
على مدار رحلته مع الكتابة بالضوء التي بدأت منذ الثمانينيات، لا يكاد يبتعد المكسيكي الأوسكاري الفونسو كوران (مواليد 1962)، عن استحضار قدر كبير من التبجيل والتفخيم الدرامي والتشكيلي لشخصية الأم، أو لكيانها المتفرد والجامع في الوقت نفسه لكيانات وتأويلات عديدة تخص الوجود والحياة والعالم.
العلاقة مع الأم وبالأم ومن خلال الأم، هي محور أساسي في العديد من سرديات كوران منذ فترة طويلة، الأم في تجليها الطفولي وفي حضورها الأنثوي وفي شموليتها الكونية، الأم المرتبطة بلحظة الخروج من الرحم المبطن براحة مخادعة، والرغبة الأوديبية العميقة التي تعكس أكثر الصراعات النفسية غموضاً والتباساً.
في العديد من تجاربه تلعب الأم/ المرأة الدور الرئيسي، مقابل فساد الأب، حضوره الباهت، غيابه المتكرر، انسحابه أمام المواجهات، أو تفشي غيرته من الابن الذي تقدسه الأم.
هل يمكن نسيان أفيش فيلمه الأخير Roma، ومجموعة أطفال الأسرة التي تنتمي للطبقة المتوسطة المكسيكية في السبعينيات، تحيط بالأم/ المربية التي فقدت جنينها! هل يمكن تجاهل مشهد دخول الأب بالسيارة الكبيرة إلى المنزل بكل حرص ودقة، مقابل دخول الأم بخشونة بعد أن هجر الأب العائلة وتركهم في عهدة الأم الكاملة.
ومن قبل "روما"، من الصعب أن ننسى رحلة ثيو فارون بطل فيلم Children Of Men، عن رواية بي دي جيمس، في محاولة إنقاذ آخر أم على كوكب الأرض، بعد أن أصيبت الحياة بداء يجعل الشباب يموتون في عمر الثامنة عشرة، دون أن تكون هناك فرصة لأي امرأة أن تحمل من جديد.
ولمن لم يشاهد أعماله المكسيكية وسط تجاربه الهوليوودية الشهيرة، فثمة فيلم رائع يحمل نفس النظرة الأوديبية التي حملها المصور الشاب بطل مسلسله Disclaimer إلى كاثرين الأم الفاتنة، وهو فيلم And Your Mom Too الذي أنجزه عام 2001، بعد أن قدّم تجربتين رائعتين: الأولى عن رواية "آمال عظيمة" لتشارلز ديكنز عام 1998، في معالجة زمنية حديثة عن الشاب الذي أحب فتاة تكبره في وجه آخر للمحبة الأوديبية، والثانية عن رواية "الأميرة الصغيرة" عام 1995.
يمكن أن نشير أيضاً إلى أن كوران بجانب ولعه بشخصية الأم في أعماله، لديه ولع شديد بشخصيات الأطفال، والنوع الدرامي المنصب على البلوغ Coming Of Age، واكتشاف العالم الواسع بعد الخروج من الرحم الآمن بكل مجازاته.
إنكار أم دون مسؤولية
عام 2015، أرسلت الكاتبة رينية نايت روايتها Disclaimer إلى كوران، قبل أن يتم نشرها في العام نفسه، وبعدما قرأها السينمائي المولع بهذا النوع من النصوص الذي تلعب فيه الأمهات دوراً رئيسياً في الصراع وكشف طبقات من خبايا النفوس، فكر أن يصنع منها فيلماً ملحمياً كبيراً، ثم جاءته الفرصة مع منصة Apple TV، أن يقدم عملاً عن الرواية في شكل مسلسل، استغرقت كتابة حلقاته السبع نحو عاماً كاملاً، واستغرق تصويره عاماً ونصف.
حافظ كوران على عنوان الرواية الأصلية كعادته في التعامل مع كل الروايات، التي أنجز عنها معالجات درامية، وانشغل بصيغة كتابة تعكس فهمه للمترادفات التي يشير إليها العنوان، فكلمة Disclaimer تعني إنكار أو تنصل، وتعني أيضاً في عالم الأدب "دون أدنى مسؤولية على الكاتب" في حال ما كان هناك تشابه بين أحداث نصه والواقع، وكل هذا الترادف نجده جزءاً من بنية السرد في المسلسل.
تفاجأ "كاثرين/ كيت بلانشيت" مذيعة التحقيقات الاستقصائية الناجحة، بمجموعة من الصور ونسخة من رواية تحكي عن واقعة تعرضت لها قبل 20 عاماً في إيطاليا، بطلها شاب يدعى "جوناثان"، تكتشف أمه العلاقة بعد سنوات، وتقرر الانتقام من "كاثرين"، فتبدأ حياتها في الانهيار عندما يطاردها الماضي ليهدم بيتها ويُحطم ابنها الوحيد وزواجها الطويل.
