هل تستحضر واشنطن "دبلوماسية كيسنجر" لإبعاد موسكو عن بكين؟

time reading iconدقائق القراءة - 16
الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينغ خلال اجتماعات مجموعة "بريكس" في برازيليا - 14 نوفمبر 2019 - REUTERS
الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينغ خلال اجتماعات مجموعة "بريكس" في برازيليا - 14 نوفمبر 2019 - REUTERS
دبي -إيلي هيدموس

تثير العلاقات الشائكة، بين الولايات المتحدة من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى، فرضيات بشأن كيفية تحسينها، وتوصّل الدول الثلاث إلى حدّ أدنى من التوافق بشأن الملفات الجوهرية في العالم، بما يمكّنها من الحفاظ على مصالحها الأساسية.

ثمة من يعتقد أنه بإمكان أن تشكّل موسكو حلقة وصل بين بكين وواشنطن، بعد تفاقم خلافاتهما، وتحوّل الصين إلى منافس قد يستحضر التهديد الذي مثّله الاتحاد السوفيتي، في المخيّلة الأميركية، قبل انهياره، الأمر الذي قد يستدعي الخيارات الدبلوماسية التي سنها هنري كيسنجر في سبيعينيات القرن الماضي، حين أسس "سياسة احتواء" للصين في مواجهة التهديد السوفيتي آنذاك.   

لكن آخرين ينطلقون من تراكم الخلافات مع روسيا، لا سيّما في السنوات الأخيرة، لطرح فكرة السعي إلى إثارة شرخ بين موسكو وبكين، تستفيد منه واشنطن للتقرّب من روسيا، بما يحقق مصالحهما، ويمكّنها في الوقت ذاته من مواجهة التنين الآسيوي، بعدما تحوّل "نداً" للولايات المتحدة.

وكرّر مسؤولون في إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، استعداد واشنطن للانخراط في حوار مثمر مع موسكو، ملوّحين في الوقت ذاته بسوط العقوبات، وبتدابير غير محددة، رداً على سياسات "هجومية" يعتبرون أنها تنتهجها.

تعقيدات بين واشنطن وبكين

تصريحات وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، لصحيفة "لا ريبوبليكا" الإيطالية، لم تشذّ عن هذه القاعدة، بقوله إن الولايات المتحدة تأمل في علاقات "مربحة وأكثر استقراراً مع روسيا"، مستدركاً: "سنردّ، إذا واصلت روسيا مهاجمتنا، أو التصرّف كما فعلت مع هجمات سولار ويندز (السيبرانية)، والتدخل في انتخاباتنا، وقمع معارض الكرملين أليكسي نافالني".

وبدا تشخيص بلينكن للعلاقات مع الصين مثيراً للاهتمام، بقوله إنها "الأكثر تعقيداً"، مضيفاً: "أعتقد أننا نرى جوانب عدائية في العلاقات، وجوانب تنافسية، وأخرى تعاونية. لا توجد كلمة واحدة يمكن أن تحدّدها".

وتطرّق إلى علاقات الاتحاد الأوروبي مع الصين، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة لن تطالب أيّ دولة بأن تختار بين بكين وواشنطن. واستدرك: "صحيح أننا نكون أكثر فاعلية بكثير، إذا عملنا معاً" بشأن بكين.

تصريحات الوزير الأميركي تأتي بعد يوم على تشديد نظيره الإيطالي، لويجي دي مايو، إثر لقائهما في روما، على أن العلاقات الاقتصادية لبلاده مع الصين "لا تُقارَن إطلاقاً ولا تؤثر في تحالف القيم الذي يربطنا بالولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي"، علماً أن إيطاليا كانت أول بلد في مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، ينضوي في "مبادرة الحزام والطريق" الصينية للبنى التحتية والتجارة، كما أفادت وكالة "فرانس برس".

"الناتو" وروسيا والصين

لقاءات بلينكن في روما تزامنت مع إعلان روسيا والصين تمديد معاهدة الصداقة بينهما، المُبرمة في عام 2001، لخمس سنوات، علماً أن العمل بها ينتهي في فبراير 2022.

