أثارت نتائج التصويت بالجمعية العامة للأمم المتحدة، في الرابع من مارس، على قرار إدانة العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا، الانتباه إلى موقف إفريقي لافت تجاه روسيا، التي باتت تعتبر إفريقيا ذات أهمية أكبر، كونها مخرجاً محتملاً من عزلة دولية يفرضها الغرب، فقد امتنعت 17 دولة إفريقية عن التصويت على القرار، فيما اعترضت دولة واحدة وهي أريتريا وتغيبت 8 دول عن حضور الجلسة.
هذه الحصيلة مجتمعة تعني أن 26 دولة من مجموع 54 دولة على مستوى القارة لم تساند القرار، بما يعيد إلى الذاكرة تصويت الدول الإفريقية على قرار عدم الاعتراف بالوضع المستجد في شبه جزيرة القرم عقب السيطرة الروسية عليها في العام 2014، حينها بلغ عدد الدول الإفريقية، التي امتنعت عن التصويت، 27 دولة في حين اعترضت دولتان على القرار هما السودان وزيمبابوي وتغيبت 6 دول، ما يعني أن القرار حينها لم يجد سنداً من 35 دولة إفريقية.
وتأتي مواقف الدول الإفريقية على خلفية الحملة الدولية، التي تقودها أميركا والغرب ضد العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا، والتي تتخذ طابعاً "تحشيدياً"، وهو أمر يفرض على الدول مراجعة حساباتها من عملية التصويت.
وفي سياق آخر مواز، يبرز سؤال عن المقاربات السياسية لدول القارة الإفريقية، التي تشكل كتلة تصويتية مهمة، ويبرز سؤال آخر عن نفوذ القوى الاستعمارية السابقة في الفضاء الإفريقي وتقاطعه مع نفوذ قوى أخرى مثل روسيا والصين وتركيا.
تصويت عقابي
تعتبر الدكتورة أماني الطويل، مديرة البرنامج الإفريقي في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أن ما حدث هو حالة من "التصويت العقابي"، ويعكس بالضرورة نجاحاً روسياً في تقليص النفوذ الغربي في بعض دول إفريقيا.
ترى الدكتورة أماني أن حركة الرفض للغرب في عدد من الدول الإفريقية ليست حركة فوقية مرتبطة بالنخب الحاكمة، بل لها بعد شعبي، وإن كان لا يشكل بالضرورة تياراً أو طيفاً اجتماعياً واسعاً.
ويتفق الخبير في الشؤون الإفريقية علي هندي مع ما ذهبت إليه الدكتورة أماني الطويل، ويشير إلى أن الأميركيين والغرب بصفة عامة يواجهون حالة من الغضب الشعبي، مصحوبة بموجة انقلابات عسكرية في بعض دول القارة.
ويستشهد هندي بتظاهرات معادية للغرب خرجت في شوارع غينيا كوناكري ومالي وبوركينا فاسو وتشاد، ما يعيد إلى الواجهة أجواء شبيهة بفترة الحرب الباردة حين كان العالم ينقسم إلى قطبين.
أشيش برادان، الباحث الأول في مجموعة الأزمات الدولية والمتخصص في شؤون الأمم المتحدة، يرى بالمقابل أن موقف الدول الإفريقية تجاه الغزو الروسي لأوكرانيا تأثرت بعاملين أساسيين، أولهما قلق الدول الإفريقية من تدخل حلف الناتو في ليبيا في العام 2011، والأمر الثاني يتمثل في طريقة التعامل مع الأفارقة الفارين من النزاع في أوكرانيا، وهنا يتعلق الأمر بما تناقلته وسائل إعلام عن تعرض أفارقة فارين من النزاع في أوكرانيا لتمييز عنصري حيث مُنع بعضهم من دخول بعض الدول أو استخدام وسائل النقل.
ومع ذلك، يعود أشيش ليلفت النظر إلى عامل آخر مهم، وهو الربط بين شراء السلاح الروسي وعملية الامتناع عن التصويت، مشيراً إلى أن الدول، التي تحصل على كميات كبيرة من السلاح الروسي، آثرت الامتناع عن التصويت، وهذا يأتي في سياق علاقات أمنية ممتدة بين هذه الدول وروسيا.
مبادرة صينية وتأخر روسي
وصلت روسيا الاتحادية متأخرة إلى القارة الإفريقية بالمقارنة مع الصين، التي تنبهت مبكراً لأهمية السوق الإفريقية، أو تركيا، التي دشنت استثمارات في دول إفريقية بعضها يعاني عدم استقرار أمني مثل الصومال.
