من المعروف عن الناخب الألماني أنه لا يحب التغييرات الدراماتيكية إلا ما ندر، وهو ما أثبتته خياراته في انتخابات البوندستاغ وتشكيلة حكوماته منذ 1949 وحتى اليوم، فهي إما تحت قيادة الاتحاد المسيحي الديمقراطي أو الحزب الديقراطي الاشتراكي، بعد أن يتفق أحدهما مع أحد الحزبين الديمقراطيين الأصغر، الديمقراطي الحر أو الخضر، أو أن يتآلف الاثنان لتشكيل حكومة (كما وقع في أعوام 1966، 2005، 2017)، وهو ما يسمى في العادة "الائتلاف الكبير".
لكن استطلاعات الرأي هذه المرة تنبئ بأن المعادلات الحزبية السابقة لن تكفي للحكم وأن أي ائتلاف جديد سيشمل 3 أحزاب، لأول مرة في تاريخ ألمانيا الاتحادية المعاصر.
وإلى جانب النسب المئوية لنتائج انتخابات يوم 26 سبتمبر الجاري، تحدد مساحات التقاطع بين الأحزاب قدرتها على الاتفاق وتشكيل ائتلاف، فما الجوهري وأين التقاطع أو التنافر بين تلك البرامج؟
الترمبية معزولة في ألمانيا
هناك الكثير من الائتلافات الممكنة بعد انتخابات هذا العام وجميعها يستثني اسم "حزب البديل من أجل ألمانيا" اليميني الشعبوي.
وعند النظر إلى برنامجه يتبين أن مساحات التقاطع مع بقية الأحزاب تكاد تكون منعدمة، فهو ينادي بتغييرات راديكالية في سياسة ألمانيا، مثل الخروج من الاتحاد الأوروبي وإيقاف الهجرة وإغلاق الحدود والمطالبة بترحيل عدد كبير ممن وصل ألمانيا، مستخدماً لهجة توصف بأنها "عنصرية حادة" ضد اللاجئين وتحديداً ضد المسلمين في ألمانيا، كما ينادي بإلغاء إجراءات كورونا، والتقليل من أهمية الفيروس، ولا يعتبر أن الإنسان هو من تسبب بأزمة المناخ. وهي طروحات تتقاطع في الكثير من الأحيان مع ما نادى به الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب.
وتنأى بقية الأحزاب، صاحبة الفرص بدخول البرلمان والمؤيدة لأوروبا بقوة، عن هذا الحزب، وترى أنه يمثل منصة لأقصى اليمين ويرتبط بعلاقات مع منظمات يمينية متطرفة.
الاستقرار والدولة القوية
يعوّل الحزبان الشقيقان، المسيحي الديمقراطي / المسيحي الاجتماعي، على الاستفادة من الإرث الذي خلفته 16 عاماً من الحكم المستقر لمستشارتهما أنجيلا ميركل.
وحمل برنامجهما الانتخابي شعار "الاستقرار والتجديد من أجل ألمانيا حديثة". وهما يغمزان من خلال التلويح بالتجديد لاستقطاب كل من كان غاضباً من سياسات ميركل في ملفي الهجرة وكورونا.
لا ينشد الحزبان أي تغيير جذري في السياستين الاقتصادية والاجتماعية، ويعدان بتحسين بعض جوانبها تدريجياً كرفع أجور العمل الأدنى وتقليل العبء الضريبي على أرباح الشركات إلى 25% في حده الأقصى.
وفي ملف البيئة يسعى الحزبان إلى حماية المناخ بما لا يتعارض مع القدرة الاقتصادية للبلاد، فهما يؤيدان خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، لكن دون تحديد سعر محدد أو مرتفع لطن الانبعاثات الغازية ينبغي على الشركات المنتجة دفعه لصالح الخزانة العامة.
وفي مجال الأمن الداخلي يؤكد الحزبان على مفهوم "الدولة القوية" وزيادة عديد الشرطة وأجهزة الأمن وتحسين تجهيزاتها وتوسيع صلاحياتها للقيام بمهامها ضد "الإرهابيين وأعداء الدستور والهجمات السيبرانية أو العصابات العائلية".
عودة إلى قواعده العمالية
لا يجد المرء أي تغيير في السياسة الخارجية في برنامجي طرفي الائتلاف الحاكم حالياً (المسيحي الديمقراطي والديمقراطي الاشتراكي)، فيما يشتد التنافس بينهما على السياسات الداخلية والاجتماعية تحديداً.
يحاول الحزب الديمقراطي الاشتراكي العودة إلى دوره كممثل للعمال والطبقات الفقيرة، فيطرح رفع الأجور الدنيا، ويطالب بتجاوز ما سُمي "هارتس 4" العائد لحقبة حكم مستشاره غيرهارد شرودر قبل أكثر من 16 عاماً، وهي المعونات التي يتلقاها العاطلون عن العمل لفترة طويلة، وتعتبر متدنية ومهينة بسبب إجراءات الحصول عليها. الديمقراطي الاشتراكي الذي خسر من قاعدته كثيراً بسببها آنذاك يريد استبدالها بما يسمى "تأمين الوجود" أو "راتب المواطن".
كما ينادي بفرض ضريبة على ثروات لأغنياء وتخفيف العبء الضريبي على المداخيل الصغيرة والمتوسطة. وفي استطلاع للرأي أجراه "مركز فورسا" قبل أسبوع أعربت أغلبية (27%) عن ثقتها بقدرة الحزب على تحقيق العدالة الاجتماعية، مقارنة بـ 18% لليسار، و11% للخضر، و9% للمسيحي الديمقراطي.