وفي ختام لقاء افتراضي، بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جينبينغ، نشر الكرملين إعلاناً مشتركاً، نقل عن بوتين قوله إن "التنسيق" بين موسكو وبكين "يُرسي استقراراً في الشؤون الدولية، في سياق الاضطرابات الجيوسياسية المتزايدة، وتفكيك اتفاقات الحدّ من التسلّح، وزيادة احتمال نشوب صراع في أنحاء مختلفة من العالم"، كما أفادت وكالة "رويترز".

أما شي جين بينغ فاعتبر أن "البشرية تواجه أخطاراً متعددة"، مشدداً على أن "التعاون الوثيق الصيني - الروسي يؤمّن طاقة إيجابية في المجموعة الدولية"، وفق "فرانس برس".

يأتي ذلك بعدما اعتبر قادة "الأطلسي"، خلال قمتهم السنوية في بروكسل أخيراً، أن "الطموحات المعلنة للصين، وسلوكها الحازم، تمثّل تحديات منهجية للنظام الدولي القائم على القواعد".

وكانت تلك المرة الأولى التي يعلن فيها "الناتو"، الذي يركّز على موسكو تقليدياً، ضرورة التصدي للقوة المتنامية لبكين، علماً أن الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرغ، أشار إلى أن علاقة "الأطلسي" بروسيا هي "في أدنى مستوياتها منذ نهاية الحرب الباردة"، مبرّراً ذلك بـ "إجراءاتها العدوانية".

زيارة نيكسون للصين

وإذا كان "الناتو" أضاف الصين إلى لائحة اهتماماته، وجعلها في مصاف روسيا، فإن الدولتين تواصلان تعزيز علاقاتهما، التي اعتبر بوتين أنها بلغت "أفضل مستوى في التاريخ"، خلال لقاء افتراضي مع شي جين بينغ، في مايو الماضي، تحدث خلاله الزعيم الصيني عن "شراكة تنسيق استراتيجية شاملة لعصر جديد".

ثمة اتفاق "شراكة استراتيجية" بين الجانبين، منذ عام 1996، كما أنهيا عام 2004، خلافاً بشأن حدودهما، وطولها 4250 كيلومتراً.

هذه الحدود كانت مسرحاً لصدام "صيني – روسي"، في عام 1969، أوقع قتلى من الجانبين. وإذ تجنّب الطرفان نزاعاً عسكرياً واسعاً، فإن هذا الاحتكاك مهّد لتقارب بين بكين وواشنطن، تجسّد في زيارة سرية لوزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر إلى الصين، في عام 1971، تلتها زيارة تاريخية للرئيس الأميركي الراحل، ريتشارد نيكسون، إلى بكين بعد سنة، التقى خلالها الزعيم ماو تسي تونغ.

بدت تلك الزيارة جزءاً من "سياسة احتواء" انتهجتها الولايات المتحدة إزاء الاتحاد السوفيتي، والتي وضع أسسها جورج كينان، وهو مؤرّخ ودبلوماسي أميركي سابق، حدّد قواعد ذاك النهج، الذي سيستمرّ عقوداً، من خلال برقية طويلة وجّهها إلى وزارة الخارجية في واشنطن، في عام 1946، حين كان قائماً بالأعمال في موسكو.

وفي العام التالي، نشر كينان، باسم "السيد إكس"، مقالاً في مجلة "فورين أفيرز"، يوضح فيه نظريته، مستنتجاً أن "العنصر الرئيس في أي سياسة للولايات المتحدة إزاء الاتحاد السوفياتي، يجب أن تكمن في احتواء على المدى البعيد، صبور ولكن حازم، واحتواء يقظ للميول التوسّعية الروسية".

تحدي بكين لواشنطن وحلفائها

واستلهم مسؤول بارز سابق في الخارجية الأميركية، متابع للشؤون الصينية، برقية كينان، ونشر في الموقع الإلكتروني لمعهد "أتلانتيك كاونسل" (مقرّه واشنطن)، متجنّباً كشف هويته، مقالاً يعتبر أن "التحدي الأكثر أهمية الذي تواجهه الولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين، يتمثل في بروز الصين الاستبدادية بشكل متزايد، بقيادة الرئيس والأمين العام (للحزب الشيوعي) شي جين بينغ".

