رحل في باريس، الخميس، الشاعر والأديب اللبناني الفرنسي جوزيف صايغ عن 91 عاماً، بعد أن رصّع قصيدته الموزونة بالفلسفة، ونحت لغته الأصيلة من كلمات مقدّسة، وعشق العربية، والحب، والحياة.
وشُغل ابن مدينة زحلة (شرق لبنان) منذ مراهقته بالفلسفة، معتبراً أن "الشعر يأتي منها، ويذهب إليها، ولا يمكن أن ينهض إلا إنطلاقاً منها"، وبهذا المعنى هو من أتباع الشاعر الفرنسي بول فاليري. نحت الشعر والنثر، وكتب في الحوار والمقالة، كما كتب الذكريات والخواطر.
الكون كلّه كلام
هاجر صايغ مبكراً إلى باريس المدينة المجنونة التي فتنته في ستينات القرن الماضي، قبل أن يؤسس الملحق الأدبي لجريدة "الأنوار" ويرأس تحريره، ثم تولى إدارة تحرير القسم الأدبي لمجلة "الجديد".
وكان عاشقاً للغة وفن الكلمة، معتبراً أن"الكلمة بيت الله.. فهي كل شيء.. أنا أعتبر الكون كله كلاماً، من دون كلام لا كون ولا إنسان، الكلمة العربية التي نكتبها، هي ذات تاريخ وحاضر ومستقبل".
كما شغلته قضايا الإنسان والبحث عن الحقيقة والوجود وحرية التعبير التي دافع عنها في حياته اليومية، وفي أدبه، وعمله كصحافي، ومنتج لبرامج ثقافية في إذاعة "باريس العربية".
فهو يكتب ليقول"ماذا يريد الإنسان.. كل إنسان يريد حريته وراحته النفسية، ومستقبله، وأعتقد أن ما يريده الإنسان باستمرار هو أن يعرف ما هو الحق؟ وما معنى وجوده على الأرض؟ ولماذا؟ وكيف؟ وما هو هذا الكون؟ لماذا ينطلق من السؤال والشك وليس من اليقين؟"، بحسب تصريحه في مقابلة مع صحيفة "الجريدة" الكويتية عام 2008.
نحّات الشعر الموزون
ويعتبر صايغ، بحسب النقاد من أبرز الشعراء في العالم العربي، خصوصاً الذين استطاعوا تطويع الشعر الحديث، ليكون موزوناً مقفى في أبهى حلّله. كما حصل على وسام ضابط الفنون والآداب من وزارة الثقافة الفرنسية.
وترك الشاعر اللبناني الفرنسي وراءه 15 ديواناً شعرياً منها "قصور في الطفولة" عام 1964، "المصابيح ذات مساء" عام 1972، "ثلاثيات" 1984.
كما ألف عدداً من الكتب الفكرية مثل "المجرّة والحروف" و"وطن المستحيل" (يندرج ضمن أدب المقالة)، و"حوار مع الفكر الغربي"، وهو يندرج ضمن الكتب الحوارية مع عشرات المفكرين الغربيين، فهو يعتبر أن "الحوار احتكاك بين مزاجين وفكرين: فإمّا أن يصادف الشرارة التي تنيره، بل تلهبه، أو يسقط في البرودة والتسطح".
وكان أول كتبه "سعيد عقل وأشياء أخرى"، الذي خطّ فيه مسيرة معلّمه الأول وابن مدينته ومثاله الأعلى.
النثر ليس شعراً
لكن درّة كتبه الذي شكّل مفارقة في إنتاجاته الأدبية، هو "كتاب آن كولين" (1973) الذي ينتمي إلى أدب النثر الفني. مع العلم أنه "كان في بداية مسيرته ضد قصيدة النثر، بل اعتبر أن النثر ليس شعراً، وليس أقل أهمية من الشعر"، كما قال أستاذ الفلسفة، ومدير دار النهار سابقاً الدكتور فارس ساسين لـ"الشرق"، مشيراً إلى أن صايغ لطالما اعتبر أن النثر يحتاج إلى الموسيقى، والوزن، والقافية، لنقول إنه شعر". فقد تغنّى بشعر الصايغ رائدو الشعر العربي مثل الراحلين أنسي الحاج، ويوسف الخال، حتى إن نزار قباني قال له عندما أصدر "كتاب كولين": "هذا الكتاب ليس له مثيل، شعرك ونثرك أهم من حرب 1973".
