Open toolbar

الانتخابات في إسرائيل - Getty Images

شارك القصة
Resize text
دبي-

قبل ثماني ساعات من انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين في الرابع عشر من مايو عام 1948، أعلن رئيس المنظمة الصهيونية العالمية -ولاحقاً أول رئيس وزراء لإسرائيل- دافيد بن غوريون قيام الدولة باعتبارها "دولة يهودية وحقاً أصيلاً للشعب اليهودي الذي تعرض للشتات على مدى قرون".

تسبب ذلك الإعلان في اندلاع "حرب الاستقلال" وفقاً للتسمية الإسرائيلية الرسمية، والتي انتصرت فيها إسرائيل وسيطرت على معظم الأراضي الفلسطينية، فصدرت وثيقة إعلان قيام دولة إسرائيل التي حملت عبارة "إسرائيل دولة ديمقراطية تحافظ على القيم والمبادئ الديمقراطية وتؤمن بمبادئ عدة منها التعددية والمساواة وفصل السلطات وتقييد السلطات والمساواة التامة، اجتماعياً وسياسياً، بين جميع رعاياها من غير تمييز في الدين والعنصر والجنس أو تقييم حرية الأديان واللسان والثقافة والتعليم، وتحافظ على الأماكن المقدسة لدى جميع الديانات وفقاً لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة".

اثنان وسبعون عاماً مرت منذ إعلان قيام الدولة، ولا تزال وثيقة التأسيس هي المرجع الأول لإدارة شؤونها. فأصبحت عبارة "إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" جزءاً من العقيدة الإسرائيلية المعمول بها في السياسة الخارجية الإسرائيلية.

ومع ذلك، فإن التطور الذي حلّ على الدولة منذ قيامها وحتى اليوم والواقع داخل الدولة نفسها، يطرحان تساؤلات عدة حول مدى ديمقراطية الدولة أو عدلها في التعامل مع مواطنيها وغير مواطنيها، بل تسلط الضوء أيضاً على سياسات الحكومات الإسرائيلية التي احترفت البقاء في السلطة وتحقيق مصالحها على حساب مصالح المواطن الإسرائيلي، خلافاً للدعايات الانتخابية التي تحول فيها المواطن إلى مجرد أداة يتم اللجوء إليها كل 4 سنوات أو كلما دعت الحاجة لإجراء انتخابات تؤكد سلطة رئيس وزراء ما أو تحقيق مصلحة ما.

خدمات مفقودة 

اعتناق عقيدة "الأمن القومي فوق كل شيء" دفع إسرائيل إلى توجيه أغلب موازنتها وسياساتها لخدمة ذلك الهدف، ما جاء على حساب الخدمات الصحية والتعليم وغيرها من الخدمات التي يفترض أن تقدمها الحكومة باعتبارها تنوب عن المواطن في تلبية شؤونه.

الكاتب الإسرائيلي في صحيفة "معاريف" أوريت ليفي نسيئيل، كتب يقول إن "أجهزة الصحة والرفاه والتعليم تدفع ثمناً بسبب المفاهيم المهووسة التي يتبناها نتنياهو منذ انتخابه لرئاسة الوزراء"، وأن نتنياهو "يضحي على مذبح قضاياه الشخصية بمصالح اجتماعية، وينفق كل ما هو مستطاع على الشأن العسكري".

لكن "نيسيئل" يرى أن "نتنياهو يعتنق ذلك الفكر وهو يعرف أن الإنفاق في هذا المجال أشبه بالدخول إلى ثقب أسود لا يعرف الشبع"، كما أن الإنفاق في هذا المجال يسمح بقدر كبير من الفساد لأنه "لا شفافية بحجة الاعتبارات الأمنية، وبهذا أصبحت موازنة الدولة رهينة لجهاز الأمن".