ولفت إلى أن "بروز الصين، نتيجة حجم اقتصادها وجيشها، وسرعة تقدّمها التكنولوجي، ونظرتها إلى العالم، المختلفة جذرياً عن تلك للولايات المتحدة، تؤثر الآن بعمق في كل المصالح الوطنية الأميركية الرئيسة".

وأضاف أن شي جين بينغ "أعاد الصين إلى الماركسية اللينينية الكلاسيكية، وعزّز (نهجاً) لعبادة الشخصية، شبه ماوي، سعياً إلى قضاء منهجي على خصومه السياسيين". واستدرك أن الرئيس الصيني، عكس أسلافه، "أظهر أنه يعتزم إبراز النظام الاستبدادي للصين، وسياستها الخارجية القسرية، ووجودها العسكري، خارج حدود بلاده إلى العالم بأسره"، منبّهاً إلى أن ذلك يشكّل "تحوّلاً أساسياً في البيئة الاستراتيجية، بالنسبة إلى الولايات المتحدة وحلفائها، والنظام الدولي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة".

واعتبر كاتب المقال أن شي جين بينغ "بات الآن يشكّل مشكلة خطرة للعالم الديمقراطي بأسره"، مشدداً على وجوب أن تركّز استراتيجية واشنطن إزاء بكين، على "خطوط الصدع بين شي ودائرته الداخلية"، وأن تدفع النخب الحاكمة في الصين إلى "استنتاج أنه من مصلحة الصين مواصلة العمل ضمن النظام الدولي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة، بدلاً من إقامة نظام منافس".

"منافس شبه ندّي"

خلال حملته الانتخابية في عام 2020، ميّز بايدن بين روسيا والصين، إذ اعتبر الأولى "خصماً"، والثانية "منافساً".

في السياق ذاته، وصفت أفريل هاينز، مديرة الاستخبارات الوطنية الأميركية، الصين بأنها "منافس شبه ندّي، يتحدى الولايات المتحدة في مجالات متعددة، فيما يضغط من أجل مراجعة المعايير العالمية، بوسائل تفضّل النظام الصيني الاستبدادي".

أما بالنسبة لروسيا، فرجّحت أن تستمرّ في مواجهة مع الولايات المتحدة وحلفائها، مشابهة للحرب الباردة، من خلال ممارسة نفوذ، عبر اتفاقات في التسلّح والطاقة، لتحقيق أهدافها، كما قالت للجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، في أبريل الماضي.

"الجغرافيا الاقتصادية"

في السياق ذاته، اعتبر معهد "راند" الأميركي أن موسكو وبكين تشكّلان تحديات مختلفة للأمن القومي لواشنطن، إذ إن روسيا "ليست منافساً ندياً، أو شبه ندي، بل هي بالأحرى دولة مارقة مسلّحة جيداً، تسعى إلى تقويض نظام دولي لا يمكنها أبداً أن تأمل بالهيمنة عليه". في المقابل، تُعتبر الصين "منافساً ندياً، يريد تشكيل نظام دولي يمكنه أن يطمح للسيطرة عليه".

وأشار المعهد إلى أن "البلدين يسعيان إلى تغيير الوضع القائم"، مستدركاً أن "روسيا فقط هاجمت دولاً مجاورة، وضمّت أراضي محتلة، ودعمت قوات متمردة تسعى إلى فصل مزيد من الأراضي". وأضاف أن موسكو "تغتال خصومها في الداخل والخارج، وتتدخل في انتخابات أجنبية، وتخرّب ديمقراطيات أجنبية، وتعمل لتقويض مؤسسات أوروبية وأطلسية".

في المقابل، "يستند النفوذ المتزايد للصين، إلى حد كبير، إلى تدابير أكثر إيجابية: التجارة والاستثمار والمساعدة الإنمائية. هذه الصفات تجعل من الصين تهديداً غير وشيك، ولكنها تمثّل تحدياً أكبر على المدى البعيد".

