لا تزال أزمة "صفقة الغواصات" التي خطفتها واشنطن سراً من فم باريس وحرمتها بذلك عشرات مليارات الدولارات تتصاعد بين أطراف القضية الرئيسيّين، إذ تواصل فرنسا التنديد بـ"خيانة وأكاذيب" أستراليا، في وقت تدافع الأخيرة فيه عن قرار الاستغناء عن الصفقة بحجة "حماية مصالحها العليا".
فرنسا التي اتهمت واشنطن بـ"تقويض ثقة حلفائها" و"التسبب بشق الصف السياسي"، اعتبرت على لسان وزير الخارجية جان إيف لو دريان، أن هناك أزمة حقيقية بين الحلفاء الغربيين، وذلك على خلفية التراجع المفاجئ لأستراليا عن العقد الذي أبرمته عام 2016 مع مجموعة "نافال" الفرنسية بقيمة 66 مليار دولار أميركي، ويشمل غواصات تقليدية كان العمل على تصنيعها قيد التنفيذ بالفعل.
تصريحات لو دريان الغاضبة، التي قال فيها أيضاً، إن "الحلفاء لا يتعاملون مع بعضهم البعض بمثل هذه الوحشية"، جاءت بعد يوم من استدعاء فرنسا لسفيريها لدى الولايات المتحدة وأستراليا، في خطوة تحدث للمرة الأولى على الإطلاق، وتُمثل ذروة التوتر الدبلوماسي بين الدول الثلاث.
في المقابل، رمت أستراليا الكرة في ملعب فرنسا، مبررة قرارها بتفضيل الشراكة الثلاثية مع الولايات المتحدة وبريطانيا للحصول على غواصات نووية، بأنها أبلغت باريس حيال مخاوفها المتعلقة بالصفقة قبل أشهر، وقال رئيس الوزراء سكوت موريسون: "لست نادماً على قرار وضع المصلحة الوطنية لأستراليا في المقام الأول".
وبينما يواصل كل طرف تقديم رواية تبدو مناقضة للأخرى، يبقى التساؤل قائماً حول مدى مشروعية الغضب الفرنسي، مقابل حق أستراليا في منح الأولوية لمصالحها "المهددة" من الصين.
"انقلاب أسترالي"
ثمة جوانب عدة، استراتيجية وسياسية واقتصادية، تُحيط بهذه الأزمة غير المسبوقة، فمن ناحية ترتبط "صفقة الغواصات" بالمخاوف من توسع النفوذ الصيني في المحيطين الهادئ والهندي، والذي جعل أستراليا، تندفع باتجاه الولايات المتحدة لرفع مستوى قدراتها العسكرية، ومن ناحية أخرى تعكس الأزمة ما بدا أنها "هشاشة" داخل الحلف المناهض للصين، فضلاً عن الأضرار الاقتصادية التي مُنيت بها فرنسا من "حلفائها" التقليديين.
الجنرال دومينيك ترانكان، الرئيس السابق للبعثة العسكرية الفرنسية لدى الأمم المتحدة، قال لـ"الشرق"، إن أستراليا طلبت من الشركة المصنعة غواصات تقليدية على أن يتم بناؤها في أستراليا، ولذلك كان هناك مهندسون أستراليون في فرنسا يتعلمون كيفية صناعة هذه الغواصات، لكن ما حدث أنها ألغت الصفقة فجأة، واستبدلتها بغواصات نووية أميركية، وهذا "انقلاب على الاتفاق لم تتم مناقشته مع فرنسا".
ويرى ترانكان أنه لو طلبت أستراليا غواصات بدفع نووي "لكانت حصلت عليها، ولا سيما أن فرنسا تملك عدداً منها ولديها القدرة على صناعتها"، إلا أن الاتفاق كان على غواصات تقليدية، وفق طلب أستراليا. وأضاف: "كانبيرا لم تقل أبداً أنها سوف تُغير رأيها بشأن الصفقة".
وفي تعليقه على تصريحات المسؤولين الأستراليين، التي أكدوا خلالها أن كانبيرا كانت صادقة مع فرنسا بشأن مخاوفها وأبلغتها بذلك قبل أشهر، قال ترانكان: "بالطبع كانت هناك دوماً نقاشات حول هذا العقد الضخم للحصول على 12 غواصة بقيمة 56 مليار يورو، لكن مسألة فسخ العقد لم تُناقش من قبل، ولهذا فرنسا ليست راضية عما حدث".
وفيما أكد وزير الدفاع الأسترالي بيتر داتون، عبر تصريحات أطلقها من واشنطن، أن بلاده كانت "صريحة ومنفتحة وصادقة" مع فرنسا بشأن مخاوفها حيال الاتفاق منذ عامين، نفى لو دريان إجراء أي مشاورات مسبقة قبل إعلان إلغاء الصفقة، مندداً بما أسماه "الازدواجية والأكاذيب" التي أحاطت بقرار كانبيرا.
ورجّح الخبير العسكري الفرنسي في حديثه لـ"الشرق"، أن تطالب "نافال" المُهددة بخسائر كبيرة، بتعويضات من أستراليا، معتبراً أن هذه المسألة لن تكون معقدة وسيتم حلّها بيسر، وهو ما ألمحت إليه فعلاً الشركة، بإعلانها بدء المشاورات بشأن تعويضات مع الجانب الأسترالي.
