قبل عرض فيلمه الأحدث "الصف الأول" في مهرجان البحر الأحمر الذي يعقد حالياً في جدة، صعد المخرج الجزائري ليتسلم جائزة مجلة Variety، المخصصة لتكريم الرواد، والتي تمنح هذه المرة لكل من علواش والمنتج المصري محمد حفظي.
يأتي تكريم علواش تزامناً مع وصوله سن الثمانين ومع عرض فيلمه الطويل التاسع عشر، مكللاً مسيرة نصف قرن من السينما، بدأها في 1973 عقب عودته من الدراسة في فرنسا، وقراره بالبقاء في الجزائر لصنع أفلام جزائرية، تساهم في بناء البلد الكبير الذي يحاول النهوض والازدهار عقب عقود من الاستعمار.
المخرج الأكثر تأثيراً
حين تذكر السينما الجزائرية يتبادر إلى الذهن عدة أسماء، بعضها قديم وبعضها حديث، ولكن يظل مرزاق علواش هو الأكثر حضوراً، والأغزر انتاجاً، والأطول استدامة، وربما يكون الأكثر تأثيراً في هذه السينما على المستويين المحلي والعالمي.
19 فيلماً روائياً طويلاً صنعها علواش أحدثها "الصف الأول"، وهو فيلم اجتماعي كوميدي يستعرض يوماً من الحياة على أحد الشواطئ العامة التي ترتادها الأسر المتوسطة.
بشكل ما، يذكر "الصف الأول" بأول أعمال علواش وهو "عمر قتلتوا الرجلة" (وفي هجاء آخر "عمر قتلته الرجولة" وبالإنجليزية Omar Gatalto). هذا الفيلم البديع، المصنوع في1976، كان فتحا في مسيرة السينما الجزائرية، ليس فقط لمشاركته في العديد من المهرجانات الدولية مثل "كان"، وفوزه بالجائزة الفضية من مهرجان موسكو، ولكن أيضا لإنه، كما وصفه النقاد آنذاك: "أول فيلم يتجرأ على الحديث عن الحياة اليومية في الجزائر".
ذلك أن السينما الجزائرية قبلها كانت تركز فحسب على قضية الاستقلال وحرب التحرير، وفيما بعد أصبحت تركز على الارهاب الذي ضرب البلاد لأكثر من عشر سنوات.
ورغم أن مرزاق علواش هو أستاذ سينما الحياة اليومية الجزائرية بلا منازع، إلا أنه أيضاً أكثر من طرح القضايا السياسية الكبرى في أعماله، من التطرف الديني إلى العنصرية الأوروبية إلى التفاوت الطبقي الحاد وغيرها.
وعادة ما يستخدم علواش قالب فيلم المكان (الذي يدور داخل مكان واحد حول عدد كبير من الشخصيات) ليستعرض المجتمع كله من خلال الشرائح البشرية المختلفة.
وهو يفعل ذلك مجدداً في "الصف الأول"، ولكن الفكرة ونوع الحكايات ونبرة الفيلم مختلفة تماماً، ربما عن أي فيلم آخر صنعه من قبل مرزاق علواش.
خفة الحياة أم الفيلم؟
النبرة هنا كوميدية وخفيفة بشكل مدهش، وجيد، ولكن هذه الخفة تطال أيضا مستوى الكتابة والإخراج بشكل ملفت، ولو أن الفيلم لا يحمل توقيع علواش لكان من الصعب على أي مشاهد أن يتوقع أنه من إخراجه.
ولا أعلم لماذا تذكرت فيلم "سكوت هنصور" ليوسف شاهين، الذي صنعه بين عدد من الأفلام الجادة الطموحة، وأدهش الكثيرين بخفته المختلفة.
شاهين صنع "سكوت هنصور" في مرحلة متأخرة من مسيرته أيضاً، لعله شعر فيها بالملل من الجدية، وبأن السينما، قبل كل شئ، ترفيه وامتاع، وبأن القصص العادية أيضاً تستحق أن تروى.
تذكرت كذلك مقال إدوارد سعيد عن "الاسلوب المتأخر"، الذي درس فيه بعض الأعمال الفنية الأخيرة لأدباء وموسيقيين، وبين من خلاله تلك الرغبة في اللعب والمرح والتحرر الذين يسمون عادة هذه الأعمال المتأخرة.