على مدار العام الماضي، أنفقت إسرائيل ما يزيد على 20 مليار دولار على المشتريات العسكرية، في حين دفع نقص تمويل وزارة الصحة الإسرائيلية إلى نشر فيديو على موقع "يوتيوب"، تشرح الوزارة من خلاله كيفية صناعة الكمامة الواقية من الفيروس في المنازل، تحت مبرر ارتفاع أسعار الكمامات في الأسواق وندرتها".

وقد هاجمت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية حكومة نتنياهو، متسائلة عما قدمه للقطاع الصحي. وقالت: "ماذا قدم نتنياهو لجهاز الصحة من توليه الحكم غير التهميش؟ متحدثو اليمين الذين يثنون على أداء نتنياهو وكأنه سوبرمان يثيرون الضحك.. جهاز الصحة الذي وضعت أسسه في بداية خمسينات القرن الماضي لم يشهد تطوراً سوى نشر عيادات عامة تقريباً.. وجميع التطورات السلبية منذ 2009 مسجلة باسمه، مثل النقص في الأسرّة والمعايير والأجور المضحكة للعمال".

ورغم أن إسرائيل تتمتع باقتصاد قوي بالفعل كما تؤكد الحكومة الإسرائيلية، فإن الفقر وخصوصاً بين الأقليات، في ارتفاع بسبب الانقلاب الذي حدث في العام 1978 بوصول حزب الليكود إلى الحكم للمرة الأولى، وفق الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني أكرم عطالله.

وقال الكاتب الفلسطيني لـ"الشرق"، إن السبب في ذلك يرجع إلى تحول النظام الاقتصادي الذي كان سائداً في عهد حزب العمل والذي يشبه النظام الاشتراكي ليصبح نظاما رأسماليا، وجاء بنيامين نتنياهو الذي استنسخ التجربة الأميركية، ما زاد الفجوة بين الأغنياء والفقراء. ويؤكد "عطالله" أن "الكيانات العربية والإثيوبية هي الأكثر فقراً في المجتمع".

الواقع هو أن النظرية الأمنية و"الديمقراطية الإسرائيلية" على حساب الخدمات المقدمة إلى المواطن والديمقراطية الحقيقية، ليست من ابتكار نتنياهو وحكوماته المتعاقبة منذ وصل إلى السلطة، بل إنها ترجع إلى عهد تأسيس الدولة بحسب ما يقول عطالله، الذي أكد أن "مؤسسي دولة إسرائيل وضعوا بنود (نظرية الأمن الإسرائيلي)، كمنطلق أساسي لنهج الحكومات الإسرائيلية منذ الحكومة الأولى التي شكلها دافيد بن غوريون عام 1948، وسارت عليها الحكومات فيما بعد على رغم اختلاف الظروف بين الماضي والحاضر".

يقول عطالله إن فكرة القوة العسكرية التي تقوم عليها عقيدة الحكومات الإسرائيلية "كلفتها موازنات ضخمة على حساب خدمات أخرى، وهو ما كشفته أزمة الحرائق في الكرمل عام 2016، حين انكشف ضعف جهاز الإطفاء الإسرائيلي واضطرت إسرائيل للاستعانة بالسلطة الفلسطينية الفقيرة، وكان جهازها أكثر تطوراً".

ولم يقتصر ضعف الخدمات عند تلك الواقعة فحسب، بل إن التعامل مع أزمة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، كشف عن كارثة أخرى للدولة التي تقول إنها تمتلك أفضل نظام صحي في الشرق الأوسط، حيث كشفت وسائل إعلام إسرائيلية عن أن إسرائيل لا تمتلك سوى 2864 جهاز تنفس اصطناعي، ما استدعى تدخل جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد) لمحاولة إبرام صفقات مع دول أخرى لشراء أجهزة تنفس اصطناعي لمواجهة التفشي الهائل لفيروس كورونا في إسرائيل".