ورأى المعهد، إمكانية احتواء روسيا عسكرياً، عكس الصين التي "ستتعزّز هيمنتها العسكرية في شرق آسيا بمرور الوقت، ممّا يرغم الولايات المتحدة على قبول تكاليف وأخطار أكبر، لمجرد تأمين التزامات حالية". ورجّح أن يتمحور "التنافس على زعامة العالم، على الجغرافيا الاقتصادية، لا الجغرافيا السياسية"، وتابع: "في الاقتصاد الجغرافي، بدأ ميزان النفوذ العالمي بين الولايات المتحدة والصين، يتحوّل لمصلحة الصين".

"عدوّ عدوّي صديقي"

ولكن هل يمكن تكرار عملية "ماو – نيكسون"، معكوسة هذه المرة، أي تقارب واشنطن مع موسكو لاحتواء بكين، أو الاستناد إلى روسيا في التواصل معها؟

يطرح "معهد الأمن وسياسة التنمية" (مقرّه ستوكهولم) فرضية "عدوّ عدوّي، صديقي"، مذكّراً باقتراح وزير الخارجية الأميركي السابق، مايك بومبيو، في عام 2020، تأسيس تحالف جديد من الحكومات الديمقراطية، لمواجهة الصين، لم يستبعد انضمام روسيا إليه. لكن الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، نفى الأمر، مؤكداً أن بكين حليفة لموسكو وشريكة لها.

مع ذلك، اعتبر المعهد أن "تحوّلاً في تركيز واشنطن، من موسكو إلى بكين، قد يفيد الكرملين، إذ قد يتيح فرصة لتحسين العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، وحتى صرف انتباه الولايات المتحدة عن النفوذ الروسي المتنامي في أوروبا الشرقية". واستدرك أن ذلك "لا يعني بالضرورة أن روسيا ستصبح حليفة للولايات المتحدة، في ردع تهديد صيني مزعوم"، إذ إن "نظامَيهما المستبدَين متشابهان"، ممّا يتيح "ظروفاً مواتية لتعاونهما في ملفات سياسية مهمة".

كما أن لدى موسكو "اعتماداً اقتصادياً ضخماً" على بكين، إذ إن تبادلهما التجاري نما بنسبة 27.1%، وتجاوز 107 مليارات دولار، في عام 2018، وفق المعهد.

توافق "روسي – صيني"

ولفت "معهد لوي" الأسترالي إلى توافق روسي – صيني غالباً، في "اهتمامات وأجندات" الجانبين، مشيراً إلى أن موسكو ساعدت بكين على تحديث جيشها، بما في ذلك بيعها مقاتلات من طراز "سو-35" وأنظمة صاروخية من طراز "إس-400".

واستدرك أن "تحقيق موسكو توازناً صحيحاً في علاقاتها مع بكين، لن يكون سهلاً"، إذ "تحتاج روسيا بشدة إلى السوق الصينية، من أجل صادراتها من الطاقة والسلع، ممّا يمكّن الصين من إملاء شروط علاقاتهما التجارية". كما أن "التعاون الدفاعي الروسي الموسّع مع الهند، وخصوصاً تأمين معدات عسكرية متقدّمة، قد قلق بكين".

وأضاف المعهد أن روسيا، هي "الشريك الأصغر إلى حد كبير في علاقاتها" بالصين، مشيراً إلى أنها "ستسعى إلى التحوّط من أخطار التبعية، سواء كانت سياسية أو اقتصادية".

وتحدث عن حذر موسكو من احتمال تعزيز بكين نفوذها في الفضاء السوفياتي السابق، ومن نياتها في القطب الشمالي، معتبراً أن التاريخ يستبعد أن تكون علاقاتهما "قائمة على الثقة"، إذ أن ثمة أفراداً في روسيا، بما في ذلك في الجيش، "لا يثقون بقوة الصين وقدراتها المتزايدة". ورأى أن على الولايات المتحدة وشركائها "التعامل بجدية وبشكل مباشر مع روسيا، وتشجيعها على التفكير في أخطار الاعتماد المفرط على جارتها الشرقية"، في إشارة إلى الصين.

في السياق ذاته، استبق السفير الروسي لدى الصين، أندري دنيسوف، القمة التي جمعت بوتين ببايدن في جنيف أخيراً، وسخر من فكرة أن تنأى موسكو عن بكين، سعياً إلى تخفيف التوتر مع الولايات المتحدة، قائلاً: "روسيا أذكى ممّا يعتقده الأميركيون".

اقرأ أيضاً: