مروان طحطح.. رحلة توثيق يوميات "الاحتجاجات اللبنانية" بشاعرية فنية 

time reading iconدقائق القراءة - 9
المصور اللبناني مروان طحطح يوثق احتجاجات أكتوبر في بيروت  - الشرق
المصور اللبناني مروان طحطح يوثق احتجاجات أكتوبر في بيروت - الشرق
بيروت -رنا نجار

يوثق معرض "بين تشرينَين" للمصور اللبناني مروان طحطح، يوميات الاحتجاجات اللبنانية التي انطلقت في 17 أكتوبر من العام الماضي، راسماً خطاً تشكيلياً وفنياً موازياً للعمل الصحافي الذي يمتهنه منذ 20 عاماً، في صور تقتنص لحظات الأمل المفقود، وأصوات المدينة الطامحة للتغيير.  

وتحولت قاعة هنغار "أمم للتوثيق" في بيروت، حيث يقام المعرض حتى فبراير المقبل، إلى ما يشبه شوارع بيروت الثائرة والضاجة بالحياة منذ سنة، مع استعارة سينوغرافيا معبّرة "البلوكات الإسمنتية" التي زرعها رجال الأمن وسط المدينة للفصل بين السلطة والشعب أو بين مقرات رسمية مثل مجلس النواب والسراي الحكومة والمصارف والمحتجين. 

فصار المكان شائكاً ثقيلاً مثل شوارع المدينة التي تُحاصر أهلها انهيارات مالية وسياسية.   

لوحات شديدة الحساسية

وتحضر الاحتجاجات التي دامت 4 أشهر، بكل أحوالها عبر 74 صورة ملونة و25 صورة بالأبيض والأسود، التقطها مروان طحطح لتشهد على مرحلة استثنائية في تاريخ لبنان الحديث، سواء على الصعيد المالي والاقتصادي أو على الصعيد السياسي.

لكن عين طحطح، الحائز على جائزة نقابة المصوّرين اللبنانيين في عام 2004، لم تغطِّ الحدث السياسي والشعبي فقط، بل هي لوحات تشكيلية فائقة الحساسية لأناس آمنوا بالتغيير، لأمكنة وشوارع نسجت علاقات حميمية مع المحتجين حيث نصبوا خيمهم فيها وباتوا ليالي وأياماً هناك يتباحثون في الشأن العام ويخطّطون لمستقبل أفضل.

وحطت هذه الصور وغيرها رحالها في مؤسسات دولية مثل "معهد العالم العربي في باريس"، و"معهد الشرق الأوسط في واشنطن"، ضمن معارض جماعية عن لبنان بين الأمس واليوم. 

منطلقاً من أن "الصورة التوثيقية والصحافية هي عملية فنية بحتة"وفق ما عبّر في حديثه لـ"الشرق"، يُتقن مروان طحطح لعبة التناقضات واللعب بين الظل والضوء، ليقدّم صوراً تكاد تنطق وتجسد أصوات المدينة وجروحاتها وتناقضاتها وألوانها، ليُظهر قدرته على التقاط مشاهد الحب والعنف، والأمل والألم، الخيبة والحلم، الهدوء والصخب، الفعل وردّة الفعل، والحياة والموت في كادر واحد. 

ورغم كل هذه القساوة التي تعيشها بيروت، تقدّم صور طحطح لوحات حالمة يملؤها التفاؤل والتطلّع إلى المستقبل، كما في صور "الوردة التي تواجه رجال الأمن"، أو تماهي المنتفضين مع تمثال الشهداء المرتفع في الهواء الطلق متحرّراً، أو المشي عكس التيار كما في صورة "الكلب الذي يخالف أوامر العسكر" ناظراً إلى المحتجين.

تلصّص على الجمال

وفي المعرض كثير من الفتحات أو النوافذ التي يتلصّص من خلالها طحطح على المحتجين فوق المرافق العامة والأبنية التراثية التي يعتبرونها "محتلة من قبل السياسيين ومؤسساتهم"، كما يتلصّص على عاشقين يتحابان وسط الزحام والمارة وطلقات الرصاص. 

ويقصد الفنان اللبناني اقتناص تلك اللحظات التي يهرع فيها أحد المحتجين ليرفع علم لبنان فوق مبانٍ شاهقة كانت محرّمة على الفقراء، فلا علم في صور"طحطح إلّا "علم الوطن ولا لغة إلّا لغة الناس"، فهو "منحاز لقضايا الناس ومطالبهم، ومنحاز للفئات الأضعف والفقراء، ومنحاز للمظلوم على الظالم"، كما يقول في حديثه لـ"الشرق".

الصورة انعكاس للحياة

فالصورة بالنسبة لطحطح الذي يعيش في الطرقات، حيث يمشي ساعات طويلة باحثاً عن لقطة تشفي غليله وحسّه الفني، "عملية فنية بالدرجة الأولى".

وانتشرت صور طحطح المعبّرة خلال احتجاجات "17 تشرين" على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة تلك التي توثق انتهاكات حقوق المتظاهرين وضرب الصحافيين، لذا لُقّب بـ"مصوّر الثورة". 

ويقول الفنان اللبناني لـ"الشرق": "صوري تعبّر عن مواقفي السياسية وشعوري وغضبي وكل ما أريد أن أقوله. هي وسيلة التعبير الأولى والأخيرة لما أشعر به تجاه بيروت والمدن التي أزورها، وتجاه قصص الناس وقصصي الشخصية. باختصار هي انعكاس للحياة".