ويقول "عطالله": "اتضح مع تلك الأزمة أن الاهتمام بجهاز الصحة الإسرائيلي ليس بقدر اهتمام الجانب العسكري ذاته". والرأي نفسه يتفق معه الكاتب الصحافي المختص في الشأن الإسرائيلي حسن حردان، الذي يقول لـ"الشرق" إن "نظرية الأمن انعكست في شكل واضح على القطاعات الأخرى في الأزمات، وهو ما اتضح من خلال أزمة فيروس كورونا وتدخل الجيش والاستخبارات لاستيراد أجهزة".

لكن واقع الحال، هو أن أزمة سوء توزيع الموارد في إسرائيل وتوجيهها إلى قطاع على حساب آخر لا تنحصر على قطاع الصحة، فوفقاً لتقرير منظمة "لاتت (عطاء)" غير الحكومية، فإن ربع الإسرائيليين تقريباً يعيشون في فقر وانعدام للأمن الغذائي، خلافاً للتصريحات الحكومية بأن "مستوى معيشة المواطن الإسرائيلي من بين الأعلى في المنطقة.

ووفقاً للتقرير، هناك 2.306 مليون مواطن إسرائيلي يمثلون 25.6 في المئة من إجمالي الإسرائيليين يعيشون تحت خط الفقر. ويشير التقرير أيضاً إلى أن مليون طفل إسرائيلي (33.5 في المئة من الأطفال) يعيشون في فقر، رغم التصريحات الحكومية التي تقول إن مستوى رفاهية المواطن الإسرائيلي مرتفع.

وبحسب عضو الكنيست السابق جمال زحالقة، فإن نسب البطالة بعد أزمة فيروس كورونا، ارتفعت إلى 35 في المئة، فيما وصلت نسبة البطالة في أوساط العرب في الداخل الإسرائيلي إلى 50 في المئة تقريباً، وهو ما فسره مدير تحرير مجلة "مختارات إسرائيلية" التي تصدر عن مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية بالقاهرة محمد جمعة، لـ"الشرق"، بالقول إن النهج الرأسمالي هو السبب لأن "إسرائيل ليست مجتمعاً ديمقراطياً مثالياً، وهناك تمييز عنصري بها واهتمام بفئات على حساب فئات أخرى".

عسكرة المجتمع والديمقراطية "العسكرية"

ورغم تأكيد المعهد أن المجتمع الإسرائيلي في حالة ضعف وانعدام للوحدة واختلال للتوازن بين القيم المختلفة، فإنه لم يوصِ بالعمل على حل تلك المشكلات، وإنما واصل تأكيد فكرة الأمن القومي التي تقوم عليها إسرائيل، مطالباً بـ"استثمار الجهود في التوصل إلى خطة اجتماعية داخلية تمتد لسنوات لتعزيز استعدادات الجبهة الداخلية في إسرائيل لأي تطور عسكري".

ويقر رئيس الأركان الأسبق اللواء احتياط غادي آيزنكوت، في دراسة نشرها المعهد تحت عنوان: "الخطوط الموجهة لنظرية الأمن القومي الإسرائيلي"، بأن إسرائيل "تسير وفق نظرية الأمن التي وضعها بن غوريون في خمسينات القرن الماضي، وقد أثبتت تلك النظرية فاعليتها مع الزمن".

وانطلاقاً من تلك النظرية، طبقت المؤسسة الحاكمة في إسرائيل نظرية "الأمن القومي" بحذافيرها.. هنا يوجد تهديدٌ دائم من قطاع غزة على الوجود الإسرائيلي.. وهناك آخر من إيران و"حزب الله" اللبناني يهدد وجود الدولة بأكملها، ومئات التهديدات -المفترضة وغير المفترضة- تحت ذريعة واحدة هي حماية الأمن القومي وحماية الدولة أياً يكن الثمن، حتى ولو كان على حساب الحرية والديمقراطية.