هكذا يمكن تلخيص المسلسل، لكنه في ما هو أبعد من ذلك، وأعمق، يبدو صراعاً دموياً بين اثنين من الأمهات يربط بينهما ابن أوديبي النزعة، فنان، منحرف، ويتورط فيه الآباء الباهتين الذين يحاكمهم كوران دائماً في الكثير من أفلامه.
تقاطعات الآباء
في المسلسل ثم تقاطع واضح بين "روبرت" زوج "كاثرين" والد ابنها "نيكولاس"، و"ستيفن" والد "جوناثان" زوج "نانسي"، حتى في تتابع المشاهد، حيث ينتقل من هذا الأب إلى ذاك متحرراً من السياق الزمني التقليدي، وذلك مقابل العلاقة الأوديبية وغير المباشرة التي تربط ما بين "نانسي" و"كاثرين" عبر الابن المفقود "جوناثان"، أو على حد قول ستيفن الأب "غياب (جوناثان) ملأ كل لحظة وكل مساحة وكل غرض".
عندما تعثر الأم على صورها التي سبق وأن صورها لها الابن، نجد الكثير من التكوينات ومواضع الإضاءة تشبه نفس التكوينات ومصادر النور التي شاهدنا من خلالها كاثرين للمرة الأولى من عينا "جوناثان"، وهي واقفة على البحر في إيطاليا، والتي سوف تعثر عليها "نانسي" فيما بعد، بين حاجيات ابنها الغارق، ومن هنا تنطلق خيالاتها فيما يخص العلاقة بين الابن والمرأة، التي شعرت الأم ان ابنها يستبدلها بها -ربما أرادت "نانسي" أن تنتقم من "كاثرين" ليس لأنها السبب في موت ابنها كما تصورت، ولكن لأنه أحبها بدلاً من الأم نفسها، والتي كانت تعلم كل شيء عن طبيعته المنحرفة، ورغم ذلك أظهرت للعالم من خلال روايتها أنه كان شاباً ذهبياً راح ضحية امرأة لعوب أو أم منحرفة.
يقول "ستيفن"، إن الأم وجدت صور "كاثرين" بالصدفة بينما كانت تبحث عن مزيد من الصور لها بكاميرا الابن، وهو ما يفسر سر العداء الشديد والتقارب حد التشابه بين صور "كاثرين" وصور الأم.
تمنى "كوران" لو أن الجمهور شاهد المسلسل على شاشة السينما، وهو على حق، فثمة تفاصيل بصرية مثل ظهور "كاثرين" للمرة الأولى من عينا "جوناثان" وكأنها مصنوعة من خيوط الشمس، بينما هو جالس على الرمل مسحوراً كإنسان في مواجهة قوة كونية خارقة.
وهناك الفارق اللوني بين الأصفر الذهبي لمشاهد "جوناثان"، و"كاثرين" في إيطاليا بكل سخونتها الحسية والجسدية، وبين زرقة وخفوت وبرودة حاضر الشخصيات في لندن بعد 20 عاماً، وقت أن قرر والد "جوناثان" أن يهدم حياة "كاثرين" بنشر الرواية المتخيلة التي كتبتها الأم الثكلي الراحلة.
هذه التفاصيل، لا شك تملك شاشة السينما بفخامتها الضوئية وبراحها الساحر، القدرة على إبرازها بما يليق ليس فقط بالجهد الإبداعي، ولكن حتى على مستوى الاستمتاع بالتلاعب الذي تصيغه تلك التكوينات والفوارق اللونية، حيث تأتي الصدمة الأخيرة التي تكشف أن كل ما شاهدناه عبر رواية الأم لم يكن سوى مخيلتها المحتقنة غيرة على الابن، وليس الواقع الحقيقي لواقعة اغتصاب ملعونة.
أضف إلى هذا، تلك الانتقالات بين الأزمنة عبر مؤثر بصري مونتاجي يشبه بؤرة عدسة الكاميرا، التي تضيق وتتسع لتظهر معالم الصورة أو تخفيها، والمأخوذة من روح كاميرا "جوناثان" الشاب، والتي كانت سبباً في لقاءه بـ"كاثرين"، والأداة الأساسية التي شكلت لذته وأفعاله، ثم أسلحة الهدم الذي مارسه الأب المكلوم ضد من تصور أنها كانت السبب في موت ابنه.
