الفيلم السعودي "هوبال".. لا شيء على ما يبدو عليه!

time reading iconدقائق القراءة - 8
الملصق الدعائي للفيلم السعودي "هوبال" - المكتب الإعلامي للشركة المنتجة
الملصق الدعائي للفيلم السعودي "هوبال" - المكتب الإعلامي للشركة المنتجة
القاهرة-عصام زكريا*

مفاجأة بمعنى الكلمة ما حققه فيلم "هوبال" في شباك التذاكر السعودي، وتصدره للإيرادات بفارق كبير عن كل الأعمال العربية والأجنبية المعروضة، مفاجأة تستحق التوقف عندها، وتأمل منطقها وآلياتها المعقدة، من أجل فهم الكيفية التي تعمل بها بعض الأفلام مع الجمهور.

وليس معنى ذلك أن فيلم "هوبال" لا يستحق أن يكون جماهيرياً، أو أن ذوق الجمهور أقل من مستوى "هوبال"، وإنما يعني أن تلقّي الأفلام مسألة معقدة تتجاوز الحسابات، وربما ليس أغربها أن يكون الفيلم التالي في شباك التذاكر هو "الهنا اللي أنا فيه"، وهو عمل خفيف للغاية، يختلف في كل شيء عن "هوبال"!

بارقة أمل

أكثر ما يلفت النظر في نجاح "هوبال" أنه ينتمي إلى تيار السينما الفنية الجادة، التي تسعى للتقدير النقدي بمستواها الفني ولإحداث تأثير ثقافي بمضمونها، في مقابل الأفلام التي تستهدف إرضاء الجمهور فحسب عن طريق الضحك أو الرعب أو الأكشن.

وقد ثار النقاش في الآونة الأخيرة حول وضع السينما السعودية الوليدة بين هذين التيارين المتعارضين، وما يمكن أن يسفر عنه مستقبلًا من اتساع أو التئام الفجوة بينهما.

نجاح "هوبال" يعطي بارقة أمل لصناع الأفلام الفنية بأن بإمكانهم أيضاً الوصول إلى الجمهور، وإن كان، من ناحية ثانية، يضع عليهم عبئاً جديداً، إذ تُقارن أفلامهم بما حققه "هوبال".

وأعتقد أن هذا العبء سيكون ثقيلًا حتى على صناع "هوبال" أنفسهم، إذا لم يحقق فيلمهم التالي نجاحاً مماثلاً، فربما يسود الاعتقاد بأنه أقل شأناً وفناً من "هوبال". ولكن من ناحية ثانية يمكن أن يعطيهم، وزملاءهم، الثقة والأمل دوماً في أن صوتهم وفنهم يمكن أن يصلا إلى الناس.

مسيرة متميزة

"هوبال" هو الفيلم الطويل الثالث لمخرجه الشاب عبد العزيز الشلاحي، بعد "المسافة صفر" و"حد الطار"، وثلاثة من الأفلام القصيرة هي "عطوي"، و"كمان"، و"المغادرون".

هذه المسيرة تمتد لعشر سنوات تقريباً منذ عرض فيلم "عطوي" في مهرجان أفلام السعودية 2015، وفوزه بجائزة أفضل فيلم قصير، وهو ما يعني أن الشلاحي، رغم صغر سنه، أصبح بالفعل واحداً من رواد السينما السعودية الجديدة!

ما بين "عطوي" و"هوبال" تطور أسلوب عبد العزيز الشلاحي كثيراً واكتست موهبته بالمهارة التقنية والخبرة، من التأثر بالسينما الهوليوودية، خاصة نوعي "الرعب" و"أفلام الطريق" في "عطوي"، إلى التعبير الرمزي عن صراع الإنسان السعودي بين التقليد والحداثة والتحريم والحياة في "كمان"، إلى التعبير المباشر عن هذا الصراع في "المغادرون"، أول الأعمال التي شهدت تعاون الشلاحي مع كاتب السيناريو مفرج المجفل، وهو التعاون الذي استمر في أعمال الشلاحي اللاحقة.

ومن الواضح أن هذا التعاون يربطه خيط فكري وفني مشترك، خيط يمكن التعرف عليه والإمساك به عبر الأفلام الأربعة التي شهدت هذا التعاون.

في "المغادرون"، يلتقي على متن طائرة متجهة إلى الولايات المتحدة شاب مسافر لاستكمال دراسته بشاب متجه للقيام بعمل إرهابي، ويدور حوار بينهما يجسد الصراع الهائل الذي انتاب أجيالاً منذ تسعينيات القرن الماضي، هذه التسعينيات التي يعود إليها كل من الشلاحي ومجفل في "هوبال"، ليرصدا بدايتها وتفاقمها.

بين النسيان والتذكر

إذا كان "المسافة صفر" يدور حول رجل يحاول أن ينسى ماضيه الإرهابي، فإن "هوبال" يعود في الزمن ليذكر مشاهديه بالماضي الذي شكل أمثال هذا الرجل.

مع حرب الخليج الثانية التي أعلنت عن انهيار شعارات الوحدة العربية، باحتلال العراق للكويت، ثم احتلال أمريكا للعراق، وسقوط الاتحاد السوفيتي، وبحث "المجاهدين" عن هدف جديد، هو الحليف القديم (أمريكا)، شهدت المنطقة بأسرها، ثم العالم، سلسلة من العمليات الإرهابية، مصحوبة بمد ديني ودعوات انعزالية شديدة التطرف.