وتطبيقاً لتلك النظرية، تحولت مقولة "إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" إلى مقولة خاوية من مغزاها. ويقول مدير منتدى السياسة الإسرائيلية مايكل جيه. كوبلو، في مقال بـ"هآرتس"، إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو احتضن أحزاب اليمين المتطرف، وبالتالي فإن تصرفاته "أضرت بأحد أهم أصول الأمن القومي لإسرائيل، ما يعني أن أحد أكثر المعتقدات الإسرائيلية على مستوى العالم بأن إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، أصبح مشكوكاً فيه".

تقوم فكرة الدولة الإسرائيلية على أنها "دولة الشعب اليهودي"، ما يعني أنها انتهجت فكرة قومية وعنصرية في دعوتها للحياة بداخلها خلافاً لما يدعيه المسؤولون الإسرائيليون من ترحيب بكافة القوميات والإثنيات.

لكن الحقائق على الأرض تشير إلى واقع آخر تماماً، فعلى الرغم من وجود أحزاب عربية تشارك في الحياة السياسية الإسرائيلية، فإن تلك الأحزاب لم تحقق شيئاً، فمثلاً في مارس من العام الماضي -قبل إجراء الانتخابات في أبريل 2019- استُبعد مشروع قانون طرحه النواب العرب في الكنيست من الجلسة العامة، بحجة أنه يدعو إلى اعتبار إسرائيل دولة لجميع مواطنيها في اللوائح والقوانين العامة، وأن تغيير عبارة "دولة الشعب اليهودي" ينتهك اللوائح البرلمانية ووثيقة تأسيس الدولة.

القومية الإسرائيلية اليهودية التي تسعى الحكومات المتعاقبة في إسرائيل إلى تنفيذها، تستند وفق الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني أكرم عطالله، إلى مجموعة أسس على رأسها أن تكون إسرائيل قوة عسكرية أكبر من القوة العربية مجتمعة وتمتلك جيشاً هو الأقوى في المنطقة وسلاحاً رادعاً تجعل المحيطين بها يفكرون كثيراً قبل إعلان الحرب عليها.

ويتفق مدير تحرير مجلة "مختارات إسرائيلية" مع رأي "عطالله"، حيث يؤكد أن ما يجمع كل الأحزاب الإسرائيلية من اليمين إلى اليسار هو أمن إسرائيل وضمان تفوقها العسكري والاقتصادي، وصولاً إلى القضايا الكبرى "كملف القدس"، وأن الاختلافات بينهم مجرد "تفاصيل هامشية".

عام 2018، أعدت لجنة أميركا لخدمات الأصدقاء دراسة تناولت فيها ما وصفته بـ"عسكرة المجتمع في إسرائيل"، أكدت من خلالها أن "إسرائيل تعمدت انتهاج سياسة العسكرة في كل جوانب المجتمع، بدءاً من قطاع التعليم الذي يتولى العسكريون فيه أغلب المناصب العليا، وحتى المناصب السياسية التي احترف العسكريون السيطرة عليها".

لكن، تلك لم تكن الدراسة الأولى التي تتحدث عن عسكرة المجتمع في إسرائيل، ففي عام 2007 أعد الباحث الإسرائيلي غيورا غولدبرغ دراسة عن عسكرة الساحة السياسية في إسرائيل، ووصف الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بأنها تنتهج سياسة "الدولة الحامية" وفقاً إلى تعريف هارولد لاسويل، الذي يشير إلى الدولة التي تعيش في حالة طوارئ دائمة من أجل تحقيق مكاسب سياسية لبعض الفئات.

ويقول "عطالله" إن لجوء إسرائيل إلى "عسكرة المجتمع" يرجع إلى إيديولوجية "بن غوريون" منذ التأسيس، حين عمل على تهجير اليهود من جميع دول العالم، واعتبر الجيش الإسرائيلي "بوتقة الصهر لليهود كافة، حتى يعود الإسرائيليون في جيش واحد"، كما أن هناك سبباً آخر لذلك في رأي "عطالله" الذي يقول إن "عسكرة المجتمع سببها صغره، ولهذا فإن أي إسرائيلي بمثابة جندي إما في الخدمة أو الاحتياط".

