منذ 56 عاماً، صدر فيلم الخيال العلمي "Fantastic Voyage"، وفيه أقدم العلماء على تقليص أحجام فريق من الأطباء، لإرسالهم عبر الأوردة البشرية لإنقاذ عالم شهير من جلطة دموية في الدماغ.
كان ذلك الفيلم الصادر عام 1966 مقدمة لمجموعة أخرى من تلك النوعية من الأفلام التي استخدمت فكرة "تصغير الأشياء" للوصول إلى حجم الخلية بهدف علاج الأمراض المستعصية.
أما اليوم، يمكن استخدام الأدوية النانوية -التي يبلغ حجمها بضعة أجزاء من المليون من الملليمتر- لعلاج فئات كثيرة من الأمراض على رأسها السرطان. وأصبحت كلمة "تقنية النانو" شائعة؛ سواء في أفلام الخيال العلمي أو في عالمنا الحقيقي.
وفي الدراسة المنشورة الخميس في دورية "نيتشر"، أعلن باحثون بمركز البيولوجيا الإنشائية الفرنسي، عن تصميم "روبوت نانوي" من الحمض النووي، يُمكن استخدامه في دراسة العمليات الخلوية غير المرئية بالعين المجردة.
والروبوتات النانوية هي أدوات مصغرة؛ يصل حجمها في بعض الأحيان إلى 5 أجزاء من المليون من الملليمتر. وبسبب حجمها الصغير، يمكن حقنها في مجرى الدم بسهولة لتصل إلى الخلايا المصابة أو العضو الحيوي المطلوب دراسته.
وتتيح تلك التقنية المبتكرة حديثاً دراسة القوى الميكانيكية المطبقة على الخلايا في المستويات المجهرية.
وتخضع بعض الخلايا لمجموعة من القوى الميكانيكية التي يمارسها الجسم على الخلية المفردة، وقد تؤدي تلك القوى لإطلاق إشارات بيولوجية ضرورية للعديد من العمليات الخلوية التي تشارك في الأداء الطبيعي للجسم أو في تطور الأمراض.
هجرة الخلايا السرطانية
على سبيل المثال، فإن الشعور باللمس مشروط جزئياً بتطبيق القوى الميكانيكية على مستقبلات خلوية معينة.
وبالإضافة إلى اللمس، فإن هذه المستقبلات الحساسة للقوى الميكانيكية (المعروفة باسم المستقبلات الميكانيكية) تساعد في تنظيم العمليات البيولوجية الرئيسية الأخرى مثل انقباض الأوعية الدموية، وإدراك الألم، والتنفس أو حتى اكتشاف الموجات الصوتية في الأذن.
ويرتبط الخلل الوظيفي لهذه الحساسية الميكانيكية الخلوية بالعديد من الأمراض. فالخلايا السرطانية "تهاجر" داخل الجسم عن طريق التكيف باستمرار مع الخصائص الميكانيكية لبيئتها المكروية، أو بيئة ما حول الأورام، بما في ذلك الأوعية الدموية والخلايا الليفية، أو منع الجهاز المناعي عن مهاجمة تلك الخلايا الخبيثة.
ومثل هذا التكيف يحدث فقط لأن قوى معينة تكتشفها المستقبلات الميكانيكية التي تنقل المعلومات إلى الهيكل الخلوي للخلية للسرطانية.
"أوريجامي الحمض النووي"
ولا تزال معرفتنا بهذه الآليات الجزيئية المشاركة في الحساسية الميكانيكية للخلية محدودة للغاية، رغم توفر العديد من التقنيات لدراستها، نظراً لكلفتها العالية والتي لا تسمح بدراسة العديد من مستقبلات الخلايا في وقت واحد.
ومن أجل إيجاد البديل للطرق التقليدية المُكلفة على مستوى الوقت والمال؛ قرر فريق البحث استخدام طريقة تُسمى "أوريجامي الحمض النووي".
ومثل محبي فن طي الأوراق الياباني، يُمكن للعلماء تجميع الحمض النووي وطيه كالورق، لإنشاء هياكل نانوية ثلاثية الأبعاد في شكل محدد مسبقاً. وعوضاً عن استخدام الورق في الأوريجامي، يستخدم العلماء الحمض النووي كمادة بناء.
وعلى مدى عقد كامل، سمحت هذه التقنية بإحداث تقدم كبير في مجال تكنولوجيا النانو. ومكنت الباحثين من تصميم "روبوت نانوي" مكون من 3 تراكيب من الحمض النووي.
ومن حيث الحجم، يتوافق الروبوت النانوي مع حجم الخلية البشرية. وبالتالي، يجعل من الممكن لأول مرة تطبيق قوة والتحكم فيها بدقة 1 بيكونيوتن، أي واحد تريليون من نيوتن (وحدة قياس القوة).
وهذه هي المرة الأولى التي يمكن فيها لجسم قائم على الحمض النووي من صنع الإنسان ومجمع ذاتياً أن يطبق القوة بهذه الدقة.
آليات مجهولة
بدأ فريق الباحثين ربط الروبوت بجزيء يتعرف على المستقبلات الميكانيكية. جعل هذا من الممكن توجيه الروبوت إلى بعض الخلايا وتطبيق قوى محددة على المستقبلات الميكانيكية على أسطح الخلايا المستهدفة من أجل تنشيطها.
تعتبر هذه الأداة ذات قيمة كبيرة للبحث، إذ يمكن استخدامها لفهم الآليات الجزيئية المشاركة في "الحساسية الميكانيكية للخلية" بشكل أفضل واكتشاف مستقبلات خلوية جديدة حساسة للقوى الميكانيكية.
وبفضل الروبوت، سيتمكن العلماء أيضاً من دراسة الخلايا بشكل أكثر دقة في أي لحظة. فلدى تطبيق القوة، يتم تنشيط مسارات الإشارات الرئيسية للعديد من العمليات البيولوجية والمرضية على مستوى الخلية.
كما يلبى تصميم الروبوت طلباً متزايداً في المجتمع العلمي ويمثل تقدماً تقنياً كبيراً، إذ يمكن اعتبار التوافق الحيوي للروبوت، ميزة للتطبيقات في الجسم الحي.
ولكن الروبوت لديه نقطة ضعف رئيسية. فالحمض النووي حساس تجاه الإنزيمات التي يفرزها الجسم، وبالتالي يمكن أن تتدهور مكونات ذلك الروبوت حال تعرضه لإفراز الإنزيمات.
وبقول الباحثون إن الخطوة التالية لتطوير الروبوت، هو بالتغلب على تلك المشكلة ودراسة كيف يمكن تعديل سطحه ليكون أقل حساسية تجاه عمل الإنزيمات.