هذه الرغبة في اللعب والنظر إلى العالم بعين التهكم الساخر والتحرر من القوالب الدرامية المعتادة نجدها كلها في فيلم "الصف الأول"، بالرغم من أنها لا تسفر في نهاية المطاف سوى عن واحد من أقل أعمال علواش أهمية (مثلما هو الحال مع "سكوت هنصور" أيضاً).
الصراع على الصف الأول
يدور "الصف الأول" خلال يوم واحد، يبدأ باستعداد أسرة بو دربالة، الأم وأبنائها الخمسة، للذهاب إلى الشاطئ، بينما يقرر الأب العائد متعبا من العمل كحارس ليلي، أن يبقى في المنزل لينام.
تصل الأم وأبنائها مبكراً لتحجز مكاناً في الصف الأول على البحر، ولكن سرعان ما يزدحم الشاطئ العام بعشرات الأسر، التي لا تملك بالطبع أن تذهب إلى الشواطئ الخاصة، ويرصد الفيلم صورة واقعية نابضة بالحياة للمصطافين، مازجاً بين الروائي المصنوع والتوثيقي ببراعة شديدة.
الزحام ليس مشكلة الشاطئ الوحيدة، ولكن هناك أيضا التلوث ورائحة الصرف الصحي التي تزكم الأنوف، واللصوص المتسكعين على الشاطئ وخارجه.
وزاد الطين بلة تلك الأسرة الجارة التي وصلت إلى الشاطئ، واحتلت الصف الأول من عائلة بو دربالة، بعدها يصل عشيق الأم، وهو مغن شعبي فاشل وصديق قديم للعائلة، ثم يصل الزوج الذي يحذره أحد الجيران من وجود علاقة بين زوجته والمغني.. وتتصاعد المواجهات لتنتهي بالعائلتين في قسم الشرطة عقب مشاجرة حادة بينهما.
أجمل ما في "الصف الأول" هو التفاصيل الصغيرة التي يلتقطها مرزاق علواش لحياة الطبقات الوسطى والدنيا، والكيفية التي تشكل بها شخصياتهم، وفقاً لوضعهم الطبقي وموقعهم داخل السلم الاجتماعي، إذ تتباهي العائلات على بعضها البعض بمجرد أي انتقال طفيف يحدث لها على هذا السلم، أو بين الصفوف المتراصة على الشاطئ.
ورغم أن كل شخصيات الفيلم تعيش داخل طبقة ومكانة إجتماعية واحدة تقريباً، إلا أنهم مشغولون بالتمايز والتفوق على بعضهم البعض، ولا يتذكرون القواسم المشتركة بينهم إلا عندما تحدث كارثة تحولهم إلى ضحايا تهديد أعلى.
دعوة للحب
يجيد مرزاق علواش أيضا تصوير الحياة الفكرية والسياسية للمجتمع والتعبير عن آراءه فيها من خلال الشخصيات، كما فعل مثلا في فيلم "السطح"، ولكن الفارق هنا أنها أكثر طبيعية وأقل اصطناعاً، وتقريباً يخلو الفيلم من الأحكام على أي شخصية، فكلها تدعو للتعاطف والفهم.
مع ذلك فما يسخر منه علواش أكثر من أي شئ آخر هو الإدعاء، وتركز هذه السخرية على شخصيتين بالتحديد هما الجارة المتغطرسة، والمغني الأحمق الشره الذي يحرص على تغطية رأسه بشعر مستعار.
ما لا يسخر منه علواش هو البراءة، التي تتمثل في الأطفال، وذلك الحب الساذج الذي يربط بين الابن والابنة المراهقين في العائلتين المتخاصمتين، وبين خادمة عائلة بو دربالة بحارس الشاطئ، وينتهي الفيلم بجرعة من المحبة والتسامي لهذه العاطفة البسيطة الجليلة.
قد يخلو فيلم "الصف الأول" من الدراما المعقدة أو الشخصيات ذات الأبعاد الرمزية، وربما يعاني في بعض الأحيان من الرتابة، ولكنه بالمجمل عمل ممتع ومبهج وواعي يليق بمسيرة المخرج الأكثر غزارة وتأثيراً في السينما الجزائرية.
* عصام زكريا