طوارئ دائمة

بُنيت عقيدة الحكم الإسرائيلية على منظور الأمن القومي وما يعنيه من اتخاذ شتى الإجراءات والسياسات من أجل الحفاظ على الدولة التي ترى نفسها في "حالة طوارئ دائمة"، إذ إن مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي يستند -وفقاً لما أورده المؤرخ الأميركي دان هورويتز في كتابه "مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي"- إلى معيارين أساسيين، أولهما أن "الدولة لا مجال لها سوى أن تتعامل مع الصراع العربي-الإسرائيلي على أنه من المسلمات"، وثانيهما أنه "على إسرائيل أن تأخذ في الاعتبار دوماً الهامش الضيق للأمن النابع من عدم وجود عمق جغرافي للدولة".

وأضاف هورويتز: "وهكذا، باتت السياسة الخارجية امتداداً للسياسة الدفاعية"، لكن الواقع هو أن السياسة الخارجية لم تكن وحدها المرتبطة بالسياسة الدفاعية، فالسياسة الداخلية أيضاً تحولت إلى معايير المكسب والخسارة للسياسيين الإسرائيليين، وبدلاً من تطبيق ما سمّته وثيقة التأسيس بـ"المبادئ والقيم الديمقراطية"، باتت السياسة مجالاً لتحقيق مكاسب شخصية والبقاء في السلطة وليس لتحقيق ما وضعته الوثيقة التأسيسية في بنودها.

يُصدر معهد الأمن القومي الإسرائيلي سلسلة أمنية سنوية تحت عنوان "التقدير الاستراتيجي لإسرائيل"، تتناول تحليل التهديدات الأمنية والآفاق الاستراتيجية لإسرائيل في المنطقة المحيطة بها وفي العالم.

وتُظهر متابعة تلك التحليلات تأكيداً دائماً على القلق الأمني المصاحب للوجود الإسرائيلي وعلى أن إسرائيل في حالة حرب دائمة.

وفي تقريره الأخير لعام 2020، يفيد المعهد الإسرائيلي بأن "الدولة رغم قوتها المعهودة، تواجه صعوبة في ترجمة قوتها إلى نفوذ استراتيجي وفي تحقيق أهداف الأمن القومي الرئيسية، وهو ما يتطلب الإنفاق الدائم والمستمر على القطاع العسكري"، رغم إقرار التقرير بضعف وحدة المجتمع الإسرائيلي واختلال التوازن بين القيم القومية والدينية وبين القيم الديمقراطية الليبرالية.

يعيش الإسرائيليون حالة طوارئ وعسكرة دائمة، بفعل التخويف المستمر من رؤساء الوزراء المتعاقبين في إسرائيل. ويؤكد الباحث في الشؤون الإسرائيلية عطا صباح، لـ"الشرق"، أن المتحكم في أي انتخابات إسرائيلية قضيتان أساسيتان وهما: "الناحية الأمنية، والناحية الاقتصادية".

وأضاف: "بالعودة إلى التاريخ، نجد أنه في كل مرحلة انتخابات يلجأ السياسيون الإسرائيليون إلى افتعال حالة من الطوارئ والتخويف وخلق واقع معين والإعلان عن تهديد وجودي لإسرائيل لترسيخ بقائهم في الحكم والحصول على الأصوات، وغالباً ما تنجح هذه الطريقة".

ما قاله "صباح" يتفق مع رأي عضو الكنيست الإسرائيلي عن القائمة العربية المشتركة عايدة توما، التي تؤكد لـ"الشرق" أن "حكومات إسرائيل، يميناً ويساراً، اعتمدت على فكرة أن إسرائيل لا يمكن أن تستمر من دون الارتهان للفكر العسكري ومفهوم العسكرة والسيطرة على جوانب متعددة من الحياة فيها".

