيطاليا قبل أن ينتقل لقيادة كتيبة نخبة في الجيش الليبي، فلجأ بعد الثورة إلى النيجر، التي رحّلته في عام 2014 إلى ليبيا حيث لا يزال مسجوناً.
ولجأت زوجة القذافي الثانية صفية إلى سلطنة عمان، وطلبت مرات عدة العودة إلى بلادها، لكن نداءاتها بقيت بلا إجابة، على الرغم من نفوذ قبيلتها في شرق ليبيا.