ومنذ العام 2000، تعقد الصين بشكل دوري منتدى اقتصادياً يضم كل الدول الإفريقية ويحظى باهتمام كبير على أعلى المستويات السياسية في الصين.
في العام 2019، عقدت روسيا للمرة الأولى قمة جمعت القادة الأفارقة في مدينة سوتشي، وسعت من خلال هذه القمة إلى تدشين استراتيجيتها في إفريقيا متجاوزة الأطر التقليدية للتعاون الأمني والعسكري إلى الفضاء الاقتصادي والاجتماعي.
يقول ليونيد إيسايف، الباحث الروسي في الشؤون الإفريقية، إن روسيا ظلت تعمل على استراتيجية طويلة الأمد تجاه إفريقيا منذ العام 2018، أي قبل القمة بعام كامل، لكنها لم تنته من هذا المشروع حتى الآن.
يؤكد إيسايف أن اهتمام روسيا بإفريقيا حالياً يتركز في الجوانب الأمنية، وهو يؤكد ما ذهب إليه الآخرون في هذا المنحى. ويضرب مثلاً بالتعاون مع جمهورية إفريقيا الوسطى حيث تتولى مجموعة فاجنر الروسية المسلحة حماية الرئيس فوستان آرشانج تواديرا شخصياً، وفي الوقت ذاته توفر الأمن في نحو 80% من مساحة البلاد، التي تواجه تحديات أمنية.
ولجأ الرئيس تواديرا إلى روسيا لحماية نظامه بعد أن سحبت فرنسا قواتها، البالغ قوامها 2500 جندي، مباشرة بعد تنصيبه في العام 2016.
وتشير دراسة لمعهد بروكينجس إلى أن جمهورية إفريقيا الوسطى منحت مجموعة فاجنر مناجم للذهب والماس نظير خدماتها الأمنية.
بالنظر إلى مواقع انتشار مجموعة فاجنر، التي تمثل رديفاً للنفوذ الروسي في إفريقيا، يُلاحظ أن المحيط، الذي تتحرك فيه هذه المجموعات، هو النطاق التاريخي للنفوذ الاستعماري الفرنسي في منطقة الساحل ومناطق جنوب الصحراء، مع وجود استثناءات تتمثل في السودان وموزمبيق وليبيا.
ويؤكد إيسايف أن الدول، التي تقدمت بطلبات للحصول على خدمات مجموعة فاجنر، تشمل كلاً من مالي، بوركينا فاسو، غينيا، الجابون وإفريقيا الوسطى.
وعلى الرغم من أن إيسايف يتردد في قبول فرضية أن روسيا تتحرك بشكل نشط في دول كانت مستعمرة في السابق من قبل فرنسا، إلا أن الواقع يؤكد وجود شروخ عميقة في علاقات أغلب هذه الدول مع فرنسا، وهو ما قد يفتح مجالاً لدولة مؤثرة بحجم روسيا للتدخل وملء هذا الفراغ.
ويرى إيسايف أن منطقة الساحل تشكل نطاقاً حيوياً لروسيا بعكس منطقة شرق إفريقيا، التي تعتبر مستقرة نسبياً، باستثناء الصومال، ولا تحتاج لخدمات مجموعة فاجنر.
ويشير إلى أن روسيا تعمل على تحقيق الاستقرار في منطقة الساحل ومواجهة الإرهاب والجماعات المتطرفة، لكن ما تقدمه مجموعة فاجنر لا يعدو أن يكون خدمات مدفوعة الأجر، وليست اتفاقات أمنية بين دول تحكمها مصالح مشتركة، وهي لم تستطع أن تكون عنصراً فارقاً في حفظ الأمن، كما يشير إلى ذلك الدكتور حمدي عبد الرحمن، أستاذ العلوم السياسية في جامعتي زايد والقاهرة.
ويرى السفير محمد سالم الصوفي، مدير المعهد الثقافي العربي للدراسات الاستراتيجية في باماكو، أن مالي لا قِبل لها بتسديد فاتورة جماعة فاجنر، التي تبلغ نحو 10 ملايين دولار شهرياً، بحسب ما أشار تقرير لصحيفة The Times البريطانية.
مستقبل روسيا في إفريقيا
يرى الباحث علي هندي أن روسيا تحاول تأسيس علاقتها مع إفريقيا على 3 محاور، وهي: اللعب على تناقض المصالح الغربية، والاستفادة من موجة الانقلابات العسكرية، والبناء على إرث الاتحاد السوفيتي في إفريقيا.