تقاطعات الزمن
يتداخل الزمن في المسلسل في حكي غير خطي، يتناسب والرغبة في رواية الحكاية دون قيود معلوماتية أو بناء تراكمي، فلدى الحكي غير الخطي عدة مهام يتم توظيفها بشكلٍ ناضج جداً في العمل، أولها أن تكسير الزمن يخلق حالة من عدم اليقين بالنسبة للمتفرج، لأن الذهن يحاول طوال الوقت إعادة ترتيب الأحداث وفق تصاعد واضح، ثم مع تداخل الأزمنة يبدأ الشك يتسرب إلى اللاوعي، وبالتالي تصبح الحقيقية معلقة في أفق السؤال الأهم: هل حدث كل هذا بالفعل؟.
ميزة أخرى للحكي غير الخطي بعيداً عن خلق حالة جذب للمتلقي، وهي استخدام تتابعات حرة يسهل استحضارها من أي مستوى زمني ووضعها في تتابع الدراما الخاص كما يراه المخرج، على سبيل المثال في الحلقة الرابعة نرى مشهداً لشعور الزوج روبرت بالغيرة ثم اتصاله بـ"نيكولاس" لمحاولة ممارسة دور الأب، لكي يستعيد ثقة الذكورية بنفسه، يليه مشهداً من زمن مختلف يتحدث فيه "ستيفن" الأب عن صعود "نانسي" إلى غرفة "جوناثان" وبقائها هناك حتى الموت، يليه مشهد مصارحة "جوناثان" لكاثرين أنه يرغب في السفر معها إلى لندن، وهو مشهد متخيل في الرواية التي تحكيها الأم من داخل الغرفة، ثم نعود إلى عزلة "نانسي" في غرفة ابنها، ثلاثة أزمنة مختلفة تأتي متتابعة بشكلٍ غير خطي، لكنها في الوقت نفسه تمثل خطة سردية محكمة تعتني بتحقيق توازي بين مشاعر الآباء تجاه أبنائهم، وتوازي آخر بين علاقة "نانسي" بابنها وعلاقة ابنها بـ"كاثرين" كما تصورتها هي، بالإضافة إلى خلق معنى شعري ونفسي يخص العلاقة الأوديبية التي يربط فيها الشاب بين المرأتين أو كلا الأمين.
وحين ندرك في النهاية أن الرواية من تأليف "نانسي" وأن ما حدث مع "كاثرين" كان مختلفاً جداً، نستعيد صوت الأب وهو يحكي عن هذه الفترة في حياة زوجته قائلاً: "كانت ثمة رائحة مقرفة تفوح من الغرفة، كانت مصابة بالسرطان"، هنا الرائحة المقرفة والسرطان ليسا المرض العضوي وأعراضه، بل هو سرطان الحب الهوسي للابن والرائحة المقرفة للرواية الكاذبة التي دونتها انتقاماً من أم أخرى أحبها ابنها هي "كاثرين".
ذاكرة الماء
استغل كوران إمكانيات مديري التصوير اللذان أنتجا له صورة مقلقة، موترة، غير معنية بالوضوح أو صفاء اللقطة فيما يخص الماضي المحكي داخل الرواية، كما في مشهد محاولة إنقاذ جوناثان لنيكولاس الصغير حيث تتلطخ الكاميرا بالماء ويصبح الرذاذ مؤثر بصري طبيعي يخلق حالة ضبابية، وعدم فهم أو رؤية لكامل الموقف والسياق.
يمجد مشهد الغرق لحظة القسوة وسؤالها المفتوح، هل مات "جوناثان" وهو يحاول إنقاذ "نيكولاس" أم تركته "كاثرين" يموت؟، وهل كانت على حق؟، المشهد كله يأتي وكأن الماء هو الذي يتذكر، وينتهي بالماء يحجب اللقطة، حتى يشعر المتلقي أنه يريد أن يمسح الشاشة بنفسه كي يستجلي الحقيقة، ثم أخيراً لقطة واسعة نرى فيها حياة "جوناثان" تنتهي مع غروب الشمس، تماماً كما كانت الشمس هي هالة الذهب التي منحته -حسب تصور أمه- سحر التكوين الجاذب لجسد "كاثرين" على الشاطئ.
ولا يتوقف تعاطي "كوران" مع الأم في حضورها الأشمل بالمسلسل عند حدود "كاثرين" و"نانسي"، بل يذهب وراء مشاعر "كاثرين" تجاه أمها حين يطردها "روبرت" من البيت، ولا تجد إلا فراش الأم المصابة بالخرف كي يأويها! الفراش الملئ برائحة العجوز وخواطر "كاثرين"، ولأول مرة نسمع فيها صوتها تعترف بحقيقة ما حدث على (فراش الأم) وهي دلالة تدعم رؤية كوران التبجيلية للأم.