"كانت ستفعل الشيء ذاته"
الغضب الفرنسي، يُقابله ارتياح أسترالي تجاه "الشراكة الرابحة" مع واشنطن، فرغم أنها أكثر تكلفة وربما ستحتاج زمناً أطول لإنجازها، لكنها، كما تؤكد كانبيرا، ستحفظ أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية، في مواجهة الصين، القوة الرئيسية الصاعدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والتي عبرت أيضاً عن غضبها من تحرك كانبيرا الأخير.
مدير معهد الدفاع والأمن في جامعة "غرب أستراليا" بيتر دين، اعتبر في حديث لـ"الشرق"، أن الصعوبة التي تواجهها فرنسا مفهومة، وذلك في ضوء خسارتها عقداً بمليارات الدولارات، حيث يشعر الفرنسيون أنهم تعرضوا لـ"الغدر" نتيجة عدم معرفتهم بأمر إلغاء الصفقة. لكن مع ذلك، يرى دين، أن إبلاغ فرنسا لم يكن ليساعد العملية، التي كانت سرية وحساسة.
وأضاف الأكاديمي الأسترالي، أن "الصفقة مع فرنسا كانت في مأزق أساساً، إذ بات على أستراليا دفع (90) مليار دولار أسترالي (نحو 66 مليار دولار) بدلاً من (50) ملياراً اتّفق عليها الطرفان في البداية. كما تم تأجيل الجدول الزمني لتسليم الغواصات نتيجة بطء الإنجاز، إلى جانب أن الغواصات الفرنسية أقل قدرة من تلك التي ستقدمها الولايات المتحدة. وبحسب رأيه "لو عُكس الوضع، لفعلت فرنسا الشيء نفسه".
الاتفاقية الأمنية بين أستراليا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة مخصصة، كما يقول دين، لنقل المعلومات والتكنولوجيا، فضلاً عن المعدات العسكرية، لافتاً إلى أنه على الرغم من كون الصفقة الجديدة أعلى تكلفة (لم يكشف بعد عن قيمتها)، لكنها ستوفر لأستراليا غواصات متفوقة ذات قدرات أعلى.
وأوضح بيتر دين لـ"الشرق"، أن الحكومة الأسترالية قررت بدء برنامج استشاري مدته 18 شهراً، لمعرفة ما إذا كانت الغواصات ستُبنى على أراضيها، أم أنها ستكون هجينة ومصنوعة في الخارج، لافتاً إلى أن "بناءها في أستراليا سيستغرق وقتاً أطول، ومن المتوقع تسليم أول غواصة بين 2035 و2040".
وفي تقرير نُشر بالفرنسية أشار موقع "بزنس إنسايدر" الأميركي، إلى أن أستراليا تمتلك بالفعل أسطولاً من الغواصات يُعرف باسم "كولينز كلاس"، لكن تقنياتها عمرها أكثر من 20 عاماً، ولذلك تسعى منذ أكثر من عقد لتحديث أسطولها في مواجهة التهديد الصيني.
صفقة مُتعثرة وشكاوى كثيرة
حتى يونيو الماضي، كانت تعتقد فرنسا أن كل شيء على ما يرام، والتقطت العدسات صورة فوتوغرافية للرئيس إيمانويل ماكرون وهو يحيط رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون أثناء زيارة الأخير لباريس، إلا أن الصفقة بين كانبيرا وواشنطن ولندن تمت في إطار من السرية والكتمان.
وفي مقال بموقع شبكة "بلومبرغ"، اعتبر الكاتب المتخصص بالشؤون الاقتصادية دانيال موس، أن إلغاء أستراليا العقد الفرنسي، مقابل علاقات أقوى مع الولايات المتحدة وبريطانيا، يُعدّ أمراً شديد الأهمية، لكنه ليس مزلزلاً، وفق تعبيره.
وأشار موس إلى أن مشروع بناء أسطول الغواصات الذي بدأ عام 2016، عانى من صعوبات شديدة، إذ تعالت على مدى سنوات، شكاوى السياسيين في أستراليا من زيادة التكاليف وتأخير التنفيذ.
وحول تفضيل أستراليا للشراكة مع واشنطن على حساب فرنسا، اعتبر الكاتب أن هناك فرقاً كبيراً بين الغواصات التي يصنعها البلدان، إذ في حال كانت الغاية ردع الصين في المحيط الهادئ، فإن الغواصات ذات الدفع النووي تمنح ميزة تغيير قواعد اللعبة بأكثر مما توفره غواصات الديزل الفرنسية.
أما أهمية هذه "الطعنة" كما تصفها فرنسا، فتكمن وفقاً لموس، في تأكيدها على المشكلات طويلة الأمد المتعلقة بالولاءات الأمنية والاقتصادية التي تهيمن على منطقة آسيا والمحيط الهادئ "الباسيفيك"، حيث تتصاعد التعبئة العسكرية لبكين في بحر الصين الجنوبي، ما يُثير مخاوف أستراليا ودول أخرى، فضلا عن اتساع الشروخ بين الصين والولايات المتحدة".
واعتبر دانيال موس أن النكسة التي أصابت باريس، من الطبيعي أن تجعلها تشعر بالإحباط، لكنه في الوقت نفسها شكّك في أنها مصدومة، ولا سيما، كما يقول، بعد تعيين أستراليا بيتر دوتون وزيراً للدفاع في مارس الماضي، إذ يُعرف عن الرجل "تشدّده، ومواقفه الموالية بلا خجل للولايات المتحدة، والناقدة صراحةً نقداً عنيفاً للصين".