الرأي ذاته يتفق معه أستاذ العلوم السياسية المصري المتخصص في الشأن الإسرائيلي الدكتور طارق فهمي، والذي يرى في حديثه لـ"الشرق" أن "إسرائيل، تاريخياً، تختلق لنفسها عدواً لتبرير الإنفاق على الصناعات العسكرية وتبرير شراء التكنولوجيا الحربية".

ويدلل "فهمي" حديثه ذلك بالقول إن إسرائيل "اختلقت الخطر الإيراني غير الموجود على أرض الواقع"، لأن "طهران لا يمكن أن تفكر في مهاجمة إسرائيل"، وهو الأمر نفسه الذي حدث في مرحلة ما مع تركيا على سبيل المثال "حين افتعلت الحكومات الإسرائيلية ما يسمى بـ(الخطر التركي) على رغم العلاقات التركية-الإسرائيلية الجيدة في كل المجالات قبل حادث مرمرة وبعده".

صراع مستمر.. إدارة لا حل

على مدار تاريخ إسرائيل منذ نشأتها كان تعاملها مع قضية الفلسطينيين ينطلق من واقع أنها أزمة أبدية لا تنتهي، وهو ما فسره أستاذ العلوم السياسية بجامعة "بار إيلان" الإسرائيلية مناحم كلاين، بأنه "نية إسرائيلية لإدارة الصراع لا حله"، إذ يرى أن "الداخل الإسرائيلي سيعارض أي تسوية للصراع، وبالتالي فإن الحكومات الإسرائيلية تسعى إلى إدارته لتحقيق مصالحها والبقاء في السلطة.

كما أن إسرائيل من خلال سياساتها في إدارة الصراع مع الفلسطينيين تتربح من تصدير المعرفة التقنية والمنتجات الأمنية التي تؤمن سيطرة إسرائيل على السكان والأراضي الفلسطينية"، وهو رأي يتفق مع ما قاله المحلل السياسي بمعهد "جفعات حيفا" الإسرائيلي للدراسات والأبحاث محمد دراوشة لـ"الشرق"، إذ يؤكد أن "برامج الحكومات الإسرائيلية السياسية متشابهة وتخدم الفكرة ذاتها، وهي تعزيز الاستيطان ومصادرة الأراضي والقضاء على أي فكرة يمكن أن تشكل بارقة أمل لقيام كيان فلسطيني مستقل وفقاً لقرارات الشرعية الدولية".

وتقول "توما" إن حكومات إسرائيل كلها لا تريد إنهاء الصراع وهي تواصل إدارته، مضيفة: "نتنياهو يسعى إلى استمرار الاحتلال ومنع وجود حل ويريد القضاء على حلم الدولة الفلسطينية من خلال عمليات الضم، وهي واحدة من القضايا المركزية التي أصر عليها نتنياهو في المفاوضات حول تشكيل الحكومة".

ويرى الباحث في التاريخ د. عمر جعارة، أن "إسرائيل لم تؤمن أبداً بالسلام وعندما اقترب إسحق رابين من السلام قتلوه. الإسرائيليون يعتبرونها أرضهم".

ويشير عطالله إلى أنه "لا خلاف بين الأحزاب الإسرائيلية في إدارة الصراع مع الفلسطينيين"، مضيفاً: "الاتجاه الاسرائيلي يميل لليمين الذي يتخذ مواقف علنية واضحة ضد الفلسطينيين والعرب ويرفض السلام الحقيقي معهم لدوافع أمنية ودينية".

ويرى عطالله أن ما يجمع اليسار واليمين الإسرائيلي هو التعامل مع الصراع الإسرائيلي-العربي، إذ إن "ما يجمعهم في هذه القضية أكبر بكثير مما يفرقهم"، وأن الخلافات "نسبية وبسيطة وليست جوهرية تتعلق بروح المشروع الصهيوني".