هكذا قرر الجد في "هوبال" أن يعتزل حياة المدنية بأسرها، وأن يصحب عائلته المكونة من أبنائه وزوجاتهم وأطفالهم إلى الصحراء المقفرة ليعتكفوا هناك انتظاراً لنهاية العالم وقيام الساعة.

يبدأ الفيلم بحفيدة صغيرة حكم عليها بالعزلة لإنها لم تطع الأوامر، لا أحد يجرؤ أن يدافع عنها سوى أمها وحفيد في مثل عمرها فقد أبيه عقب عصيانه لأوامر الجد.

ابن آخر تبرأ من الجد لإنه يعيش في المدينة مع زوجته وأطفاله حيث يعمل شرطياً مدنياً، أما الثلاثة الذين يقيمون مع الجد في الصحراء فيطيعونه طاعة عمياء، أو على الأقل هذا ما يبدو على السطح.

هشاشة الرجل.. صلابة المؤنث

ولكن لا شيء في "هوبال" يبدو على ما هو عليه، هذا البناء البطريركي الذي يبدو محكماً وصلباً ولا يمكن اختراقه، سرعان ما تظهر مدى هشاشته المروعة. عقب قيامه بشفط سم عقرب لدغ الحفيدة، يذهب الجد للاستشفاء بعيدًا لكنه يختفي ولا يعود. الأبناء: أحدهم متزوج سراً في المدينة، والثاني مدمن للمخدر، والثالث لا يتكلم مطلقاً منذ صدمته في وفاة شقيقهم. أما النساء اللواتي يظهرن في البداية منكسرات قليلات الحيلة، يكشفن بمرور الوقت عن صلابة وقوة هائلتين.

كما في "المسافة صفر" و"حد الطار"، يظهر انحياز وحب واضحان للأنثى ودلالاتها في مواجهة التصحر والتصلب والهشاشة الذكورية. ويتجلى ذلك في النهاية كما يتجلى في مشهد إصرار النساء على انتزاع لحظات من الغناء والبهجة في ليل الصحراء البهيم والكئيب.

تنويم مغناطيسي

رغم قلة الأحداث وطول الفيلم النسبي (يتجاوز الساعتين بقليل)، إلا أنه مشوق، منضبط الإيقاع، متسارع مع تصاعد الصراع. تتهادى الأحداث ببطء يتناسب مع طبيعة الصحراء والشخصيات، وتتكشف الأسرار واحداً تلو الآخر، وصولًا إلى الذروة الصادمة التي تبلبل المشاهد وتتركه حائراً بين الحزن والأمل.

يكشف عبد العزيز الشلاحي عن براعة في استخدام عناصره الفنية والتوفيق بينها: التصوير، التمثيل، المونتاج، والموسيقى التصويرية، لخلق حالة شعورية لها مفعول السحر أو التنويم المغناطيسي.

هناك نفس ملحمي في الفيلم يتسق مع المكان والبيئة، ورغم أن عنوان الفيلم، الذي يشير إلى صوت نداء راعي الجمال (مهنة الجد)، قد لا يكون له علاقة مباشرة بموضوع الفيلم، إلا أنه محمل بالدلالات الإيحائية، كما في مشهد حلم الصبي الأخير بالجد واقفاً فوق قمة جبل مصلوباً كتمثال، منتصباً كإمام يؤذن للصلاة، ينادي جماله الشاردة في الصحراء.

وبالرغم من أن أغلب مشاهد الفيلم تدور في الصحراء المفتوحة، يستطيع الشلاحي دوماً أن يجد زوايا وأطر تصوير ضيقة تظهر فيها الشخصيات محاصرة، سجينة، متشرذمة، كما لو أنها فتات نيزك ساقط، مثل التي يسأل عنها الحفيد.

وبشكل عام، باستثناء المؤثرات الخاصة الضعيفة في مشهد العقرب الذي يلدغ الفتاة وطائرات الحرب المحلقة، ومشهد يظهر فيه ظل الكاميرا المسيرة على سيارة تمضي، فإن التصوير الذي أداره محمود يوسف هو واحد من أبرز عناصر "هوبال"، ويساهم مع الموسيقى التصويرية التي وضعتها سعاد بوشناق في صناعة وتأكيد هذه الحالة الشعورية التي يبثها الفيلم.

تكامل العناصر

نجح "هوبال" لتكامل عناصره: الموضوع المهم الذي يخاطب الحاضر ويربطه بالماضي، الملحمية السينمائية المبهرة للعين، خاصة لجمهور نمت وتطورت ذائقته من خلال السينما العالمية الضخمة، فريق الممثلين المحبوبين من إبراهيم الحساوي، مشعل المطيري، ميلا الزهراني، وحتى الصغيرين حمدي الفريدي وأمل سامي. التصوير، الموسيقى، والسرد المضبوط إيقاعيًا، وربما أيضًا نهايته المفجعة التي تتناسب مع ذوق جمهور اليوم: حيث تضحى البراءة والشباب قربانًا على مذبح التغيير.

ربما لا يكون "هوبال" مسلياً أو مضحكاً مثل الأفلام التجارية المعتادة، ولكنه بالتأكيد مؤثر دون أن يقع في فخ الكآبة أو الخفة أكثر من اللازم.

وهذه الكيمياء الفريدة قلما تتكرر ومن الصعب أن تصنع عن عمد.

* ناقد فني

تصنيفات

قصص قد تهمك