تحدث الرئيس الأميركي جو بايدن بجلاء في خطابه الأول أمام الكونغرس، الأربعاء، عشية اليوم المئة لتنصيبه، عن برامج جديدة ضخمة ستُحدث تحوّلاً في الدور الذي تؤديه الحكومة في حياة الأميركيين، معتبراً أن مستقبل الولايات المتحدة بات على المحك.
وجاء خطاب بايدن في خضم أزمات صحية واقتصادية يواجهها منذ تنصيبه، مستدركاً أن رسالته تجاوزت مجرد تخليص بلاده من فيروس كورونا المستجد، أو استعادة الأميركيين وظائفهم، إلى وضع أعضاء مجلسَي النواب والشيوخ أمام سؤال وجودي، بشأن دعواته إلى إنفاق تريليونات الدولارات، لتمكين الديمقراطية الأميركية من تجاوز هذه الأزمات.
كذلك كان خطاب بايدن مفعماً بالرمزية، بدءاً من حضور جمهور محدود تحسّباً لكورونا، وصولاً إلى جلوس امرأتين وراءه أثناء إلقائه كلمته، للمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة.
"صبر سياسي"
ولفتت شبكت "سي إن إن" إلى 5 مسائل في خطاب الرئيس الديمقراطي، أولها أنه يستعجل تنفيذ برنامجه بعد مسيرة سياسية في الكونغرس تجاوزت 40 سنة، ومحاولتين فاشلتين لترؤس الولايات المتحدة.
وتحدث الشبكة عن "درجة غير عادية من الصبر السياسي" الذي يتمتع به بايدن، مضيفة أنه لم يعتذر عن تمريره خطة تحفيز قيمتها 1.9 تريليون دولار، من دون دعم الجمهوريين، في الأسابيع الأولى من رئاسته، بل استعجل المشرّعين إقرار مشاريع قوانين جديدة.
ولفت بايدن إلى "نقطة تحوّل تاريخية"، مضيفاً: "علينا أن نفعل أكثر من مجرد أن نعيد البناء. علينا إعادة البناء بشكل أفضل". وأشار إلى رغبته في العمل مع الجمهوريين، قائلاً: "أود أن أقابل الذين لديهم أفكار مختلفة.. لكن بقية العالم لا تنتظرنا".
وأشارت "سي إن إن" إلى أن جائحة كورونا زادت رغبة الأميركيين في نيل مساعدات حكومية، مضيفة أن جهود التطعيم التي أشرف عليها بايدن ساهمت إلى حد كبير في تراجع الوباء.
ولكن يمكن أن تؤدي زيادة مستمرة في أعداد المهاجرين، واضطرابات بشأن ممارسات الشرطة، وارتفاع أسعار النفط، إلى تراجع شعبية الرئيس قبل بدء الدورة الانتخابية للكونغرس بشكل جديّ، إذ يُرجّح أن يكون الجمهوريون أقل استعداداً للتعاون مع الإدارة الديمقراطية، لاسيما أن الرؤساء في ولايتهم الأولى لا يحققون عادة نتائج جيدة في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس.
دور أكبر للحكومة
واعتبرت "سي إن إن" أن خطاب بايدن وولايته حتى الآن تميّزا بممارسة الحكومة دوراً أكبر يمكن أن يحسّن حياة الأميركيين، إذا عملت بشكل صحيح. ولفتت إلى أن ذلك يتعارض مع توجّه راسخ منذ عقود لدى الحزبين نحو الحكومات المصغرة والدولة الأقل تدخلاً في شؤون مواطنيها.
وقال بايدن: "علينا أن نثبت أن الديمقراطية لا تزال فعالة، وأن حكومتنا لا تزال فعالة، ويمكنها أن تفي بوعودها للشعب". وأشار إلى جهود اعتبر أنها تبرز قيمة الحكومة، مثل حملات التطعيم ومبادرات إيجاد فرص عمل.
وذكّرت الشبكة بإعلان الرئيس الديمقراطي السابق بيل كلينتون، في خطاب "حالة الاتحاد" عام 1996، أن "حقبة الحكومة الكبرى ولّت". متحدثاً من على المنبر ذاته، بعد ربع قرن، دافع بايدن عن توجّه معاكس مفاده أن الوقت حان لعودة الحكومات الكبرى، وإثبات أنها لا تزال ذات جدوى.
تبدّل في مزاج الأميركيين
وأشارت "سي إن إن" إلى أن بايدن يسعى إلى تأمين نحو 6 تريليونات دولار للإنفاق الجديد، بما في ذلك خطة بقيمة 1.8 تريليون دولار، اقترحها الرئيس، الأربعاء، لدعم التعليم ورعاية الأطفال والإجازات العائلية مدفوعة الأجر؛ وهذا يمثل رهاناً هائلاً على قدرة الحكومة على تسوية أكثر المشكلات تعقيداً.
ويواجه بايدن أزمة صحية تحدث مرة كل جيل وانهياراً اقتصادياً، ساهما بقوة في تغيير آراء الأميركيين بشأن قدرة الحكومة على العمل لأجلهم؛ ولكنه استفاد في الوقت ذاته من تبدّل وجهات النظر بشأن ملفات بعيدة المدى، مثل الاحتباس الحراري وإصلاح العدالة الجنائية، والتي ستتطلب تدخلاً حكومياً لتحقيق نتائج يتطلع إليها مزيد من الأميركيين.