وفي هذا السياق يتفق إيسايف مع هذه المقاربة في نقطتين، وهما أزمة الغرب في التعاطي مع إفريقيا وصورة الاتحاد السوفيتي الإيجابية في إفريقيا.
تناقض المصالح الغربية إزاء إفريقيا ربما يشكل معضلة للدول الغربية، وعلى رأسها فرنسا، التي تعتبر قوة مهمة في هذه القارة.
ويشير السفير محمد سالم إلى أن فرنسا لم تجر أي تغييرات جوهرية على سياستها تجاه إفريقيا منذ عهد الرئيس ديجول، وذلك بناء على دراسة، أعدتها مجموعة عمل فرنسية لقصر الإليزيه. وقد يفسر هذا الأمر الحملة العنيفة، التي تعرض لها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في إحدى الجلسات على هامش قمة إفريقيا فرنسا في مدينة مونبلييه في أكتوبر 2021، حيث واجه الشباب الإفريقي الرئيس الفرنسي بسيل من الانتقادات لتعاطي فرنسا مع دولهم، تمثلت في اتهامات بالعنصرية والغطرسة وارتكاب جرائم الاستعمار.
بالمقابل، يتفق الباحثون في الشأن الافريقي على أن المقاربة الروسية تجاه إفريقيا أيضاً غير واضحة المعالم، فهي تقتصر فقط على جوانب أمنية وعسكرية.
ويرى سالم أن هذه المقاربة تجعل المشروع الروسي قاصراً على النخب العسكرية والنخب الحاكمة، وهو ما قد يؤدي في مرحلة ما إلى تضارب مع مصالح وتوجهات قوى اجتماعية أخرى، كما هو الحال في دول مثل السودان، حيث شككت النخب السياسية المختلفة في الدور الروسي في دعم الرئيس الأسبق عمر البشير في لحظات مفصلية من مسار المواجهة الشعبية ضد نظامه في العام 2018.
أما محاولة روسيا الاستفادة من إرث الاتحاد السوفيتي فهي تشكل بالفعل أحد أركان السياسة الخارجية الروسية تجاه إفريقيا، كما يشير إلى ذلك إيسايف، الذي يقول إن روسيا تسعى للاستفادة من النظرة الايجابية للاتحاد السوفيتي للترويج لمصالحها في إفريقياـ
ويقول إيسايف إن لافروف ذكر من قبل أن نضال الافارقة ضد الاستعمار يمثل جزء من تاريخ مشترك بين بلاده وروسيا.
ويتفق ايسايف مع الرأي، الذي يقول إن روسيا اليوم ليست هي الاتحاد السوفيتي سابقاً، والتوجه الفكري والأيديولوجي للدولة الروسية اليوم يتناقض كلياً مع توجه الاتحاد السوفيتي، وبالتالي يصبح هذا الخطاب عاطفياً لا يعبر عن أجندة سياسية واضحة.
القارة السمراء تكسر عزلة موسكو
يرى الدكتور حمدي عبد الرحمن أن روسيا تسعى، من خلال تحركاتها في إفريقيا، إلى الإعلان عن وجودها كقوة مهمة في نظام عالمي جديد، وتريد أن تصبح جزء فاعلاً في هذا النظام لكنها لن تشكل بديلاً للغرب.
وتشكل العقوبات الاقتصادية بسبب الحرب في أوكرانيا تحدياً إضافياً لروسيا يتطلب منها التنسيق بشكل أكبر مع قوى أخرى فاعلة في إفريقيا، مثل الصين وتركيا.
الدكتورة أماني الطويل ترى أن السنوات القادمة سترى نجاحاً روسياً في إفريقيا بالتعاون مع الصين، ويتفق معها ايسايف، الذي يرى أن أهمية إفريقيا بالنسبة لروسيا ستزداد كثيراً وذلك لكسر العزلة، التي تواجهها حالياً، مشيراً إلى أن روسيا ستلجأ لاستخدام البنوك الصينية كبنوك مرسلة لتجاوز العقوبات، التي فرضتها الدول الغربية عليها.
أما الغرب فقد أدرك، ولو متأخراً، أزمته المستحكمة في إفريقيا، وبدأ يروج لمسار اقتصادي جديد أُطلق عليه مسمى "البوابة العالمية"، وهو يهدف لمنافسة كل القوى النشطة في إفريقيا، وعلى رأسها مبادرة الحزام والطريق الصينية، التي تشكل بديلاً اقتصادياً نشطاً ترى الدول الغربية أنه يهدد مصالحها.