الباحث الإسرائيلي في علم الاجتماع باروخ كيميرلينغ وصف نهج الحكومة الإسرائيلية بأنها تتبع مبدأ أن "انتصاراً عسكرياً إسرائيلياً هو دورة إضافية في الصراع الطويل الأمد بين اليهود والعرب، بينما الهزيمة تعني تدميراً سياسياً للدولة اليهودية".

ويتفق "جمعة" مع هذا الرأي، قائلا إن هناك "شبهَ تطابقٍ في البرامج السياسية بين حزبي العمل والليكود تجاه الصراع الإسرائيلي-العربي"، وإن الخلافات "لا تشكل فارقاً كبيراً بينهما، ويمكن وصفها بالخلافات الهامشية، نظراً إلى أن كلا المعسكرين يؤمنان بفكرة الاستيطان والضم وانتهاك الحقوق الفلسطينية".

ويؤكد "زحالقة" أنه في تناول مسألة الصراع مع الفلسطينيين والعرب "ليس هناك ما يسمى بتيارات اليسار والوسط واليمين، فالجميع يتفق على هذه القضية".

المتشددون والفلاشا.. السلطة أكثر أهمية

من آن إلى آخر، يحاصر بعض الأزمات الداخلية الحكومات الإسرائيلية، لكن كلها أزمات غالباً ما ترتبط بالسلطة في شكل أو آخر، فعلى سبيل المثال طغت حالة التساهل التي تعامل بها نتنياهو مع اليهود المتشددين "الحريديم" على الأجواء في إسرائيل بعد أن تفشى فيروس كورونا في أوساطهم بسبب عدم التزامهم بقرارات وإجراءات الحكومة الوقائية.

لكن الواقع هو أن ذلك التساهل كان جزءاً من سياسة نتنياهو للبقاء في السلطة، من حيث إن تلك الأحزاب الدينية المتشددة تشكل ركيزة دائمة في ائتلاف نتنياهو، من خلال المصالح الضيقة التي يقدمها لها ويحافظ فيها على الوضع القائم والتوازنات القائمة، كونها تشكل مخزن أصوات داعمة له"، وهي أزمة سبق أن أثارها قانون تجنيد اليهود الحريديم، الذي عرقل نتنياهو دخوله إلى حيز التنفيذ مرات عدة من أجل إرضاء حلفائه من الحريديم.

ويقول "جمعة" إن الأزمة الأكبر لدى نتنياهو قائمة على أرضية انتهازية وفساد، وهو لا يرغب في فك ارتباطه بقوى الحريديم، لأنه يعلم مدى أهميتهم بالنسبة إليه "ومن دونهم لن يكون هناك حديث عن نتنياهو مستقبلاً".

أما زحالقة، فيقول إن تعلق نتنياهو بالحريديم يرجع إلى أن مستقبله السياسي مرهون بهم، على رغم أنهم يشكلون نحو 12 في المئة من تعداد سكان إسرائيل، ويمتلكون عدداً من المقاعد يحتاجها نتنياهو من أجل ضمان البقاء في السلطة.

ويقول دوابشة إن الحريديم يتحكمون بنتنياهو لأنهم يعلمون مدى حاجته إليهم، حتى أنهم هم من يحددون تغيير الوقت الصيفي والشتوي، لا لشيء إلا "لأنهم لا يريدون الاستيقاظ ساعة مبكراً للصلاة".

أما الأزمة الثانية، فهي التعامل مع يهود الفلاشا الذين يتحدرون من أصول إثيوبية، والذين تشير الإحصاءات الرسمية في إسرائيل إلى أن تعدادهم يبلغ 170 ألف شخص يمتلك منهم نحو 100 ألف شخص حق التصويت في الانتخابات الإسرائيلية، وسط مساعٍ لمنح البقية هذا الحق، إضافة إلى سعي حثيث من جانب الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لاستقدام المزيد من يهود الفلاشا وجمعهم بأقاربهم في إسرائيل، بهدف حشد أصواتهم لمصلحة مرشحي تلك الحكومات.