تبوح "كاثرين" لأمها النائمة، بوح من أم إلى أم ، بكل ما حدث، وعلى عكس الصورة المسيحية المعروفة عن الاعتراف للأباء القساوسة، تعترف "كاثرين" للأم المقدسة النائمة.
ورغم غياب "نانسي"، فإن "ستيفن" الأب يرتدي سترتها الصوفية استحضاراً لروحها طوال الوقت، هو أب يحمل هوس الأم بداخله -السترة نفسها التي يحرقها في النهاية بعدما يكتشف الحقيقة- وهو توظيف شعري لحضور شخصية غائبة جسدياً يراد للمتفرج أن يظل على صلة مع أفكارها ومشاعرها حتى لو غابت كليةً عن الصورة.
يصل كوران أيضاً بذروة الصراع محققاً الانتقام من الأم بالأم، وذلك حين يدرك "ستيفن" هدف "نانسي" من أن تنتقم بصور "كاثرين" عبر الابن "نيكولاس"، وذلك بعرض صور أمه العارية عليه من أجل فسخ التعاقد الغريزي والأجمل والأرحم في العلاقة بين الكائنات، فلا يكتفي الأب بإيعاز من الشيطان الذي يسكن رواية زوجته بفضح "كاثرين" في عملها، وأمام زوجها! لكنه يقتل ابنها حياً بتدمير خواطره الهشة جداً، يمزق روحه بجعله يصف الأم في الرواية أنها عاهرة، قبل أن يكتشف أن الصفة تنطبق على أمه نفسها بطلة الرواية الغامضة.
أمي.. أمي
تجدر الإشارة إلى أن كلمة واحدة نطقها "نيكولاس" في غيبوبته، بعد جرعة المخدرات الزائدة هي التي أنقذته من براثن حقنة المطهر، التي كان "ستيفن" على وشك أن يحقنه بها، أمي.. أمي.. وهي أقصى آيات التبجيل، فالكلمة ليست فقط لها مفعول ساحر وملطف، بل يجعلها كوران هي لحظة التنوير التي تكشف للأب أن ما قالته "كاثرين" عن حقيقة اغتصابها على يد الابن هو الحقيقة، وأن زوجته دافعت عن ذكراه باتهام "كاثرين" في الرواية، وأن "نيكوس" الصغير لا يستحق أن يحرم الحياة في مقابل هذا، ولا أن تحرم أمه منه، فلا ألم في الحياة ولا الوجود مثل ألم حرمان أم من زهرة رحمها.
أخيراً نشير إلى أن المسلسل يتحرك بصوتين للسرد، أحدهما يتحدث إلى "كاثرين" نفسها، ليس صوتها ولا عنها بل إليها، صوت أنثوي يخاطبها، كأنه يحاكمها ـربما كان صوت الرواية اوصوت الأم "نانسي"- كأنه ضميرها أو الأنا الأعلى الذي يريد أن يواجهها بكل ما ارتبكت واقترفت، لكنه صوت مخادع في جوهره، خصوصاً عندما نكتشف حقيقة ما تعرضت له "كاثرين" بالفعل على يد "جوناثان".
أما الصوت الثاني، فهو صوت الأب المكلوم "ستيفن"، يتحدث بلسانه عن نفسه وابنه وزوجته وخصمته اللدود، ويفرق كوران بين ضميري المتكلم -الذي يتحدث عن معاناته- والمخاطب -الذي يحاكم بصوت خارجي- خالقاً تلاعب عميق لا يُكتشف سوى في الحلقة الأخيرة، عندما تعلن "كاثرين" في مواجهتها مع "ستيفن" "أريد لصوتي أن يسمع"، وكأن كوران يكسر الإيهام ويوجه الجملة للمتفرج الذي ظل أسير صوتين فقط طوال الحلقات، وها هو هنا يسمعنا صوت "كاثرين" أخيراً حاملاً الحقيقة، حقيقة الأم التي خشيت أن يتعرض ابنها للأذى، فقبلت أن تتعرض لاغتصاب عنيف وجلسة تصوير سيكوباتية، لمجرد أن ينجو ابنها من أي ضرر نفسي أو جسدي.
بل لا يلتفت كوران لبحث الأب عن حقيقة ما روته، ويكتفي بتحديقه في خلفية صورة من الصور العارية لـ"كاثرين" وهو يحرقها في النهاية، ليتبين أنها كانت على حق، فـ"نيكولاس" استيقظ بالفعل ووقف في الخلف يشهد ما يحدث لأمه وهو صغير، مما يعني أنها لم تكن في لحظة جموح وشهوة، بل خوف ورعب من أن يراه "جوناثان" الملتهب بالسادية فيقتله.
* ناقد فني