المفردة الأرستقراطية والجملة المنحوتة
وفي هذا السياق، قال الشاعر اللبناني جوزيف عيساوي لـ"الشرق": "كما أن مَثلُه الأعلى الأدبي سعيد عقل عارضَ جوزيف الصايغ قصيدة النثر، كما أسمتها جماعة مجلة (شعر) في ترجمة بالغة الخطأ، والالتباس لعبارة بودلير "الشعر بالنثر"، ولو أن عمله الشعري الأبرز كان "كتاب آن-كولين كتبه لها جوزيف الصايغ".
وأكد عيساوي أن "الصايغ لم يعتبر "كتاب آن كولين" شعراً رغم أنه ضمّه إلى اعماله الشعرية الكاملة لدى دار النهار، مشيراً إلى أن مؤلفاته الشعرية وديواوينه الباقية لم يخرج فيها عن الوزن والقافية، بلغة رمزية، وبلاغة هي سليلة الكبار من أبي تمام إلى أمين نخلة، وسعيد عقل".
ورأى عيساوي أن "قصيدة جوزيف صايغ حافظت على المفردة الارستقراطية، والجملة المنحوتة، كرخام أندلسي في قصر الحمراء، على أناقة صنعته، ودخول مواضيعه إلى (حانات باريس المحرّمة) و(الأفيونيين)، والعوالم السفلية للعاصمة الفرنسية". أما "المعاني فواضحة كشمس مدينته زحلة"، كما يصفها.
وأضاف: "بينما استطاع موريس عواد مثلاً الاستقلال في قصائد عن جماليات عقل، وكذلك الأخوان رحباني، حاول الصايغ أن يفعل ولعله نجح في كتابه الذي لم يعتبره شعراً، ولعله لو أكمل التجربة انطلاقاً منه لاختطّ ربما شعريّته الخاصة، ولو أن له في مجموعة "ثلاثيّات"، وسواها قطعاً شعرية تضاهي قصائد صديقه و"شيخه" الذي وضع كتاباً عنه "سعيد عقل وأشياء الجمال".
برحيل الصايغ قال عيساوي: "وداعاً لآخر شعراء تيّار في تمجيد (الفنّ للفن) أو (الشعر للشعر)، وإعلائه على الواقع والحياة والذات غير العاشقة، في قلقها وهمومها ويوميّاتها ومآزقها المختلفة. تيار أنجز ما أنجز من تحف الرخام الناصع، المجلّى، وهو أفل قبل 5 عقود على الأقل".
رؤى غربية حديثة بقوالب عربية
أما الشاعر والناقد سلمان زين الدين فوصف صايغ بـ "الشاعر الكبير من رعيل سعيد عقل". واعتبر أنه "شاعر أصولي يلتزم البحور الشعرية، ويؤمن بأن لهذه البحور طاقة كبيرة على استيعاب الرؤى الحديثة، وأنها لا يمكن أن تستنفد على الإطلاق".
وأشار زين الدين إلى أنه على "مدى 15 مجموعة شعرية كتبها في حياته الشعرية، التزم صايغ دائماً الوزن والقافية واللغة العربية الأصيلة، واستطاع أن يُثبت أن هذه اللغة والبحور العربية تستطيع استيعاب الرؤى الحديثة بامتياز".
وأفاد بأن صايغ "كان يميل إلى الصناعة في شعره، فهو أشبه بنحّات وقصائده أشبه بمنحوتات شعرية جميلة تُفرد للجمال والفن حيّزاً كبيراً في تضاعيفها وحواشيها".
وتابع زين الدين: "من هنا فإن رحيله اليوم خسارة للشعر العربي، وبرحيله يشغر مكان كان وقفاً عليه في المشهد الشعري العربي، إضافة إلى كونه شاعراً، فهو كتب في حقول معرفية كثيرة، منها النثر الفني، وأنتج رائعة (آن-كولين) التي ترقى إلى مستوى الشعر، إن لم تتجاوزه في أحيان كثيرة".
لكن أهمية جوزيف صايغ، بحسب زين الدين، تبقى أنه "شاعر كبير أصولي استطاع أن يكون أميناً للأوزان، والبحور العربية، وأن يُجدّد من خلال هذه الأوزان بدليل أنه كتب القصيدة (باريس) و(الديوان الغربي) جراء إقامته في الغرب، واصطدامه به، واستطاع في المجموعتين أن يعبّر عن الرؤى الغربية الحديثة بالقوالب العربية الممثلة بالبحور الشعرية".