وعلى سبيل المثال، سبقت انتخابات أبريل 2019 وانتخابات مارس 2020 قرارات باستيعاب المزيد من يهود الفلاشا، ففي سبتمبر 2018 صدر مع بدء ظهور بوادر انهيار الائتلاف الحكومي، قرار نتنياهو باستيعاب 1000 من يهود الفلاشا. وفي فبراير 2020 قبل الانتخابات الأخيرة، أصدر قراراً آخر باستيعاب 400 من يهود الفلاشا وتم استقبال عدد منهم بالفعل.

قرارات نتنياهو تأتي خلافاً إلى موقف المستشار القانوني للحكومة أفيخاي مندلبليت، فهو يرى أن الحكومة تستوعب يهود الفلاشا لأسباب سياسية بهدف تحفيز اليهود من أصول إثيوبية للتصويت لحزب الليكود في انتخابات الكنيست، في مقابل استيعاب أفراد من عائلاتهم ونقلهم من إثيوبيا إلى إسرائيل. لكن على رغم ذلك، فإن يهود الفلاشا يتم التعامل معهم على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية.

وتقول "توما" إن الحكومات الإسرائيلية "مبينة على الاستفادة من التناقضات داخل المجتمع الإسرائيلي. وقد رأينا ذلك في السابق عندما كان يتم استغلال اليهود الشرقيين بنظرة فوقية وبتعالٍ وقمع مستمر، ولكن عندما تأتي الانتخابات يتم تهويدهم قانونياً ليصبوا في صالح اليمين الإسرائيلي"، مضيفة: "الأمر ذاته يحدث مع اليهود الفلاشا القادمين من إثيوبيا، فخلال الأيام العادية لا يصبحون منسيين فقط، وإنما تتم معاملتهم بمقعٍ وعنصرية".

"السياسيون الإسرائيليون باتوا خطرا على إسرائيل ووجودها، بل إنهم أكبر خطر تواجهه الدولة حاليا"، حسب ما يرى الزميل غير المقيم بالمعهد الأطلنطي للأبحاث والدراسات المسؤول السابق بديوان رئاسة الوزراء الإسرائيلي شالوم ليبنر.

ويقول ليبنر في مقال نشرته صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، إن "بقاء نتنياهو في السلطة أهم من الحفاظ على ثقة المجتمع في مسؤوليه، وإن الحفاظ على المكاسب السياسية أهم من تفادي الأضرار الفادحة التي تعود على المواطن الإسرائيلي".

ويضيف ليبنر، أنه على سبيل المثال "فضّل السياسيون الإسرائيليون إنفاق 3 مليارات دولار على الانتخابات الثلاثية التي جرت على مدار العام الماضي، بدلا من تقديم تنازلات والتوصل لاتفاقات لتشكيل الحكومة، وتوفير تلك المبالغ الهائلة لإنفاقها على الأولويات التي تهم المواطنين مثل إنشاء فصول دراسية جديدة بالمدارس لسد العجز الحالي، أو إنشاء مستشفيات جديدة لمواجهة أي نقص في الرعاية الصحية الإسرائيلية". واتهم ليبنر حكومات نتنياهو المتعاقبة بأنها "لم تكن حكومة خدمات للمواطنين وإنما حكومة خدمات لنفسها".

Google News تابعوا أخبار الشرق عبر Google News

نستخدم في موقعنا ملف تعريف الارتباط (كوكيز)، لعدة أسباب، منها تقديم ما يهمك من مواضيع، وكذلك تأمين سلامة الموقع والأمان فيه، منحكم تجربة قريبة على ما اعدتم عليه في مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك تحليل طريقة استخدام موقعنا من قبل المستخدمين والقراء.