
احتفلت وزارة الثقافة المصرية قبل أيام، (15 أكتوبر) بالذكرى الـ219 لميلاد "رائد التنوير" رفاعة الطهطاوي، وهو اليوم الذي تم اختياره يوماً للمترجم المصري.
وجاءت المناسبة هذا العام وسط أجواء من الحفاوة بالترجمة، كطوق نجاة وجسر مهم للعبور إلى النهضة الثقافية المنشودة في منطقتنا العربية، ومحاولة لسد الفجوات العلمية، التي تقف بيننا وبين هذا العالم، الذي نطالع أخباره ونقاشاته وقضاياه على الشاشات.
من هذا المنطلق، تحتفي "الشرق" بصاحب أكبر مشروع نهضوي مصري في القرن التاسع عشر، الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي (1801- 1873)، عبر تقديم أوجه جديدة بعيدة من تلك المتداولة حول حياته.
المفكر والباحث دكتور جابر عصفور، وزير الثقافة المصرية الأسبق، قال لـ"الشرق"، إن "رفاعة الطهطاوي كان لديه مشروع متكامل لدولة مدنية، ديمقراطية، على كل المستويات، القانون، والعلم، حتى على المستوى الخاص بالمرأة"، لافتاً إلى أنه "كتب في جميع المجالات الدستور والثورة الفرنسية، والعلوم الطبيعية والهندسة، وغيرها".
الترجمة المستنيرة
بدأ رفاعة الطهطاوي حياته دارساً للفقه والدين، في حلقة إمامه وأستاذه الشيخ حسن العطار، الذي رشحه للسفر إماماً لـ40 مبتعثاً، أرسلهم حاكم مصر، محمد علي باشا، للدراسة في فرنسا. ولم يكن عمره حينها قد تجاوز الـ21 عاماً، إلا أن الطهطاوي انبهر بالحياة الأوروبية، وتحول إلى دارس للفرنسية، ومن هنا انطلقت شرارة حلمه بنقل مفردات النهضة الحديثة في أوروبا إلى القاهرة.
الرئيس الأسبق للمركز القومي للترجمة، الدكتور أنور مغيث، قال لـ"الشرق" إن "الطهطاوي لم يكن مجرد مترجم أو ناقل للكلام، إذ اختار في كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) أن يترجم الدستور الفرنسي، وأحداث الثورة الفرنسية، وقيمها الأساسية، ما جمل دلالة كبيرة حول انبهاره بنموذج الدولة الحديثة، كما وصف في الكتاب ذاته الدستور الفرنسي بأنه عقد اجتماعي لم يعرفه المصريون في تاريخهم".
وتابع: "إضافة الطهطاوي الحقيقية أنه أسس للاعتماد الثقافة العربية على معيار الحقيقة، والتجربة. وبناء عليه، ترجم كتباً في الجغرافيا والطبيعة والفلسفة".
بدأ الطهطاوي مشواره مع الترجمة باختيار الكتب لأغراض تعليمية، ككتب الطب والهندسة، لكن سرعان ما توسع في ترجمة الفكر الغربي، والكتب التي تتضمن حقائق تخالف الفهم السائد في الثقافة العربية في حينه، مثل "مدخل للجغرافية"، الذي يقول إن الأرض كروية، وكتب فيه أنه حرص على وضع الترجمة حفاظاً على الأمانة العلمية. إذ كانت المدارس وقتها تكتفي بتدريس مقدمات في الهندسة والأدب والفقه والدين تجنباً لهذا الصدام.
وأشار مغيث إلى أن ما تقدّم "فتح الباب لترجمة فلاسفة كبار مثل كانت وهيغل في ما بعد، ودراستهم باستفاضة، وكان الاعتقاد السائد يقول بأن الاطلاع على هذا النوع من الكتابات لا بد من أن يقتصر على العلماء فقط.
وأضاف: "لم يهتم الطهطاوي بتصحيح المفهوم العلمي، ولم يسعَ إلى التوفيق بينه وبين المفهوم الديني، بل حيّد خلفيته الفقهية والدينية، وقدم للقارئ حقائق علمية أسست لعلوم كثيرة وفهم أوسع".
من جانبه، أوضح الدكتور جابر عصفور أن فكرة الطهطاوي عن الترجمة تجلّت في "أن يترجم ما نعرفه وما لا نعرفه، أما الاختيار فمسألة أخرى"، لافتاً إلى أنه "نقل كل ما رآه من حضارة، في حين عارضه فقهاء بلده المنغلقون وقتها".
وعلى الرغم من فكر رفاعة وخطواته شديدة الاتساع، فإنه آثر العمل بصمت ولم يشتبك في معارك فكرية في شأن يمكن ترجمته وما لا يمكن ترجمته.
الدستور
في زمن الطهطاوي، كانت طريقة الحكم في مصر، مختلفة كلياً عن الأجواء الصاخبة التي كانت تعيشها باريس في أعقاب الثورة الفرنسية. وتزامنت إقامته في فرنسا مع النقاشات الحامية في شأن الحقوق والحريات والمساواة، وترك ذلك أثراً عميقاً، في كتابات رفاعة واختياراته في الترجمة.