وأظهر استطلاع للرأي أعدّته شبكة "إن بي سي نيوز" أن 55% من الأميركيين رأوا أن على الحكومة "أن تفعل المزيد من أجل حل المشكلات"، مقارنة بـ 41% اعتبروا أنها تفعل الكثير.
استحالة تجاهل كورونا
لفتت "سي إن إن" إلى أن فيروس كورونا، الذي كان جزءاً مهماً من خطاب بايدن، يشكّل أبرز تحدٍّ يواجهه، وهو ملف يعتقد الرئيس ومستشاروه أنه سيكون حاسماً بالنسبة إلى عهده.
وأضاف الموقع أن المشهد في الكونغرس، الأربعاء، كان تذكيراً دائماً بالأزمة المستمرة، إذ لم يكن عدد المشرّعين كبيراً أثناء سماع الخطاب الرئاسي، وغاب الضيوف؛ كما أن نائبة الرئيس كامالا هاريس ورئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي اللتين جلستا وراء بايدن، كانتا تضعان كمامة.
وحملت رسالة بايدن تفاؤلاً واضحاً بقوله: "التقدّم الذي أحرزناه في الأيام المئة السابقة، ضد أحد أسوأ الأوبئة في التاريخ، هو أحد أعظم الإنجازات اللوجستية التي شهدتها بلادنا".
لكن ملاحظاته عكست مخاوف داخل الإدارة بشأن أميركيين متقاعسين عن تطعيم أنفسهم. وتحدث الموقع عن أسوأ سيناريو يخشى من خلاله مسؤولون صحيون أن تعجز الولايات المتحدة عن تحقيق مناعة واسعة، إذا امتنع عدد كبير من الأميركيين عن تلقي اللقاح.
رمزية السيدتين وراء الرئيس
حفل الخطاب برموز مرئية في قاعة الكونغرس، أكثرها تاريخية مشهد جلوس هاريس وبيلوسي وراء بايدن في المقعدين المخصصين لنائب الرئيس ورئيس مجلس النواب. وقال بايدن في مستهل كلمته: "السيدة رئيسة مجلس النواب، السيدة نائبة الرئيس. لم يقل رئيس هذه الكلمات سابقاً من على هذا المنبر، وحان الوقت" لذلك.
وقالت بيلوسي قبل خطاب الرئيس: "إن جلوس امرأتين وراءه أثناء خطابه أمر مثير جداً. تلقيت مكالمات من كل أنحاء العالم. الجميع ذكروا أنهم متحمسون لمشاهدة" هذا الأمر.
وأشارت "سي إن إن" إلى أن العدد الضئيل للحضور في قاعة مجلس النواب ذكّر أيضاً بمحاولة أنصار للرئيس السابق دونالد ترمب اقتحام مبنى الكونغرس في 6 يناير الماضي، لتجنب إعلان فوز بايدن في انتخابات الرئاسة.
وتطرق بايدن إلى ذلك في خطابه، قائلاً: "بينما نجتمع هنا الليلة، تبقى صور الهجوم العنيف لغوغاء على الكابيتول وتدنيس الديمقراطية، حيّة في أذهاننا. تعرّضت حياة أقراد للخطر وخسر بعضهم حياته، وتجلّت الشجاعة في أعظم صورها. شكّل التمرد أزمة وجودية واختباراً لمدى قدرة ديمقراطيتنا على تجاوز ذلك، ونجحت في الأمر".
رسالة إلى العالم
كان الأميركيون محط اهتمام بايدن في الأيام الأولى لرئاسته، ولكنه لم يُخفِ أن جهوده في الداخل تستهدف توجيه رسالة إلى العالم، وخصوصاً الصين، تفيد بخطأ أي تصورات بشأن تراجع الولايات المتحدة.
وذكرت "سي إن إن" أن الرئيس الأميركي سمّى نظيره الصيني شي جين بينغ ثلاث مرات خلال خطابه، متحدثاً من خارج النص المكتوب، ووصفه بأنه "يسعى جدياً إلى أن تصبح بلاده الأكثر أهمية في العالم".
وصاغ بايدن برنامجه بالكامل بوصفه معركة بين الديمقراطية والاستبداد، وقال في ختام كلمته: "لن يفوز المستبدون بالمستقبل، بل ستفوز أميركا".
وأشارت "سي إن إن" إلى أن السياسة الخارجية تكون عادة مسألة ثانوية في خطاب "حالة الاتحاد"، ولم يكن بايدن استثناء من هذه القاعدة.
وتطرق خطاب الرئيس إلى قراره سحب القوات الأميركية من أفغانستان، بحلول 11 سبتمبر المقبل، والتنافس مع الصين، والبرنامجين النوويين لإيران وكوريا الشمالية، والعلاقات مع روسيا.
وأشار إلى أنه تحدث إلى نحو 40 زعيماً في العالم وأبلغهم بأن "أميركا عادت". واستدرك أنهم سألوه غالباً: "نرى أن أميركا عادت، ولكن إلى متى؟". وتابع بايدن: "علينا أن نُظهِر ليس فقط أننا عدنا، بل إننا عدنا لنبقى".