وفي ملف البيئة يقترب الحزب من برنامج منافسه "الخضر"، ولربما حليفه القادم، ويعد بالتسريع في إجراءات الترخيص لمحطات الطاقة الجديدة، ونشر ألواح شمسية على أسقف المدارس والمباني العامة ورفع عدد السيارات الكهربائية إلى 15 مليون سيارة بحلول 2030.
من نادي الصغار إلى الأحزاب المتوسطة
وُلد حزب الخضر، الذي دخل البوندستاغ لأول مرة عام 1983، من رحم الحركة البيئية، وكان لهم الباع الطويل في مكافحة الطاقة النووية والحفاظ على الطبيعة، وهو ما يقر لهم به جزء كبير من المواطنين الألمان.
وبينت دراسة للمركز الاستشاري لمعهد الاقتصاد الألماني (DIWECON) أن برنامجهم الأقدر على الاستجابة لتحدي تغيرات المناخ، وفيه المطالبة بتخصيص 50 مليار يورو سنوياً لإجراء التحول إلى اقتصاد البيئة.
كنهم طوروا في العقود القليلة الماضية أيضاً مقاربات اقتصادية واجتماعية، قريبة من مقاربات الديمقراطي الاشتراكي. طرحوا برنامجهم بشعار "فيه كل شيء" ويمكن أن يقرأ "كل شيء ممكن". وانتقلوا بعد تزايد شعبيتهم، من نادي الصغار إلى نادي الأحزاب المتوسطة.
أما في السياسة الخارجية فيطالبون بإيقاف صادرات التسليح للدول التي يرون أنها تنتهك حقوق الإنسان، كما يطالبون بالتشدد تجاه الصين وروسيا. وفي ملف الهجرة واللجوء فهم من أنصار تسهيل التجنيس، وأكثر انفتاحاً على استقبال ودمج اللاجئين.
بيضة القبّان
الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) هو من المرشحين بقوة للمشاركة في أي ائتلاف حكومي قادم. كان رئيسه كريستيان ليندنر قد عزف عام 2017 عن الانخراط في ائتلاف مع الحزبين المسيحيين والخضر وقال: "من الأفضل ألا تحكم على أن تحكم بسياسة خاطئة".
يبدو أن الناخب قد غفر له عزوفه آنذاك، فبعد خسارات مؤلمة في أعقاب ذلك التصريح، عاد الحزب إلى كسب الأصوات ليتأرجح ما بين 11 و13%.
ينادي الحزب بالحريات الفردية وبتخفيف قيود كورونا وبتحرير القطاع الاقتصادي الخاص وتخفيف أعبائه الضريبية لتبلغ 25% في أقصاها، كما يطالب بخصخصة ما تبقى للدولة من أسهم في شركات البريد أو الاتصالات (دويتشه تيليكوم)، فيما لا يلبي برنامجه البيئي ما تقتضيه أزمة المناخ معولاً في الأساس على السوق لتحديد أسعار الانبعاثات الغازية (DIWECON تصنفه أخيراً على هذا الصعيد).
الخروج من الناتو.. تغيير راديكالي
يطالب حزب اليسار (وريث الحزب الشيوعي السابق في ألمانيا الشرقية) بإلغاء حلف الناتو واستبداله بتحالف أمني جماعي يشمل روسيا، إلى جانب رفضه أي مساهمة ألمانية عسكرية خارج الحدود. وهو في طرحه هذا يستبعد، أو على الأقل، يعقّد إمكانية تشكيل ائتلاف مع الديمقراطي الاشتراكي والخضر، بالرغم من قرب برنامجه من حيث المطالب الاجتماعية من كليهما، كتحسين أوضاع العمال والعاطلين عن العمل بشكل ملحوظ ورفع مخصصات التقاعد، ولا يبتعد عن أطروحاتهما لحماية البيئة، وهو الذي يستمد قوته الأكبر من ولايات شرق ألمانيا الخمس (الشيوعية سابقاً) يطالب بالمزيد من المساواة في العمل وظروف الحياة بين شرق وغرب ألمانيا، الذي لم يتحقق بعد بالرغم من 3 عقود على الوحدة الألمانية.
الأرجح.. ائتلاف الإشارة الضوئية
إمكانية تجديد الائتلاف الحالي مع تغير في منصب المستشارية لصالح الديمقراطي الاشتراكي ومرشحه أولاف شولتز ما زالت قائمة، لكن أرمين لاشيت، رئيس الحزب المسيحي الديمقراطي، أعلن أن حزبه لن يدخل في حكومة يكون فيها الشريك الأصغر.
ومع هامش كبير من التقاطعات البرنامجية بين الديمقراطي الاشتراكي والخضر يغدو تحالفها الأرجح مع حاجتهما إلى شريك ثالث للحصول على الأغلبية المطلقة.
والمرجح أن يكون هو "الديمقراطي الحر" الذي يرمز له باللون الأصفر، والذي سيسعى من خلال مشاركته المحتملة إلى تنصيب نفسه أميناً على مصالح الاقتصاد في ظل ميل الديمقراطي الاشتراكي (يرمز له بالأحمر) للعدالة الاجتماعية والخضر لحماية المناخ.
مثل هذا الائتلاف يسمى في ألمانيا "ائتلاف الإشارة الضوئية"، ولا تبدو ألوانه منفّرة للناخبين... لكن ما زال هناك وقت، الحملة الانتخابية استعرت والأرقام والمواقف قد تتغير.. والناخب هو سيد الموقف حتى يوم الاقتراع.
* كاتب صحافي ومدير "مركز برلين للإعلام"