وفي السياق، قال أستاذ التاريخ في "جامعة القاهرة" الدكتور محمد عفيفي، إن "المحاكم الشرعية كانت منتشرة في مصر في حينه، ولكن المصريين عرفوا الدستور والقوانين الحديثة، التي عرّفها في كتابه (تلخيص الإبريز)، الذي اشتهر على أنه الوثيقة التي تضم المعايير الأساسية للحكم وتقوم على أساس فكرة المواطنة والمساواة وغيرها من المفاهيم الحديثة، وفي ذات الوقت قائمة على الحرية والإخاء والمساواة".
تحرير المرأة
وفي وقت اتفق الجميع على إسهامات الطهطاوي في مجالات الترجمة وتبنيه مشروعاً نهضوياً كبيراً، فإن موقفه من المرأة كان شديد الالتباس، خصوصاً مع انتشار وثيقة زواجه التي كتب فيها تعهداً على نفسه ألا يتزوج على زوجته، أو يتخذ دونها جارية أو رفيقة، وهي الوثيقة التي استند عليها مؤيدو موقف رفاعة التقدمي من المرأة وإقراره بحقوقها.
يقول جابر عصفور: "كان الطهطاوي متحرراً أكثر من الليبراليين، فما كتبه لزوجته في وثيقة زواجهما لا يمكن ان يصدر إلا عن شخص متحرر". وأوضح أن الطهطاوي كتب في بعض كتبه أن "الخلط في مشكلة النساء جاء من أننا خلطنا بين الزي الخارجي والأخلاق، فالمرأة تقاس بأخلاقها، ويجب عدم التشريك في المحبة".
على الجانب الآخر كشف محمد عفيفي إن، "قضية المرأة لم تكن مطروحة على جدول أعمال التنوير إلا بعد وفاة الطهطاوي بنحو 100 عام". وقال: "لقد كان رفاعة ابن عصره، وكان رائداً لا غبار عليه".
وتابع: "هذا العقد (عقد زواج الطهطاوي) هو بمثابة انعكاس لسلوكه الفردي، فهو ليس ثرياً شرقياً يتملك النساء ويعدد الزوجات، إنما هو رجل أحب زوجته وهذا النص هو نوع من الاحترام والتكريم". وأضاف: "صحيح أن ما قام به شكّل ظاهرة فريدة من نوعها، لأن زملاءه لم يسلكوا السلوك ذاته، لكن الحقيقة أن هذه الوثيقة لا تختلف عن عشرات الوثائق الموجودة في المحاكم الشرعية، والتي تسبق الطهطاوي بعقود".
من جهته، رأى أنور مغيث أن "موقف الطهطاوي كان ملائماً لعصره، إذ يتبنى وجهة نظر أقرب إلى وجهة نظر المفكر الفرنسي جان جاك روسو إلى المرأة، الذي يرى ضرورة تعليمها، لكن مع تقييد ذلك بالمجالات التي تتصل بتربية الأطفال والعناية بهم".
حماية الآثار
قد لا يعلم كثيرون منا أن رفاعة الطهطاوي هو المؤسس الأول لفكرة إنشاء متحف للآثار المصرية، فقد انتبه خلال زيارته إلى أوروبا إلى ولع الأوروبيين بدراسة علم المصريات والآثار، خصوصاً أنه احتك ببعض كتبة كتاب "وصف مصر"، بحسب ما أكده أنور مغيث.
يقول أستاذ التاريخ: "تعرف الطهطاوي على فكرة المتاحف في فرنسا، والنظرة إلى الآثار كجزء من التراث القومي، والتعرف على علم المصريات، وإدراك القيمة الحضارية لها، فكان أول من خصص له محمد علي باشا حديقة الأزبكية لتأسيس الأنتقخانة، لعرض وحفظ الآثار المشروع الذي تطور فيما بعد إلى المتحف المصري".
أول مجلة للأطفال
حين نتحدث عن رفاعة الطهطاوي، لا يغيب دوره في تأسيس أول مجلة ناطقة باللغة العربية وهي "الوقائع المصرية". وفي هذا السياق، قال محمد عفيفي لـ"الشرق": "في ذلك الوقت، كان رفاعة وغيره من المبعوثين قد رأوا الصحافة في فرنسا، وحين عاد، كانت مصر تريد أن تنشر مجلة للقوانين والمنشورات، سميت الوقائع المصرية، لكن رفاعة طورها بحيث يمكن أن تتضمن مقالات توعوية". وتابع: "كانت بداية متواضعة، لكنها شكّلت الأساس لنشأة المجلات والصحف في الوطن العربي".
إلى ذلك، لعب الطهطاوي دوراً أكثر تقدماً في مجال الصحافة، إذ أسس أول مجلة للأطفال في المشرق العربي. وهو الإصدار الذي رأى أنور مغيث أنه كان أهم بعشرات المرات من الوقائع المصرية، ففيه كان الطهطاوي يؤلف الأناشيد التعليمية التي توزع على كل المدارس بشكل أسبوعي، واستعار قصص كليلة ودمنة، وبعض قصص التراث التي تم إرفاقها برسومات، واستغل هذه الحكايات في تقديم الجانب الأخلاقي"، لافتاً إلى أن "كل ذلك كانت قبل الطهطاوي مجرد تراث شفاهي تحكيه الجدات للأطفال، حوّله رفاعة إلى تراث مكتوب مبسط للأطفال".