إعادة اكتشاف المدينة

حماسة طحطح وانحيازه للاحتجاجات تبدو واضحة، فيضيف: "مشاهد الخيم والحشود المنتفضة في وسط بيروت التي بقيت لسنين طويلة بلا روح وبلا ناس، أدهشتني، وعندما نزل المواطنون إلى وسط عاصمتهم، شعرت بأن هذا المشهد تاريخي لطالما انتظرناه، فهذه الأماكن مثل ساحة الشهداء ورياض الصلح والتياترو الكبير ومبنى البيضة، هي رموز المدينة التي لا تكون مدينة من دون ناسها بائعيها المتجولين، وأصوات الفقراء والمحتاجين". 

ويتابع: "كان مشهد كل تلك الجموع من فئات عمرية مختلفة ومن ثقافات وطبقات اقتصادية مختلفة، غير مألوف، لذا كنت أنزل كلّ يوم إلى الساحات مستمتعاً بالتقاط الصور لمدينتي التي كانت تلفتني وهي فارغة، ولكنها تثير حماستي وهي تعجّ بالناس، وتدهشني وهي تضجّ بالحياة، وشعرت بأن شوارع المدينة فعلاً لكل الناس كما يقول أحمد قعبور في أغنيته".

ويستطرد: "ثورة 17 تشرين، كانت بمثابة إعادة اكتشافي للمدينة التي وُلدت فيها وشهدت على دمارها خلال الحرب، وترسّخت صور حرقها في ذهني، مثلاً كنا نسمع بالتياترو الكبير ولا نعرفه، وهذه الثورة أدخلتنا رمزاً من رموز العمارة اللبنانية وأمكنتها الحضارية".

علاقة شاعرية

وعن تلك الشاعرية المفرطة التي تظهر في صوره يقول: "كل ما أصوّره هو عملية بحث دائم عن صورة جميلة طبيعية توثّق لمرحلة ما بطريقة فنية بحتة، كل ما أصوره عبارة عن عملية توثيقية بطريقة غير مباشرة". 

ويشرح طحطح: "علاقتي بالصورة علاقة شاعرية نشأت من خلال تعلّق والديّ بالكاميرا التي كانت موجودة في كل تحركاتنا ليوثّقا يومياتنا العادية. ثم أنا ولدت خلال الحرب الأهلية اللبنانية حيث كانت الصورة الصحافية جزءاً أساسياً من متابعتنا ونحن أطفال للأخبار ومجريات الأمور. فالحرب تابعتها من خلال الصور".

ويضيف: "زاد اهتمامي بالتوثيق لأن خالي كان مصوّراً أيضاً وأحد أقربائي كامل لمع كان مصوّراً شهيراً في وكالة الصحافة الفرنسية، وكنت مشدوداً منذ صغري لمهنته". 

ويواصل حديثه: "في عام 1999 اتخذت قراراً بامتهان التصوير الصحافي وكان عمري 17 سنة، فتعلمت ألف باءها في دورة متخصصة في المركز الثقافي الروسي الذي كان حينها من أهم الصروح الثقافية التي لها الفضل على كثير من أبناء جيلي وجيل غيري من رسامين وموسيقيين وراقصين". 

ويتابع: "ثم التحقت بجريدة الشرق بعد نحو ستة أشهر، فكان التجريب محفزي لأطوّر نفسي بنفسي، ولأكتشف كل ما يدور في كواليس العدسة والتقاط الصورة واللعب بين الألوان والظلال والضوء". 

وبعد 17 سنة ذهب إلى كلية الفوتوغرافية العليا في باريس ليمتحن قدرته على مجاراة تطوّر المهنة، فنال شهادة دبلوم من برنامج "التحقّق من صحة الخبرة المكتسبة" عن مشروع يتعلق بعلاقة المرأة بالحجاب.

مشهد مرفأ بيروت

اختِيرت إحدى صور طحطح الإنسانية التي التقطها خلال انفجار مرفأ بيروت المدمّر لجرحى وبشر هائمين في الشوارع، ضمن أفضل مجموعة فوتوغرافية نشرتها وكالة الصحافة الفرنسية عام 2020.

ويردّ طحطح ظهور الشاعرية أو الرومانسية في صوره، إلى تعلّقه بالسينما، فيقول: "مرّنت عيني على جمالية الفوتوغرافيا وخباياها من خلال المشاهدة المكثفة لأفلام السينما بدءاً من الصامتة وصولاً إلى الأبيض والأسود، وحتى صارت الأفلام متاحة على منصات البث التدفقي".

ويضيف: "تأثرت كثيراً بأفلام المخرج الفرنسي جاك تاتي المشغول بتصوير الأشكال الهندسية والكادرات الفنية التي تشغلني أنا أيضاً، خاصة في فيلم (Play Time)".   

وحول موقفه من "التفاؤل" كما يتضح في صور معرض "بين تشرينين"، يقول مروان طحطح: "في أكتوبر الماضي، كنت متفائلاً ولديّ أمل وكنت متحمّساً وغير مصدّق أننا قادرون على محاسبة الفاسدين وإعادة بناء البلد من جديد، وانعكس ذلك في صوري، أما الآن فأنا محبط وفقدت الأمل".